ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 16:11
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لماذا الاشتراكية؟
بقلم: ألبرت آينشتاين
(نُشر لأول مرة في مجلة Monthly Review – مايو 1949)
هل من المناسب لشخص ليس خبيراً في القضايا الاقتصادية والاجتماعية أنْ يُعبر عن آرائه في موضوع الاشتراكية؟ أعتقد، ولعدة أسباب، أنَّ الإجابة هي نعم.
لنبدأ بمسألة المعرفة العلمية. قد يبدو أنه لا توجد فروق منهجية جوهرية بين علم الفلك والاقتصاد: العلماء في كلا المجالين يحاولون اكتشاف قوانين عامة مقبولة، تفسر وتربط بين مجموعة من الظواهر. لكن في الواقع، هناك اختلافات منهجية مهمة. فالتوصل إلى قوانين عامة في الاقتصاد أمر صعب، لأنَّ الظواهر الاقتصادية غالباً ما تتأثر بعدة عوامل يصعب تقييمها بشكل منفصل. إضافة إلى ذلك، فإن الخبرة التي راكمتها البشرية منذ بداية ما يسمى بالعصر "المتحضر" قد تأثرت بعوامل ليست اقتصادية بحتة. فمعظم الدول الكبرى في التاريخ نشأت من خلال الغزو، وكان الغزاة يفرضون أنفسهم كطبقة مميزة، يسيطرون على الأرض ويحتكرون السلطة، وينشئون طبقة كهنوتية من بينهم لتتحكم في التعليم وتكرس تقسيم المجتمع، وتغرس في الناس منظومة قيم تحدد سلوكهم الاجتماعي، غالباً دون وعي منهم.
لكن التراث التاريخي لا يزال حياً؛ فلم نتجاوز بعد ما سماه ثورستين فيبلن "المرحلة الافتراسية" من تطور البشرية. وما نرصده من حقائق اقتصادية ينتمي لتلك المرحلة، وقوانينها لا يمكن تطبيقها على مراحل لاحقة. وبما أنَّ الهدف الحقيقي للاشتراكية هو تجاوز هذه المرحلة الافتراسية، فإنَّ علم الاقتصاد، بصورته الحالية، لا يستطيع أنْ يوضح لنا كثيراً عن المجتمع الاشتراكي المستقبلي.
ثم إنَّ الاشتراكية تهدف إلى غاية اجتماعية أخلاقية، بينما العلم لا يخلق الأهداف ولا يغرسها في الناس، بل يقتصر دوره على توفير الوسائل لتحقيق أهداف يضعها أشخاص ذوو مثُل عليا. وهذه الأهداف، إذا كانت حية وقوية، تتبناها جموع الناس الذين يساهمون، ولو بلا وعي كامل، في التطور البطيء للمجتمع. لذلك يجب ألا نُفرط في تقدير العلم حين يتعلق الأمر بمشكلات البشر، وألا نفترض أنَّ الخبراء وحدهم لهم الحق في مناقشة قضايا تنظيم المجتمع.
هناك أصوات كثيرة تقول إنَّ المجتمع البشري يمر بأزمة خطيرة تهدد استقراره. في مثل هذه الأوضاع، يشعر الأفراد باللامبالاة أو حتى العداء تجاه الجماعات التي ينتمون إليها. ولتوضيح ما أعنيه، أذكر حواراً دار بيني وبين رجل مثقف حول خطر نشوب حرب جديدة قد تُهدد بقاء البشرية، فأوضحت أنَّ الحل هو قيام تنظيم فوق قومي، فقال لي بهدوء: "ولماذا أنت معترض بشدة على اختفاء الجنس البشري؟". أعتقد أنَّ أحداً قبل قرن لم يكن ليقول مثل هذا الكلام بسهولة. إنه تعبير عن عزلة ووحدة مؤلمة، حالة يعيشها كثير من الناس اليوم. فما السبب؟ وهل هناك مخرج؟
الإنسان كائن فردي واجتماعي في آن واحد. كفرد، يسعى لحماية نفسه وأسرته، وإشباع رغباته، وتطوير مواهبه. وككائن اجتماعي، يسعى إلى نيل الاعتراف والمودة، ومشاركة الآخرين أفراحهم وأحزانهم، وتحسين ظروف حياتهم. توازن هذين الدافعين، اللذين قد يتعارضان، يحدد شخصية الفرد وقدرته على المساهمة في رفاهية المجتمع. صحيح أنَّ الوراثة تحدد جزءاً من قوة هذه الدوافع، لكن البيئة الاجتماعية والثقافية هي التي تشكل الشخصية النهائية، من خلال العادات والتقاليد وأنماط السلوك السائدة.
الاعتماد المتبادل بين الفرد والمجتمع حقيقة طبيعية لا يمكن إلغاؤها، كما هو الحال عند النمل والنحل. لكن على عكس هذه الحشرات التي تحكم حياتها غرائز جامدة، فإنَّ النمط الاجتماعي للبشر مرن وقابل للتغيير، بفضل الذاكرة واللغة والقدرة على الإبداع. وهكذا يستطيع الإنسان التأثير في حياته عبر سلوكه الواعي، ويشارك التفكير والإرادة في صياغة مصيره.
