أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - الثقافة السائلة في المأساة السورية والكوردية














المزيد.....

الثقافة السائلة في المأساة السورية والكوردية


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 14:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حين وصف زيجمونت باومان عالمنا المعاصر بأنه عالم "سائل"، كان يقصد أن كل ما كان ثابتًا من قيم وهويات وعلاقات، أصبح هشًّا وقابلاً للذوبان، هذا التوصيف ينسحب بوضوح على الواقع السوري والكوردي، سواء في خطاب الحكومة السورية الانتقالية أو في الحراك الكوردي ممثلًا بالهيئة الكوردية المنبثقة عن مؤتمر قامشلو وبقوات قسد والإدارة الذاتية، حيث تحولت القضايا الكبرى إلى "مادة سائلة" تتحكم بها مصالح الدول والقوى، بدل أن تكون مبنية على ثوابت وطنية أو إنسانية.
في سوريا، لم تعد الوطنية مفهومًا صلبًا كما حلمت به الأجيال الأولى، بل تحولت إلى شعارات عابرة، تتغير بتغير مواقف القوى الإقليمية والدولية، المعارضة نفسها، ومعها حكومة الشرع التي كان يُفترض أن تكون نقيضًا للسلطة البائدة، ذابت في لعبة التحالفات والتبعية، فأصبح خطابها السائل انعكاسًا لسيولة الواقع، لا يعكس ثباتًا أخلاقيًا أو مشروعًا تحرريًا، أمام الداخل والخارج، تتظاهر هذه القوى بانفتاح ثقافي مرن، لكنها في الممارسة تتحرك وفق منطق الجمود الفكري وثقافة صلبة لا تقبل التغيير.
أما الكورد، فقد وجدوا أنفسهم في قلب هذه الثقافة السائلة؛ هويتهم السياسية تختزل مرة في شعار الفيدرالية، وأخرى في ذرائع "الوحدة الوطنية"، وثالثة في اتهامات الانفصال، وكل ذلك يعكس غياب اعتراف راسخ بكيانهم، وخضوع قضيتهم لتجاذبات آنية، وهكذا أصبح الكوردي محاصرًا بين هويات متناقضة مفروضة عليه من الخارج: مرة يُقدَّم كشريك استراتيجي، ومرة يُتهم كخطر انفصالي، وأحيانًا يُواجَه بسيولة فكرية توهم بالمرونة، وأخرى بجمود كارثي يعيد إنتاج الإقصاء.
الثقافة السائلة هنا ليست مجرد توصيف فكري، بل جرح يومي. فغياب الثبات يعني غياب الأمان، وتحويل الإنسان إلى كائن عابر في لعبة الأمم. السوري يعيش في واقع يتبخر فيه الحق والعدالة، ولا يبقى صلبًا إلا الموت، بينما الكوردي يواجه تذويب قضيته في البيانات الدولية والتفاهمات العارضة، فلا تجد شكلاً صلبًا تستقر فيه.
ومع ذلك، في قلب هذه السيولة تكمن جدلية أخرى؛ فإذا كانت القوى الإقليمية والدولية توظف هذه "السيولة" لإذابة الحقوق، فقد يكون الحل في أن يحول الكورد والسوريون هذه الحالة نفسها إلى طاقة مقاومة، فيستفيدوا من مرونتها لصياغة هويات جديدة وسياسات بديلة، عابرة للطائفية والجمود القومي، فالثقافة الصلبة أنجبت أنظمة الاستبداد، بينما قد تمنح الثقافة السائلة فرصة لبناء هوية إنسانية أكثر رحابة، إذا استُثمرت بوعي.
لقد أثبت التاريخ أن الإمبراطوريات الصلبة والأنظمة الدكتاتورية، مهما بدت قوية ومتماسكة، تنهار حين تفقد القدرة على التكيّف مع تحولات المجتمعات والشعوب، من الإمبراطوريات القديمة التي تهاوت بفعل جمودها الفكري، إلى الأنظمة الحديثة التي انهارت تحت ضغط التغيير، كانت الصلابة المفرطة هي نقطة ضعفها الكبرى. أما الشعوب التي تبنّت مرونة ثقافية وفكرية فقد استطاعت أن تنجو، وتعيد إنتاج نفسها، وأن تمهّد لولادة حضارات جديدة من تحت الركام.
والتمسك بالنظام المركزي اليوم ليس إلا استمرارًا لثقافة صلبة متحجرة، لم تنتج عبر التاريخ إلا الاستبداد وإعادة إنتاج القمع. في المقابل، فإن اللامركزية والنظام الفيدرالي يمثلان تجسيدًا للثقافة السائلة، التي تستوعب التعدد، وتفتح المجال أمام الحرية والمشاركة، وتبني مؤسسات قادرة على التكيف مع الواقع بدل الانكسار أمامه. وهنا تكمن الركيزة الحقيقية لأي مشروع وطني ناجح، أن تُبنى سوريا جديدة على مرونة الفيدرالية لا على صلابة المركزية، لأن الأولى تحمل بذور الإنقاذ، بينما الثانية لا تورث إلا التدمير.
على أن الحكومة السورية الانتقالية التي تتسلط عليها هيئة تحرير الشام ذات الثقافة الصلبة، والمدعومة بخطاب الطورانية العنصرية، لا تفعل سوى جرّ سوريا نحو الهلاك، عبر إعادة إنتاج منهجية استبداد أشد فتكًا من الماضي. وهذا الواقع يفرض على الشعب الكوردي، الذي عاش وتربى على ثقافة سائلة مرنة، أن يقف في وجهها بشكل عفوي، فالصراع في عمقه هو صراع بين ثقافتين، ثقافة الجمود الفكرية التي لا ترى سوى الإقصاء والقمع، وثقافة السيولة الذهنية التي تطمح إلى آفاق الحضارة والرقي، وإلى وطن نقي يحتضن كل مكونات الجغرافيا السورية.

