ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 20:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : د . ادم عربي
تتجلى عبقرية هيجل في العديد من أعماله وآرائه الفلسفية والفكرية، وقد لفت انتباهي على وجه الخصوص قوله المتعلق بمفهوم "الوجود الخالص" (أو الكائن، أو الكينونة المحضة).
ورد في قوله أنَّ "الوجود الخالص" يُطابق تماماً "العدم"، فهو ليس إلّا تجريداً فكرياً وفلسفياً فارغاً لا مضمون له. وهذا "الوجود الخالص" هو الشيء الذي لا يحتوي على أي تناقض في داخله، أو بعبارة أخرى، هو ما يخلو كلياً من نقيضه. ورغم إيجازه، فإن هذا القول يحمل دلالات عميقة وغنية، وتبرز أهميته الفكرية في مختلف مجالات المعرفة والعلم والفكر.
إنَّ الخالص من الأشياء أو الكائنات هو في حقيقته شيء معدوم الوجود؛ لم يوجد في أي وقت، ولن يوجد مطلقاً، لأنه يفتقر تماماً إلى نقيضه. وهذا الخلو التام من النقيض هو ما يجعل وجوده مستحيلاً، ويجعل منه ما يُعادِل "العدم" تماماً.
تُفهم "الماهية" على أنها إجابة عن سؤال: "ما هو هذا الشيء؟"، ومن حيث تحديدها أو تعيينها، فإن ذلك يُمثِّل أحد أهم معاني "العلم". فالعلم، حين يسعى لتحديد ماهية شيء ما، يعتمد على المنطق الصوري (الشكلي)، ويستند في ذلك إلى مبدئه الميتافيزيقي الأول، وهو "مبدأ الهوية". فعلى سبيل المثال، عندما تقول: هذا الإنسان ذكر، وذكر فقط، فأنت تؤكد من منظور ميتافيزيقي أنه لا يمكن أنْ يكون في الوقت ذاته أنثى، أو يحمل شيئاً من الأنوثة؛ فهو إما ذكر في تلك اللحظة بالذات، أو أنثى، ولا يجتمع النقيضان في آنٍ واحد.
غير أنَّ العلم لن يواصل تقدمه ما لم يتسع أفقه ويتعمق في رؤيته ومناهجه؛ أي إنه لن يرقى إذا ظل محصوراً ضمن حدود ذلك "المنطق الميتافيزيقي"، الذي تنتهي فائدته بمجرد الانتهاء من تحديد "الماهية". فبعد هذه المرحلة، لا بدَّ للعلم أنْ ينتقل إلى "المنطق الديالكتيكي (الجدلي)"، الذي يُعيد فهم "الماهية" على أساس أنها "تحمل التناقض في داخلها"، أي أنها متناقضة في ذاتها.
لا تكون مُخطئًا إنْ قلت إنَّ هذا الإنسان ذكر، أو إنَّ ذاك أنثى ؛ فهذه أحكام صحيحة في حدودها. لكن هذا الصواب يتحول إلى خطأ إذا بالغت فيه وذهبت إلى القول بأنَّ هذا الإنسان هو ذكر خالص أو أنثى خالصة . فهل يوجد في الواقع، سواء في الإنسان أو الحيوان، ما يمكن أنْ نُسميه الذكر الخالص أو الأنثى الخالصة؟!