الإنسان يرث تركيبة بيولوجية ثابتة، لكنه يكتسب، أثناء حياته، تركيبة ثقافية من مجتمعه. وهذه الأخيرة قابلة للتغيير، وهي التي تحدد علاقته بالمجتمع إلى حد كبير. وقد أثبت علم الأنثروبولوجيا الحديث أنَّ السلوك الاجتماعي يختلف اختلافاً كبيراً باختلاف الأنماط الثقافية السائدة، مما يمنح الأمل في أنَّ مصير البشر ليس حتمياً بالدمار أو الاستسلام لقسوة المصير الذاتي الصنع.
إذا أردنا معرفة التغييرات اللازمة في بنية المجتمع واتجاهه الثقافي لجعل الحياة أكثر إرضاءً، علينا أنْ نعي أنَّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها، مثل الطبيعة البيولوجية للإنسان، أو الحقائق التي فرضها التطور التكنولوجي والديموغرافي. ففي عالم مكتظ نسبياً، مع تقسيم عمل شديد و إنتاج مركزي، لم يعد ممكناً الاكتفاء الذاتي الصغير كما في الماضي. يمكن القول إنَّ البشرية أصبحت الآن مجتمعاً عالمياً للإنتاج والاستهلاك.
أزمة عصرنا، في رأيي، تكمن في العلاقة بين الفرد والمجتمع. فالفرد يدرك أكثر من أي وقت مضى اعتماده على المجتمع، لكنه لا يشعر بذلك كعلاقة إيجابية أو رابطة عضوية، بل كتهديد لحقوقه أو حتى لوجوده الاقتصادي. ويؤدي هذا إلى تضخيم الدوافع الأنانية، وإضعاف الدوافع الاجتماعية، مما يخلق شعوراً عامّاً بانعدام الأمن والوحدة وفقدان بساطة الحياة.
أما السبب الجذري للشرور، فهو الفوضى الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي. نحن أمام مجتمع إنتاج ضخم، أفراده يسعون بلا توقف لسلب ثمار عمل بعضهم البعض، لا بالقوة، بل وفق القوانين. ويملك أصحاب وسائل الإنتاج سلطة شراء قوة عمل العمال، الذين ينتجون سلعًا تصبح ملكًا للرأسمالي. لكن أجر العامل لا يُحدد بقيمة ما ينتجه، بل بحاجته الدنيا وبالعرض والطلب على العمل.
ويميل رأس المال الخاص إلى التمركز في أيدٍ قليلة، بفعل المنافسة والتطور التكنولوجي، مما يخلق أوليغارشية اقتصادية لا يمكن حتى للمجتمع الديمقراطي أن يسيطر عليها بفعالية، لأنها تتحكم في السياسة والإعلام، وتؤثر على الرأي العام، وتفصل الناخب عن المشرّع.
يتميز الاقتصاد الرأسمالي بملكية خاصة لوسائل الإنتاج وبعقود عمل "حرة"، لكنه في جوهره موجه نحو الربح لا نحو تلبية حاجات الناس. هناك دائماَ جيش من العاطلين، والخوف من فقدان العمل قائم باستمرار، والتقدم التكنولوجي يزيد البطالة بدل تخفيف العمل. ويؤدي التنافس غير المحدود إلى إهدار هائل للجهد وإلى إضعاف الوعي الاجتماعي.
أعتبر أنَّ هذا الإضعاف للفرد هو أسوأ شرور الرأسمالية، ويظهر بوضوح في نظام التعليم الذي يغرس التنافس المفرط وعبادة النجاح المادي.
أرى أنَّ السبيل الوحيد للتخلص من هذه الشرور هو إقامة اقتصاد اشتراكي، يمتلك فيه المجتمع وسائل الإنتاج ويخطط استخدامها وفق احتياجاته. يوزع العمل بين القادرين، ويضمن لكل إنسان سبل العيش، ويوجه التعليم نحو تنمية الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية بدل تمجيد السلطة والنجاح الفردي.
لكن علينا أنْ نتذكر أنَّ الاقتصاد المخطط ليس بالضرورة اشتراكية؛ فقد يصاحبه استعباد كامل للفرد. ولتحقيق الاشتراكية، يجب إيجاد حلول لمشكلات سياسية واجتماعية صعبة، أهمها كيفية منع البيروقراطية من أنْ تصبح قوة متسلطة، وضمان حقوق الفرد، ووجود توازن ديمقراطي يحد من سلطة الجهاز الإداري.
إنَّ وضوح الأهداف والمشكلات الاشتراكية أمر بالغ الأهمية في عصرنا الانتقالي. وبما أنَّ النقاش الحر في هذه القضايا يخضع اليوم لمحرمات قوية، فإنَّ تأسيس هذه المجلة يعد خدمة عامة جليلة.
رابط المقال:
https://monthlyreview.org/2009/05/01/why-socialism/
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