|
معارضون ضد الشعوب!
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 18:47
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
بقلم : د . ادم عربي
ما يُسمّى بالربيع العربي لمْ يكنْ، في جوهره، سوى انتفاضة شعبية ضد الاستبداد؛ ذلك الاستبداد الذي يبدو، في صورته السياسية المباشرة، محصوراً في سلطة الحاكم أو النظام أو الحكومة. غير أنَّ اختزال الاستبداد في هذا الشكل الضيق يُغفل وجهه الأعمق والأخطر ؛ إنه منظومة ثقافية، وتكوين تربوي، وسلوك اجتماعي مترسّخ. ومن المفارقة الصارخة أنَّ هذا الشكل الأوسع من الاستبداد لا يقتصر على الأنظمة الحاكمة، بلْ يتغلغل أيضاً في جسد المعارضة نفسها؛ في أحزابها، وقواها، وقادتها، بلْ وحتى في أولئك الذين يرفعون لواء مقاومة الطغيان. فهل نُسقط الاستبداد بإزاحة مستبد، أم علينا أنْ نخلخل بُناه الراسخة فينا جميعاً؟
رغم ما أفرزته لحظة الربيع العربي من زخم شعبي وثوري ديمقراطي، إلّا أننا، في المجمل، ما زلنا عاجزين عن بلورة معارضة عربية حقيقية تُجسِّد في خطابها ومطالبها وشخصياتها الثنائيةَ الضرورية لأي مشروع تحرري ؛ العداء الصارم للاستبداد من جهة، والموقف الواضح من أعدائنا القوميين من جهة أخرى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وحليفتها الأوثق، والولايات المتحدة، بوصفها القوة الإمبريالية الأكبر في هذا العالم. فهل يمكن لمعركة ناقصة، تُغضّ الطرف عن أحد هذين الوجهين، أنْ تفضي إلى تحرر فعلي؟
توضيحاً لهذا الأمر وتفكيكاً لأبعاده، يمكن القول إنّ معظم قوى المعارضة العربية، في جوهرها، ليست نقيضاً حقيقياً للاستبداد، بلْ امتدادٌ له بشكل أو بآخر. فبعضها يُشبه الحاكم المستبد في بنيته العميقة، يُبطن عداءً مستتراً للديمقراطية وقيمها العالمية، ويُظهر منها النزر اليسير فقط حين تقتضي الضرورة. والبعض الآخر، وإنْ تزيَّن بلبوس "الليبرالية"، ينتهي به المطاف إلى التعايش أو التماهي مع مواقف قومية ظاهرها وطني، لكن باطنها يصبّ في مصلحة أعدائنا القوميين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ومشروعها. من هنا، فإنّ الشعوب العربية، إنْ أرادت لربيعها الثوري أنْ يُزهر فعلاً، فعليها أنْ تتوقّى ليس فقط بطش المستبدّين، بلْ أيضاً خديعة الليبراليين المزيّفين داخل صفوف معارضتها.
إنّ المعارضة المستبدّة لا تتجلى أوضح مما تتجلى في تيارين بعينهما ؛ اليسار القومي واليسار الشيوعي الستاليني. فاليسار القومي، رغم ادعائه التقدّمية، لا يخفي عداءه العميق للديمقراطية وللآخر المختلف، سواء أكان جماعةً أم رأياً أم فكراً. في العمق، هو أقرب إلى الفاشية منه إلى أي مشروع تحرري، حتى وإنْ حافظ على قشرة يسارية. أمّا فيما يخصّ موقفه من أعدائنا القوميين، فقد ظلّ سجين أساليب عقيمة لا تُنتج سوى الهزيمة والانكسار، فحوّل العداء إلى طقس رمزي فارغ لا تهديد فيه لخصومه الحقيقيين. وعلى مستوى الفكر القومي، لم يقدّم إلّا شوفينية عمياء، تنكر على الجماعات القومية الأخرى في الوطن العربي حقّها في الوجود والمشاركة، ما جعله خصماً لا فقط لأعدائنا، بل أيضاً لشركائنا في الأرض والتاريخ.
لقد تعامل اليسار القومي مع الصراع ضد الاستعمار والإمبريالية، أي ضد الغرب بوجهه الاستعماري، باعتباره مبرّراً كافياً لتبرئة الاستبداد الداخلي، وتبرير وجود الحاكم القومي المستبد، بلْ وتحريمه الصريح أو الضمني لقيم الديمقراطية العالمية. في هذا المنطق الأعوج، يصبح الطغيان مشروعاً ما دام يرفع شعار العداء للغرب! ولتغطية هذا التناقض الفاضح، اخترعوا مسمّى "الديمقراطية الشعبية"، التي لم تكن في واقعها سوى قناع زائف: ديمقراطية نُفي فيها المعنى الحقيقي للديمقراطية، وسُحق فيها الشعب باسم الشعب، بينما رُفع الحاكم إلى مرتبة فوق البشر، يعلو على المساءلة والمحاسبة والاختلاف. هكذا تحوّل العداء للإمبريالية إلى ذريعة لإدامة الطغيان المحلي.