وهل يمكن حقاً الحديث عن وجود أنثى خالصة؟
أليس الذكر ، مهما بلغ في صفاته من تطرف في الذكورة، ينطوي على بعضٍ من الأنوثة، أو يحمل نسبةً منها؟
وبالمثل، أليست الأنثى ، مهما كانت مفرطة في أنوثتها، تشتمل هي الأخرى على جانبٍ أو نسبة من الذكورة؟
وكيف يمكن لإنسان ذكر، مثلاً، أنْ يتحوّل إلى أنثى، لولا أنه يحمل في كيانه شيئاَ من الأنوثة؟
صحيح أنَّ أحداً لا يمكنه إنكار الفارق البيولوجي الواضح بين الرجل والمرأة؛ ولكن، أليست "الذكورة" و"الأنوثة" في جوهرهما مفهومان نسبيان، لا مطلقان؟
هذه امرأة، وتلك أيضاً امرأة؛ وكلتاهما تحملان في تكوينهما شيئاً، أو نسبة معينة، من "الذكورة"، يتجلى في وجود "هرمون الذكورة"، المعروف باسم "التستوستيرون".
إذا كان مستوى هذا الهرمون في فاطمة أعلى منه في عائشة، فلن نخطئ إذا وصفنا فاطمة بأنها أكثر ذكورة (أو أقل أنوثة) من عائشة ، أو حتى إذا قلنا إنَّ فاطمة تعتبر ذكراً بمعنى نسبي وليس مطلق، مقارنة بعائشة أو بالنسبة إلى حالتها السابقة حين كان مستوى هرمون الذكورة فيها أقل.
نقول عن ذرة ما إنها موجبة الشحنة الكهربائية، بمعنى أنَّ عدد إلكتروناتها أقل من عدد بروتوناتها.
لكن، هل يمكن أنْ توجد ذرة تكون موجبة خالصة؟
الجواب لا، فلا وجود لمثل هذه الذرة على الإطلاق؛ إذْ يمكنك فقط إزالة إلكتروناتها واحدة تلو الأخرى حتى تبقى ذرة بها إلكترون واحد فقط. في هذه الحالة، نعتبر الذرة عند أقصى حد لشحنتها الموجبة، لكنها تبقى بعيدة عن الوصول إلى حالة "الموجب الخالص" التي لا يمكن تحقيقها.
قد يعترض البعض قائلاً إنه يمكن تحقيق ذلك بإزالة الإلكترون الأخير من الذرة، فهل نكون بذلك قد وصلنا إلى حالة "الموجب الخالص"؟
لكن، في هذه الحالة، هل ما يزال لدينا ذرة؟
الجواب لا، لأنَّ إزالة الإلكترون الأخير تعني زوال الذرة نفسها، ويبقى فقط ما يعرف بـ"نواة الذرة".
لا تقم بفصل صارم أو حاجز ميتافيزيقي بين الشحنة الموجبة والسالبة داخل الذرة نفسها؛ فالشحنة الموجبة في الذرات تحتوي بالضرورة على جزء من الشحنة السالبة أو نسبة منها. فالذرة التي تصل إلى أقصى حد لشحنتها الموجبة هي نفسها التي تصل إلى الحد الأدنى لشحنتها السالبة.
وكلما أزلنا عدداً أكبر من الإلكترونات من الذرة نفسها، ازدادت شحنتها الموجبة، وفي الوقت ذاته، وبالمقدار نفسه، انخفضت شحنتها السالبة.
إنَّ الموجب الخالص أو السالب الخالص في الذرات هو مجرد مفهوم نظري لا وجود له في الواقع؛ فلم يوجد في أي وقت، ولن يوجد على الإطلاق.
إنَّ ما يوجد فعلياً هو الموجب النسبي والسالب النسبي في الذرات، لا غير. فكل من الذرة الموجبة والذرة السالبة تتضمن في داخلها الأخرى، وترتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاَ لا يمكن فصمه؛ إنهما ضدان متلازمان، يتوحدان في وجودهما ويظلان في حالة صراع دائم ضمن تلك الوحدة.
هذه الذرة تُوصَف بأنَّها موجبة ، غير أنَّ درجتها في الشحنة الموجبة يمكن أنْ تزداد فتصبح أكثر إيجابية ، أو تنقص فتصير أقل إيجابية ؛ كما أنَّ من الممكن أنْ تتحول تماماً إلى ذرة سالبة.
