|
حرية التعبير.. حق أم وهم؟
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 21:38
المحور:
حقوق الانسان
رغم أنّ كثيراً من الشعوب في دولٍ عديدة لا تملك الجرأة على المجاهرة بآرائها أو مواقفها السياسية والفكرية المخالفة لما تريده السلطات، فإنّ الحكومات ذاتها لا تملك الشجاعة لتعلن، في دساتيرها أو قوانينها أو بياناتها الرسمية، عداءها الصريح لحرية التعبير أو لحق المواطنين في إبداء آرائهم بحرية، بالقول أو بالكتابة. ولهذا تلجأ عادةً إلى التغطية القانونية عبر ما تسميه "تنظيم الحرية"، أي وضع منظومة من الشروط والقيود المتراكمة التي تُفرغ هذا الحق من مضمونه، فتجعل ممارسته شبه مستحيلة. فحتى إنْ التزم المرء بكل تلك "الاشتراطات القانونية"، فلن يجد مجالا للتعبير الحر إلّا في موضوعات سطحية لا تختلف عن نقاء ماء الشرب. ومن ثمّ، لا يمكن تعريف النظام الدكتاتوري، حتى جزئيا، بأنه نظام يرفض دستورياً أو قانونياً حرية التعبير، بلْ هو بالأحرى نظام يلتفّ حولها ليبطلها عملياً.
إنَّ ما يقتنع به الإنسان أو يؤمن به من أفكار لا يصحّ النظر إليه على أنه نتيجة مباشرة لممارسته لحرية التعبير؛ فالمعتقدات لا تولد من التعبير، بلْ من حرية أعمق هي حرية التفكير. وهذه الحرية لا تحتاج في أصلها إلى قوانين أو تشريعات كي تُمارَس، وإنْ كانت الدول وأنظمة الحكم تتحكم، كماً ونوعاً، في المعطيات والمعلومات التي يستند إليها الفرد في تكوين رؤاه وتطوير معتقداته السياسية والفكرية.
حرية التعبير ليست مجرد امتياز فردي، بلْ هي جدل متكامل بين الحق والواجب. فهي، من جهة، حقّ الإنسان في أنْ يعلن ما يراه ويؤمن به ويدافع عن موقفه بلسانه وقلمه، ومن جهة أخرى واجب الدولة في أنْ تضمن لهذا الحق وجوده الفعلي وتحميه من كل اعتداء. لكن، بوصفها "حقاً"، فإنها لا تُستمدّ من هبة سلطة ولا من منّة نظام، وإنما تُعترف بها وتُقرّ في صلب الدساتير والتشريعات. وعلى الدولة ألّا تكتفي بالإقرار الشكلي، بلْ أنْ تبذل جهدها في تهيئة الظروف التي تجعل ممارسة هذا الحق ممكنة وواقعية، بحيث يصبح احترامه وحمايته شرطاً جوهرياً لشرعية الحكم ذاته.
إنَّ حرية التعبير لا تُقاس بوجودها الشكلي، بلْ باتساع مجالاتها وشمولها لكل موضوع وقضية. فإذا فُرضت عليها الاستثناءات، أو استُبعدت منها ميادين بعينها، فإنها تفقد جوهرها وتتحول إلى حرية مبتورة، خالية من معناها الحقيقي. فالحرية، في أصلها، قائمة على مبدأ الإباحة والانفتاح الشامل، حيث لا يُحظر موضوع ولا يُستثنى مجال؛ إذْ إنَّ الاستثناء ذاته ينقض فكرة الحرية من جذورها، ويحوّلها إلى امتياز مُقيَّد لا إلى حقّ غير مُقيّد.
إنَّ مستوى حرية التعبير يرتبط ارتباطا عكسيا بدرجة الخوف المصاحب لممارستها؛ فكلما تعاظم الخوف انكمشت الحرية وتضاءلت، وكلما تراجع الخوف واتسع هامش الأمان، اتسعت معها دائرة حرية التعبير وازدادت فاعليتها.
إنَّ هذا الخوف ليس مجرد إحساس فردي، بلْ هو منظومة عقاب تُنتجها السلطة لترويض الإرادة. فهو يبدأ من أقصى أشكاله، كالرعب من القتل أو الإيذاء الجسدي، ليمتد إلى الخشية من السجن والتعذيب، ثم إلى التهديد بفقدان مصدر العيش عبر الطرد من العمل أو الفصل من الوظيفة. ويبلغ مداه حين يُوجَّه نحو العائلة نفسها، فتُستَخدم معاناتها وسيلة ضغط، لينغلق الطوق أخيراً في صورة عقوبات شتى تُحوِّل الخوف إلى بنية شاملة تُكبّل الفكر وتشلّ الفعل.
إنَّ تعريض مَنْ يمارس حقه في حرية التعبير لأيّ شكل من أشكال الخطر ليس مجرد انتهاك عابر، بلْ جريمة في جوهرها، لا يكتمل معنى العدالة إلّا بإنزال عقاب قانوني صارم بمرتكبها. ذلك أنّ غياب العقوبة لا يعني فقط إفلات الجاني من المساءلة، بل يعني عمليا إلغاء حرية التعبير نفسها، إذْ تتحول من حق مُعترف به إلى وهم شكلي يتبخر عند أول تهديد. فالحرية بلا حماية قانونية ليست حرية، بلْ قناع هشّ يخفي واقع القمع.
