|
متى ينقشع ضباب التدين عن صراعنا الواقعي؟
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 00:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بقلم : د . ادم عربي
رغم تعددها وارتفاع أعداد ضحاياها، لا وجود فعلي لما يمكن تسميته حروباً دينية خالصة، أي تلك التي يكون الدين فيها الهدف الأوحد والدافع الجوهري. فحتى لو آمن معظم المشاركين، الذين يُساقون وقوداً لتلك الصراعات، بأنها معارك من أجل العقيدة، فإنَّ حقيقتها تبقى مرتبطة بمصالح دنيوية ومكاسب أرضية، تُغلّف بلباس سماوي يمنحها مسحة من الشرعية والقداسة. وهكذا يتضح في كل مرة أنَّ ما يبدو صراعاً من أجل السماء ليس سوى انعكاس لصراع أرضي بحت؛ إذْ ليست السماء سوى مرآة تعكس ما يحدث في الأرض، والمرآة، مهما بلغت نقاوتها واتساعها، لا تُظهر إلّا ما يُعرض أمامها. من هنا، ينبغي أنْ نميّز بين الصورة المنعكسة والأصل الذي يولّدها.
لقد كررتُ غير مرة أنّ مأزقنا الأكبر، نحن أبناء الشرق، يكمن في نزوعنا المستمر إلى تفسير كل صراع واقعي نخوضه ، ذاك المتجذر في مصالحنا الملموسة وحاجاتنا الأرضية ، بلغة الدين ورموزه. فعندما نواجه طاغيةً، سرعان ما نُحوّل المواجهة إلى معركة بين الخير المقدس والشر الملعون ، أو بين المؤمن والكافر ، وحتى صراعنا الحقيقي مع القوى الإمبريالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ، لا نتردد في تأويله ضمن قاموس ديني إسلامي، فنصوره وكأنه جولة جديدة من الحملات الصليبية. إنّ التمادي في هذه الرؤية لا يؤدي إلّا إلى مفاقمة عداوتنا لذواتنا ولمصالحنا الفعلية، ويحول دون امتلاكنا الوعي الحقيقي بحقوقنا، ذلك الوعي الذي وحده يمكّننا من الدفاع عنها والانتصار لها بفاعلية.
عندما أحكم مقاتلو حزب الله الشيعي اللبناني سيطرتهم على عدد من أحياء بيروت الغربية ذات الغالبية السنيّة على ما أذكر ، علّق أحد قادة قوى الرابع عشر من آذار على المشهد قائلاً بعبارة لافتة: أهل بيروت الغربية خلدوا إلى النوم مع عمر بن الخطاب، ليستيقظوا على علي بن أبي طالب!
تأملوا هذا القول ملياً، فبين ثناياه تكمن دلالات ومعانٍ تمنح نقاشنا حول الحروب الدينية بعداً إضافياً من الأهمية. فوفق هذه الصورة، يبدو حزب الله وكأنه يتزعم معسكر علي، الذي يضم إلى جانبه حركة أمل، وتيار ميشال عون المسيحي الماروني، إضافة إلى بعض القوى والشخصيات السنيّة المتفرقة. في المقابل، يتشكل معسكر عمر تحت راية تيار المستقبل، ووليد جنبلاط، وسمير جعجع، ومعهم قوى وشخصيات لبنانية أخرى، في صراع يُصوَّر وكأنه أبدي، بلا نهاية.
في لبنان، نادراً ما نجد تياراَ حزبياً أو سياسياً أو فكرياً يخلو تماماً من البصمة الطائفية الدينية، حتى لدى القوى التي ترفع شعارات اليسار أو العلمانية أو القومية. فبعض من الطائفية يتسلل دائماَ إلى بنيتها التنظيمية وقواعدها الشعبية. بلْ إنَّ المقاومة الفلسطينية في لبنان خلال سنوات الحرب الأهلية وُصفت حينها بأنها جيش السنّة . وإلى هذا الحد يتجذر المنطق الطائفي، حتى لو اختلف لبنانيان حول مسألة علمية بحتة كعدد ذرات الهيدروجين في جزيء الماء ، فسيفسر كثيرون خلافهما على أنه انعكاس لانقسام طائفي عميق.
ليس ثمة عصبية أعمى للبصيرة وأقسى في تغذية وحشية الصراع من العصبية الدينية. فإذا ما اشتعل أوارها، سرعان ما تُفضي إلى قلب الموازين على نحو كارثي ، إذْ يغدو العدو الأكبر والأخطر حليفاً مقرّباً، بينما يُنظر إلى الأخ أو الصديق وكأنه عدو لَدود أو شيطان منبوذ.
عندما وقع تفجير الجامعة المستنصرية في بغداد في عهد صدام حسين ، بادرني أحد المتعصبين ضد الشيعة بسؤال: هل كان الضحايا من الشيعة أم من السنة؟ فأجبته قائلاً: لقد كانوا جميعاً عرباَ. لكن ما إنْ لفظت جوابي حتى أدركت أنَّ كلماتي لم تمس مقصده، وأنَّ سؤاله في نظره ظلَّ بلا جواب!
