أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - في الزمن!















المزيد.....


في الزمن!


ادم عربي
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8359 - 2025 / 5 / 31 - 00:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم : د . ادم عربي

بحسب نظرية "النسبية" التي وضعها آينشتاين، فإن الزمن ليس ثابتاً بل هو نسبي، ويتدفق كما تتدفق مياه النهر، وقد يكون هذا التدفق سريعاً أو بطيئاً. كما أوضحت النظرية أن سرعة الزمن تتأثر بعوامل مثل سرعة الجسم أو قوة جاذبيته، فكلما زادت سرعة الجسم أو ازدادت جاذبيته، تغير معدل تدفق الزمن تبعاً لذلك.
ولتبسيط الفكرة، يمكننا توضيحها بالمثال التالي: لنفترض أن قلبك ينبض بمعدل 70 نبضة في الدقيقة. الآن، تخيّل أننا قمنا، بمعجزة، بنقلك فوراً إلى كوكب تبلغ جاذبيته مليون ضعف جاذبية الأرض، نتيجة لكون كتلته أكبر بمليون مرة من كتلة الأرض. في هذه الحالة، سيستمر قلبك في النبض بنفس المعدل، 70 نبضة في الدقيقة، وفقاً لقياسك الزمني الشخصي على ذلك الكوكب. لكن، من وجهة نظري أنا، وأنت على ذلك الكوكب البعيد وأنا على الأرض، سيبدو وكأن قلبك ينبض 70 نبضة فقط في السنة مثلاً.
الأمر ذاته يحدث لو أنك سافرت في مركبة فضائية تزداد سرعتها تدريجياً حتى تصل، على سبيل المثال، إلى 150 ألف كيلومتر في الثانية.
أبطأ أشكال الزمن في الكون يمكن ملاحظتها إما في حركة الضوء أو داخل الثقب الأسود؛ فالضوء، أو ما يُعرف بالفوتون، هو جسيم لا كتلة له ويسير بسرعة تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية، ما يجعله الكائن الأسرع في الكون. أما الثقب الأسود، فهو الكيان الكوني ذو الجاذبية الأقوى على الإطلاق، ولا ينافسه أي جسم آخر في شدتها.
في الفوتون نلمس أعلى سرعة ممكنة في الكون، ويقابلها أبسط شكل لمرور الزمن، أي أبطأ وتيرة له. أما داخل الثقب الأسود، فنشهد أقصى درجات انحناء الزمكان نتيجة الجاذبية الهائلة، وهو أيضاً موضع يتباطأ فيه الزمن إلى أقصى حد.
تخيّل الآن أنك موجود داخل فوتون، أو أنك تعيش داخل ثقب أسود.
سيستمر قلبك في النبض بمعدل 70 نبضة في الدقيقة، كما تُظهر ساعتك الخاصة. لكن، من موقعي على كوكب الأرض وأنا أراقبك، سأرى أن قلبك ينبض 70 مرة فقط كل مليار سنة، وفقاً للزمن كما تقيسه ساعتي.
إذا دخَّنتَ سيجارة واحدة، فستستغرق منك، حسب ساعتك، خمس دقائق فقط؛ لكن من وجهة نظري، وأنا أراقبك من كوكب الأرض، فإن تلك الدقائق الخمس ستمتد لتصبح مئة مليار سنة، وفقاً لقياس الزمن بساعتي.
أنت، اعتماداً على أدواتك الموضوعية لقياس الزمن مثل ساعتك، واثق تماماً أن قلبك ينبض 70 مرة في الدقيقة الواحدة. وأنا أيضاً.
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لن أعود إلى آينشتاين، بل إلى هيجل ومنهجه الجدلي (الديالكتيكي). فآينشتاين، من خلال نظريته في "النسبية"، قدَّم تصوراً يُفهم منه أن الزمن هو "نِسبي بشكل مطلق"، أي أنه لم يبدِ أي اعتراف بوجود "زمن مطلق" على الإطلاق.