إنَّ حرية التعبير تبدأ من لحظة تكوّن الرأي ذاته، ذلك الموقف أو المعتقد الذي يتشكل في وعي الفرد أو الجماعة وينبثق في صمت الذهن، حيث لا سلطان للحكومات أو الدول عليه. فالفكر يولد حُراً في باطن الإنسان، ولا تملك السلطة أنْ تمنحه أو أنْ تصادره قبل أنْ يُقال. غير أنَّ المفارقة تكمن في العتبة الفاصلة بين الداخل والخارج: فالتحدي الحقيقي ليس في وجود الرأي، بلْ في خروجه إلى العلن، أي في قدرة صاحبه على أنْ يمنحه لساناً أو قلماً دون أنْ يقع تحت مقصلة الخوف أو قيد المنع. وهنا تتحول حرية التعبير إلى ميدان صراع بين حرية الفكر التي لا تُستعبد، وسلطة تسعى إلى وأدها عند لحظة الإعلان.
إنَّ حرية الفرد والمجتمع لا تُختبر في النصوص ولا في الوعود، بل في نتائجها العملية الملموسة. فالمعيار الحقيقي هو: كم من رأيك استطعت أن تُخرج من دائرة الصمت إلى العلن؟ وهل خرج صادقا وأمينا وموضوعيا كما تبلور في داخلك؟ ثم، إلى أي مدى وصل صوتك إلى الآخرين، وكم من الناس أتيح لهم الاطلاع عليه؟ والأهم من ذلك: كيف كان تفاعلهم معك، وما طبيعة الحوار الذي نشأ بينك وبينهم؟ فهناك، في حقل الممارسة والتأثير، يتحدد جوهر الحرية، لا في النصوص المجرّدة التي قد تبقى بلا حياة.
تتضح عواقب الخوف من التعبير الحر عن الرأي والمعتقد في النقص الواضح لما يُقال؛ فالإنسان كثيرا ما يبوح بجزء ضئيل فقط من موقفه الكامل. كما ينسحب أثر الخوف على أسلوب التعبير ذاته، فيتجنب التسمية الصريحة للأشياء، ويقلّل من التحديد والتعيين، ويلجأ إلى الرمزية والتورية. وقد يقوده الخوف إلى قول ما يتناقض مع رأيه الأصلي، مجاملةً أو مسايرةً لمن يملك القدرة على الإضرار أو المنفعة، وصولا إلى الانتهازية حيث يُمارس المرء ما يخالف قناعاته الحقيقية. هنا، يتحول الخوف إلى آلية سلطوية داخلية تُقيّد الفكر والكلمة، فتحوّل حرية التعبير من حق أصيل إلى ممارسة مشوّهة، يختفي فيها الصدق مع الذات ويغيب جوهر الحرية.
إن ممارسة الحق في حرية التعبير، بعيدا عن رهبة العقاب وفي أجواء تسودها الأمان والاطمئنان، تمثل الشرط الضروري لرفع منسوب الشفافية داخل المجتمع، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات. فحرية التعبير لا تكتفي بتمكين الإنسان من قول ما يعتقد، بل تكسر جدار "الباطنية" السياسية والفكرية، فتضيق الفجوة بين ما يظهره المرء وما يضمره داخله، ويصبح الظاهر والباطن متقاربين، متطابقين بما يعكس الجوهر الحقيقي للفكر والسلوك. في هذا المعنى، تتحول الحرية إلى أداة فلسفية لتحرير المجتمع من ازدواجية القول والفعل، ولإعادة المطابقة بين الكلمة والفكر.
يفقد الحق في حرية التعبير معناه إذا لم يكن متساويا بين جميع المواطنين. فدع الآخرين، حتى المخالفين لك أو المختلفين عنك، يعبّرون عن آرائهم بحرية تعادل حرية تعبيرك أنت عن رأيك. فأنت تقوّض حقك في التعبير بيدك إذا حاولت إجبار الآخرين على قبول رأيك أو تبنيه، أو إذا سعيت لاحتكار السيادة لرأيك على حساب حرية الآخرين.
إن النقاش والحوار والجدل يمثلون اللبنة الأساسية لولادة الأفكار وتطورها، فهم "أم الأفكار" حين تُراعى أصولهم وقواعدهم. غير أن ممارسة الحق في حرية التعبير لا تقتصر على السعي لإقناع الآخرين بوجهة نظرك؛ فالحرية لا تعني فرض الرأي أو السيطرة عليه، بل هي قدرة الفرد على الإعلان عن موقفه بصراحة وصدق، مع احترام حق الآخرين في الاختلاف. وهكذا، تتحول الحرية إلى ممارسة حقيقية للفكر، لا إلى أداة لإكراه الآخرين على القبول، مما يحافظ على التعددية ويضمن حيوية المجتمع الفكري.