حين عدّلت جوابي وقلت له: إنهم جميعاً مسلمون، لم يتردد في الاستشهاد بنصوص دينية وفقهية ليبرهن أنَّ الشيعة خارج دائرة الإسلام أصلاً. كان جلياً ميله إلى نزع صفتهم الإسلامية، على الرغم من أنَّ تدينه هو نفسه يفتقر إلى أبسط أركانه، من صلاة وغيرها من الفرائض. إنها العصبية الدينية في أوضح صورها ، تُعطّل العقل، وتدفع صاحبها إلى تمجيد معاوية، وكأننا قد ارتددنا ، حتى في السياسة ، إلى زمنه. فكيف يمكنني إقناعه بأننا نحيا في عصر مختلف وعالم آخر؟ وهو لا يرى في مشهد إعدام صدام حسين سوى إعادة تمثيل لقطع رأس يزيد بن معاوية، ويندفع، بنزعة وحشية، إلى استعجال قدوم المهدي المنتظر، كما لو كان ينتظر سقوط السماء فوق الأرض!
أليست مفارقة مأساوية تُثير السخرية أنْ يطالبنا واقعنا المعاصر ببناء كيان قومي متماسك وقوي، فإذا بنا نرتدّ إلى غساسنة ومناذرة جدد؟ لقد رأيت وسمعت ما يكفي لأكفر بكل سياسة تتدثر برداء الدين وبكل من يتحدث باسمها. فحين يُزج بالدين في ميدان السياسة، لا تكون النتيجة سوى فتح الأبواب على مصاريعها أمام قوى العداء للأمة العربية كي تشن حرباً على وجودها القومي، وعلى حقها في أنْ تحيا حياة سياسية وفكرية وثقافية ديمقراطية حقيقية. إنَّ صراعنا الديني لا يفتك بأحياء الأمة فحسب، بلْ يستدعي أيضاً أشباح الماضي ليُكرّس في حاضرنا سلطة الأموات على الأحياء. وكأنَّ معاوية ويزيد والحسن والحسين قد عادوا اليوم ليتناحروا بسيوفهم، في معركة تُدار ، في حقيقتها ، ضد الأعداء مثل الولايات المتحدة، والأنظمة العربية الدكتاتورية وغيرهم .
التعصب، بأشكاله كافة وتجلياته المتعددة، مرفوض وممقوت، ولا يجرؤ أحد على الأقل في خطابه العلني أنْ يمتدحه أو يبرر له. حتى المتعصبون أنفسهم يلعنونه في وضح النهار، ثم يتضرعون إليه ويقدّسونه في عتمة الليل. وكثير من أبناء مجتمعنا، حين تعصف الأزمات التي تكشف المعدن الحقيقي لقوى المواطنة لديهم، يرتدّون إلى هويات ما كان لها أنْ تبقى في وعي الأمم الحية والمتقدمة والديمقراطية إلّا كقطع معروضة في المتاحف. ومن واقع تجربتي الشخصية، أرى أنَّ الكثير من مثقفينا، على اختلاف اتجاهاتهم: قوميين، علمانيين، يساريين، ديمقراطيين أو ليبراليين، ينكشفون في مثل هذه الامتحانات القاسية ، فيعودون إلى عبادة الأوثان نفسها؛ وكأن وعيهم الحديث، الذي يفاخرون به في أوقات الرخاء، لم يكن سوى قشرة هشة لا تقوى على الصمود طويلاً أمام صلابة الواقع.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوطن ليس قطعة أرض فحسب،بل فكرة تتبدل!
-
مقال قديم لاينشتاين!
-
في الإرادة!
-
الحياةُ هي أيضاً فلسفة!
-
قليلٌ من الجدل!
-
جدار من وهم!
-
معارضون ضد الشعوب!
-
سعيُّ الرأسماليين وراء الربح الإضافي!
-
ما لا يدركه الليبراليون: الحرية كقناع للعبودية الحديثة!
-
العقد شريعة الأقوياء!
-
خرائط بلا أرض!
-
حين يتحزّب الجميع ضد الجميع!
-
ضحكتْ عليه امرأة !
-
تشوّه الإدراك لفكرة الانتقال الزمني!
-
ما يُتَعَمَّد تجاهله في دساتيرالعرب!
-
العمل!
-
امرأةٌ جميلةٌ!
-
فائض الغذاء وجوع المليارات!
-
مجتمع الحقوق!
-
طريقةُ فهم المفاهيم!
المزيد.....
-
فيديو.. إصابات في إطلاق نار في حي يهودي في نيويورك
-
يسرائيل هيوم: أنباء عن 7 مصابين في حادث إطلاق نار بحي يهودي
...
-
3 قتلى في إطلاق نار بحي يهودي في نيويورك
-
راهبة أمريكية: حماس حركة مقاومة تدافع عن شعبها.. والمسيحيون
...
-
الاحتلال يغلق مدخل سلفيت الشمالي
-
الحاخام الأكبر لليهود السفارديم في -إسرائيل- يهاجم نتنياهو و
...
-
كنائس بروتستانتية تدعو الحكومة الهولندية للاعتراف بدولة فلسط
...
-
الرئيس السوري يؤكد دور الكنيسة في ترسيخ أواصر المواطنة والوح
...
-
إيهود باراك: نتنياهو يكذب كما يتنفس.. وترامب لا يفهم شيئا في
...
-
راهبة أميركية: حماس حركة مقاومة والمسيحيون يعانون بسبب الاحت
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|