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
16/8/2025



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السعودية وتركيا في الملف السوري من صراع الخلافة إلى رهبة الف ...
- في لحظة مفصلية كهذه لا مكان للرمادية أو الهروب خلف التفاصيل
- الفيدرالية بين التجربة الكوردية في سورية ودروس الأمم قراءة ف ...
- خيوط زيارة هاكان فيدان إلى دمشق
- نتائج عبثية الحكومة السورية الانتقالية وتحول مواقف الدول الك ...
- كونفرانس الحسكة ومؤتمر دمشق بين الوطن الجامع والدولة أحادية ...
- الفيدرالية واللامركزية السياسية في سوريا حدود لا تُمس
- رسالة إلى الشعب السوري، وقيادة قسد والإدارة الذاتية والحراك ...
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 3/3
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 2/3
- كوردستان مهد الأديان وتعددية الهوية الروحية 1/3
- كيف نُسقط مشروع الإلغاء العنصري ونبني سوريا التعددية؟
- هل هناك فخ في حوارات باريس؟
- الإسلام بريء منكم من داعش إلى الحكومة الانتقالية
- رد سياسي إلى وزارتي الخارجية الأمريكية والفرنسية بشأن المذكر ...
- هندسة الخداع الدبلوماسي في محاولة تحجيم الدور الكوردي بين با ...
- فيدرالية سوريا كابوس أنقرة وذريعتها لإحياء داعش بأسماء أشد ب ...
- الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب - الجزء السادس والأخير
- المبعوث الأمريكي بين التطبيع القسري وتجهيل الواقع السوري
- سوريا بين فيدرالية مأمولة وممثل أمريكي يجهل التاريخ


المزيد.....




- مصر.. فيديو ترويجي للمتحف الكبير يثير ضجة ووزير السياحة يحذر ...
- بيان مصري بعد تقارير عن مشاورات إسرائيلية لنقل سكان غزة خارج ...
- إندونيسيا تحتفل بعيد استقلالها الـ80.. هل تكون وجهة لسكان قط ...
- في لفتة إنسانية.. بوهايمين الأيرلندي يكرم -بيليه فلسطين- بقم ...
- ماكرون مقتنع بأن بوتين -لا يريد السلام- ويدعو إلى إشراك الأو ...
- خبير عسكري: المقاومة لا تزال قادرة على خوض معارك صعبة وزامير ...
- مهرجان الصيف يضيء بنغازي ويفتح نوافذها للعالم
- في ضيافة مورغان.. الشيال يفند مزاعم الاحتلال بشأن أنس الشريف ...
- -الساكتون عن دم غزة خونة- غضب بالمنصات على التجويع وبتر أطرا ...
- عاجل| روبيو: سنوقف مؤقتا برنامج منح التأشيرات للقادمين من غز ...


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود عباس - الثقافة السائلة في المأساة السورية والكوردية