أما اليسار الشيوعي، فقد اختزل مفاهيم الدولة والطبقة والصراع الطبقي والحزب والديمقراطية في صورة مشوّهة تنسجم تماماً مع المسخ الستاليني للفكر الماركسي. لقد تم اغتيال روح الماركسية باسمها، حين تحوّلت إلى أيديولوجيا تبرّر الاستبداد وتُشرعن الحكم الشمولي. ففي ظل هذا التشوّه، لم تعد الطبقة هي الفاعل التاريخي، بلْ أصبح الحزب وصيّاً عليها، ثم لم يلبث أنْ تراجع الحزب نفسه لحساب اللجنة المركزية، قبل أنْ تُختزل هذه الأخيرة في شخص الأمين العام، الذي نُفخ فيه حتى صار فوق النقد، فوق المؤسسة، وفوق الجماهير. وهكذا ترسّخت "عبادة الفرد" كقاعدة عامة في التجربة الشيوعية، لا في دولة واحدة، بل في أغلب دولها وأحزابها، ليتحوّل مشروع تحرري إلى نظام يعيد إنتاج الطغيان بصيغته العقائدية.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار أنظمة الحكم التابعة له في أوروبا الشرقية، لم ينهَر فقط كيان سياسي، بلْ انكشفت كذلك عورة الشيوعية الستالينية، وانفضح إفلاسها الفكري والسياسي. وعند هذا المفصل التاريخي، شهدنا ما يشبه الهجرة الجماعية ؛ كثيرٌ من الرفاق خلعوا عباءة الشيوعية القديمة، وارتدوا بزّات الليبرالية الجديدة ، دون مراجعة ولا اعتراف. لكنّ انتقالهم لم يكن إلى ما يُسمى الحرية والعدالة، بلْ إلى مستنقع الفساد بأبشع صوره. فإذا بهم يتحولون إلى أدوات فعّالة في تبرير النهب، وتجميل الاستغلال، وتلميع الأنظمة الفاسدة؛ أصبحوا جنوداً، بلْ قادة، في خدمة الرأسمالية المتوحشة، يسوّقونها بأقلامهم وألسنتهم، بعدما فشلوا في تمثيل حلم التحرر باسم الاشتراكية.
هؤلاء، في ذروة زمنهم الأحمر، لم يفهموا ، بلْ ولم تكن لهم أدنى مصلحة في أنْ يفهموا ، أنَّ البديل التاريخي للرأسمالية لا يمكن أنْ يكون بديلاً سياسياً مشروعاً ما لم يحتفظ بكل مكتسبات الديمقراطية التي جاءت بها الرأسمالية، ويضيف إليها أيضاً. فقد كانوا يرون في الديمقراطية بورجوازيةً فحسب، يغفلون أنها شرط لأي تجاوز فعلي للرأسمالية. فأنْ تحلّ الاشتراكية محل الرأسمالية لا يعني أنْ نعود إلى ما قبلها، بلْ أنْ نتقدم عليها، وفي مقدمة هذا التقدّم ، أنْ نكون أكثر ديمقراطية منها. فبدون هذا التفوّق السياسي، لنْ يكون البديل إلّا انتكاسة في لبوس الثورة، ومجرد استبدال لطغيان السوق بطغيان الحزب أو الزعيم.
إنني أرى الربيع العربي ليس مجرد حدث سياسي أو انفجار اجتماعي، بل ْولادة للإنسان العربي الجديد ؛ الإنسان الذي لا يكتمل جداره الأخلاقي والسياسي إلّا إذا كان ديمقراطياً بحق، قومياً بوعي، أممياً بانفتاح، وإنسانياً بجوهره. غير أنَّ هذا الإنسان لنْ يبلغ تمام نضجه وتحرره ما لمْ يتحرر، في الآن ذاته، من شكلين خطيرين من التزييف ؛ معارضة مستبدة تعيد إنتاج القمع باسم التحرر، ومعارضة ليبرالية تُلوّح بالحق الديمقراطي بينما تفرّط بلا خجل في الحق القومي. فالتحرر الحقيقي لا يقبل القَسمة ، إمّا أنْ يكون شاملاً، أو لا يكون.