عند المقارنة نقول: هذه ذرة أوكسجين فقدت بعض الإلكترونات، وتلك ذرة أوكسجين فقدت عدداً أكبر منها؛ كلتاهما تُعتبر موجبة ، لكن الذرة الثانية تحمل شحنة موجبة أكبر من الأولى. وبذلك، تُعد الذرة الأولى سالبة نسبياً، بالمقارنة مع الثانية. وإذا فقدت الذرة الموجبة مزيداً من إلكتروناتها، نقول إنها أصبحت موجبة أكثر ، وهذا يعني ضمناً أنها كانت أكثر سلبية سابقاً، مقارنةً بحالتها الجديدة.
إنَّ الذرة ، من حيث كونها ذرة، تفقد وجودها إذا حاولنا تحويلها إلى موجب خالص أو سالب خالص. وينبغي أنْ نفهم خصائص الأشياء وصفاتها على هذا الأساس؛ فالوصول إلى "الخالص" من خاصية أو سمة ما يعني، في جوهره، السعي نحو العدم. ذلك لأنَّ محاولة تحقيق "الخالص" تعني إلغاء وجود الكيان الذي يحمل تلك الخاصية أو الصفة، وبالتالي زواله نفسه.
والخالص من الأشياء والأجسام لا وجود له كذلك؛ إذْ لا شيء يخرج عن قانون "التحوُّل إلى النقيض". فكيف يمكن لشيءٍ، أيّاً كان، أنْ يتحوَّل إلى نقيضه إذا كان "خالِصاً"، أي غير مشتمِل على نقيضه في ذاته؟! إنَّ التحوُّل إلى النقيض يفترض، بالضرورة، أنْ يكون النقيض كامناً في الشيء نفسه.
علينا أنْ نفهم كل شيء، وكل خاصية أو صفة أو سمة، على أنها تمثل "نسبة معيّنة" من نقيضها؛ فحتى عندما يبلغ الشيء أقصى درجات التطرف في صفته، فإنه لا يخلو من نسبة ما من نقيض تلك الصفة. فـازدواجية الواحد أو تناقض ما يبدو واحداً هو في جوهره أساس "المنطق العلمي" في تفسير وفهم كل الأشياء والظواهر. إذ لو كان كل شيء في الوجود أسود، لما استطعنا التمييز بين شيء وآخر؛ وكذلك الحال لو كان كل شيء أبيض، أو أحمر، أو أخضر... فإن غياب النقيض يُفضي إلى غياب الفارق، وبالتالي إلى استحالة الإدراك.
فتِّشوا دائماً عن الظلم الكامن في طيّات العدالة ، وعن العدالة المختبئة في قلب الظلم ؛ عن الدكتاتورية التي تسري في أوصال الديمقراطية، وعن الديمقراطية التي تنبع من داخل الدكتاتورية؛ عن الكفر الذي قد يتوارى في ثنايا الإيمان ، وعن الإيمان الذي قد ينهض من قلب الكفر؛ عن الرذيلة المضمَرة في الفضيلة ، وعن الفضيلة المتخفِّية في الرذيلة ؛ عن الزوال في لحظة النشوء، وعن النشوء في لحظة الزوال ؛ عن الاضمحلال وسط النموّ، وعن النمو داخل الاضمحلال؛ عن القديم الذي يتلبَّس الجديد ، وعن الجديد الذي ينشأ من القديم ؛ عن النسبي في عمق المطلق، وعن المطلق في إطار النسبي؛ عن الخاص المتداخل في العام، وعن العام المشروط بـالخاص ؛ عن السكون المتغلغل في الحركة، وعن الحركة التي تنبع من السكون ؛ عن الموت في الحياة، وعن الحياة في الموت؛ عن الجهل الكامن في ثنايا العلم، وعن العلم المتولِّد من مواجهة الجهل.
ابحثوا دائماً؛ ففي هذا البحث تكمن "العلمية" الحقة.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