وأرى أنَّ الأسلوب الأمثل، في مجمل الأحوال، هو أنْ تُعلن رأيك في الموضوع المطروح ثم تمضي، فلا يتحول الحق في التعبير إلى أداة للسيطرة أو الاستنزاف. يكفي القول ببساطة ، "هذا هو رأيي، والسلام عليكم"، باعتباره إعلاناً صادقاً عن موقفك، دون فرضه على الآخرين. ويُفضَّل أنْ يتم التعبير عن الرأي عند الدعوة لذلك فقط، إذْ إنَّ الوقت والجهد ثمينان، ومنح الحرية لصوتك دون الاستغراق في النقاش المستمر يحفظ كينونة الحق ويصون جوهر الحرية.
لا سرية للفكر، ولا يمكن حجز أي فكرة عن الوجود، فالفكر ذاته يولد ويتطور من خلال صراع داخلي مع نقيضه. هذا الصراع، في جوهره، لا يعني القضاء على النقيض نهائيا، بلْ التغلّب عليه مع الاحتفاظ به في الوقت نفسه كشرط لاستمرار الحركة الفكرية. فالفكر الذي يسعى إلى محو نقيضه يحكم على نفسه بالموت قبل أن ينضج، إذْ إنَّ التناقض ليس عدو الفكر، بلْ شرطه الحيوي، والحرية الفكرية لا تتحقق إلّا حين يُسمح لكل نقيض بالوجود والمواجهة في فضاء حيوي يثري الفكر ويصقله.
تأملوا أي فكر، وستجدون أنَّ معظم نصّه وتكوينه وتفاصيله ومحتواه وشكله نتج عن صراع خاضه أصحابه ضد نقائضه وأضداد أفكاره. فالأمم لا تحيا إلّا من خلال هذا الصراع المستمر بين الأفكار المتناقضة، إذْ هو المحرك الأساسي لتطور الفكر وازدهار الحياة الفكرية.
مع أنَّ حرية التعبير حق أساسي لا غنى عنه، فإنها تظل ناقصة إذا لم تصاحبها حرية التغيير. فالتعبير عن الرأي لا يكتمل إلّا إذا أتاح المجال للفعل المؤثر، وللمساهمة في تحويل الواقع نحو الأفضل، وفق تصور الغالبية العظمى للبشر. فالفكر الذي يقتصر على التفسير والتحليل دون القدرة على التغيير يصبح محض انعكاس داخلي، بلا قدرة على إحداث فرق في العالم، بينما الحرية الحقيقية تتجسد حين يُقرن القول بالفعل، ويصبح التعبير وسيلة لتحسين الواقع وجعل العالم أكثر عدلاً وجمالاً.
إنَّ حرية التعبير، رغم مكانتها المحورية، تظل ناقصة دون اقترانها بحرية التغيير. إذْ يصبح تفسيرنا للواقع عديم الجدوى إذا تعذّر علينا تحويله نحو صورة أكثر جمالاً وعدالة، كما تتطلع إليها الأغلبية البشرية.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى ينقشع ضباب التدين عن صراعنا الواقعي؟
-
الوطن ليس قطعة أرض فحسب،بل فكرة تتبدل!
-
مقال قديم لاينشتاين!
-
في الإرادة!
-
الحياةُ هي أيضاً فلسفة!
-
قليلٌ من الجدل!
-
جدار من وهم!
-
معارضون ضد الشعوب!
-
سعيُّ الرأسماليين وراء الربح الإضافي!
-
ما لا يدركه الليبراليون: الحرية كقناع للعبودية الحديثة!
-
العقد شريعة الأقوياء!
-
خرائط بلا أرض!
-
حين يتحزّب الجميع ضد الجميع!
-
ضحكتْ عليه امرأة !
-
تشوّه الإدراك لفكرة الانتقال الزمني!
-
ما يُتَعَمَّد تجاهله في دساتيرالعرب!
-
العمل!
-
امرأةٌ جميلةٌ!
-
فائض الغذاء وجوع المليارات!
-
مجتمع الحقوق!
المزيد.....
-
الأمم المتحدة: قرار احتلال غزة يؤدي لعمليات قتل جماعي للفلسط
...
-
-الأونروا- تعلن تفاقما خطيرا في سوء تغذية أطفال قطاع غزة
-
الأمم المتحدة: دعم العودة الطوعية لأكثر من ألفي أسرة إلى منا
...
-
إدارة ترامب تعاقب 4 قضاة بالمحكمة الجنائية الدولية.. ونتنياه
...
-
بريطانيا توقع اتفاقاً مع العراق لإعادة المهاجرين غير الشرعيي
...
-
لاجئون أفغان بلا مأوى في إسلام آباد بعد طردهم من منازلهم
-
الأمم المتحدة: قرار الاحتلال باحتلال مدينة غزة سيؤدي إلى عمل
...
-
واشنطن تصدر عقوبات على 4 مسؤولين بالمحكمة الجنائية الدولية
-
الأمم المتحدة تدين تصاعد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية
...
-
رايتس ووتش تتهم سلطات سريلانكا بقمع أسر المختفين قسرا وتعزيز
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|