إنَّ الثورة ضد الاستبداد لا تكتمل ما لم تكن، في جوهرها، ثورةً مزدوجة ؛ ثورة الشباب العربي ضد الحاكم المستبد الظاهر، وضد المستبد الآخر المتخفي داخل صفوف المعارضة نفسها، في قياداتها وشخصياتها وممارساتها. وبالمثل، فإنَّ النضال من أجل الديمقراطية لا يصحّ أنْ يُختزل في مطالب شكلية، بلْ يجب أنْ يكون أيضاً مواجهة صريحة مع الليبراليين الجدد، أولئك الذين إنْ تسلّموا السلطة، فلنْ يمنحوا شعوبنا من الديمقراطية إلّا قشورها، بينما يُجهضون جوهرها الحقيقي، ويقايضون الحقوق القومية بالفتات السياسي. فالديمقراطية لا معنى لها إنْ جاءت على حساب الكرامة الوطنية، تماماً كما أنَّ القومية لا شرعية لها إنْ سحقت الحرية.
ها نحن نعيش في قلب العالم العربي مشهداً مأساوياً ؛ يساريون قوميون وشيوعيون يخونون شعوبهم وأمتهم، ينحازون إلى الحكومات المستبدة تحت ذريعة العداء لإسرائيل والإمبريالية، متناسين أنَّ الخيانة لا تتغيّر بتغيير المبرر. وفي المقابل، نشاهد ديمقراطيين وليبراليين يعادون تلك الحكومات المستبدة، لكنهم بذلك يُفرطون في الحقوق والقضايا القومية، ويصبحون "حصان طروادة" لنفوذ أعدائنا القوميين، وعلى رأسهم الإمبريالية الأمريكية وأتباعها. كأنَّ لشعوبنا وأمتنا لا حق في أنْ يخوض ربيعها الثوري معركة مزدوجة ؛ حرباً ضارية على الاستبداد كعدو داخلي لا يُمكن التسامح معه، وفي الوقت ذاته مقاومةً حاسمة لقوى الهيمنة الإمبريالية وأتباعها كعدو خارجي لا يُمكن التهاون معه. أما الفرق بين هذين العدوين، فلست أراه إلّا في الدرجة لا في النوع ، فهما وجهان لعملة واحدة تقضي على حريتنا وكرامتنا.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سعيُّ الرأسماليين وراء الربح الإضافي!
-
ما لا يدركه الليبراليون: الحرية كقناع للعبودية الحديثة!
-
العقد شريعة الأقوياء!
-
خرائط بلا أرض!
-
حين يتحزّب الجميع ضد الجميع!
-
ضحكتْ عليه امرأة !
-
تشوّه الإدراك لفكرة الانتقال الزمني!
-
ما يُتَعَمَّد تجاهله في دساتيرالعرب!
-
العمل!
-
امرأةٌ جميلةٌ!
-
فائض الغذاء وجوع المليارات!
-
مجتمع الحقوق!
-
طريقةُ فهم المفاهيم!
-
نجوم بلا لهب!
-
مفهوم -فاليريزم- (Valerism) كما ورد في كتاب The Physics of C
...
-
جدليةُ الإحساس!
-
في فلسفة نسبية -الآن-!
-
نساء٣
-
في الزمن!
-
هل رأيت يوماً ذكراً خالصاً؟
المزيد.....
-
أول تعليق من إسرائيل على اعتراض السفينة -حنظلة-
-
محللون: نزع سلاح غزة أهم عند ترامب من حياة مليوني فلسطيني
-
الجيش الإسرائيلي لـCNN: تم إسقاط مساعدات إنسانية جوا على غزة
...
-
خلال جولته في إسكتلندا.. ترامب في ملعب الغولف والمتظاهرون في
...
-
مقترح جديد بإنشاء -مناطق عبور إنسانية- في غزة
-
شركة هندية تنفي شحن مواد متفجرة إلى روسيا
-
عاجل | وزارة الداخلية السورية: إلقاء القبض على شخص يترأس غرف
...
-
بيرلو في الإمارات وفيريتو إلى قطر والمغربي زكرياء من فرنسا إ
...
-
إسرائيل تعلن فتح ممرات آمنة في غزة والسماح بإسقاط المساعدات
...
-
ماذا يحدث لسكر الدم عند شرب القهوة؟
المزيد.....
-
علاقة السيد - التابع مع الغرب
/ مازن كم الماز
-
روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس
...
/ أشرف إبراهيم زيدان
-
انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي
/ فاروق الصيّاحي
-
بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح
/ محمد علي مقلد
-
حرب التحرير في البانيا
/ محمد شيخو
-
التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء
/ خالد الكزولي
-
عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر
/ أحمد القصير
-
الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي
/ معز الراجحي
-
البلشفية وقضايا الثورة الصينية
/ ستالين
المزيد.....
|