أنا، منسجماً مع الجدلية الهيجلية، أؤمن بأن هناك وحدة لا تنفصم بين "النسبي" و"المطلق" في مفهوم الزمن. فدائماً ما يحتوي النسبي على قدر من المطلق، ولا يمكن تصور الزمن ككيان مطلق خالص لا يداخله أي عنصر نسبي، كما لا يمكن أيضاً اعتباره نسبياً صرفاً يخلو تماماً من أي بعد مطلق.
افترضوا، أن الإلكترون في ذرة الهيدروجين مثلاَ يقوم بـ 1000 دورة حول نواتها في كل ثانية، وذلك وفقاً لما تشير إليه "ساعته الذاتية" الخاصة به كجسيم.
إذا تَابع ثلاثةُ مراقبين من عوالم مختلفة ، تختلف سرعاتهم أو قوى جاذبيتهم ، فحدثَ دوران الإلكترون حول نواته، لَاحَظ كلٌّ منهم زمناً مختلفاً لهذه الظاهرة وفق أدوات قياسهم. فقد يرى الأول (بصواب) أن الإلكترون يُكمل 50 دورة في الثانية، بينما يرى الثاني (بصواب أيضاً) أنه يتم 100 دورة، ويُصر الثالث (بصوابه الخاص) على أن العدد 150 دورة.
هنا تَبرز نسبية الزمن في تباين قياساتهم، بينما يظل زمن الإلكترون ذاته مطلقاً بلا تغيير.
تخيَّل ذرة هيدروجين موضوعة في أي ركن من الكون سواء على الشمس، أو الأرض، أو القمر، أو المشتري، أو حتى داخل ثقب أسود، أو على متن مركبة فضائية تطير بسرعة قريبة من سرعة الضوء. هل يتغير معدل دوران الإلكترون حول النواة؟
الإجابة لا، فبحسب "ساعته الداخلية"، سيظل الإلكترون يدور حول النواة ألف مرة في الثانية الواحدة، بغض النظر عن مكانه أو ظروفه.
هنا تكمن المفارقة العجيبة للزمن: فهو نسبي ومطلق في الوقت ذاته. إنه مطلقٌ لأن كل تغيير في الكون يحتاج إلى زمنٍ يحدث فيه، فلا وجود للحركة أو التحول دون مَمر الزمن. لكن نسبيته تظهر في اختلاف قياساته بين المراقبين.
لكن لا معنى لنسبية الزمن إلا بوجود زمنٍ مطلقٍ ثابتٍ خلفها ،زمنٌ واحدٌ يحكم كل التغيرات في الكون. فسواء كنتَ على الأرض أو المشتري، داخل شمسٍ متوهجة أو ثقب أسود، في مركبةٍ تسير بسرعة 10 آلاف كم/ثا أو 290 ألف كم/ثا، فإن قلبك سيخفق 70 مرة في الدقيقة بحسب ساعتك أنت. فالزمن المطلق هو الإطار الذي تُقاس فيه كل التغيرات، حتى لو اختلفت تجاربنا النسبية عنه.
إن نسبية زمن هذه الظاهرة أي دقات قلبي تبرز من وجهة نظرك أنت، أيها المراقب المقيم على سطح الأرض. فمن خلال ساعتك الخاصة، ستراني أبدو لك وكأن قلبي ينبض 70 مرة في الدقيقة، أو في الساعة، أو حتى في السنة الواحدة... بل قد تمتد الفترة في نظرك إلى ملايين السنين!
سنجد أن كل راصد من هؤلاء الثلاثة سيصل إلى استنتاجات مغايرة تماماً عند قياسه للظواهر الكونية. فباستخدام أدواته العلمية الدقيقة وطرائقه الموضوعية في تحليل الزمان والمكان بكل أبعادها (الطول، العرض، الارتفاع)، وكذلك عند مراقبته لأي حدث فيزيائي أو كوني، ستختلف نتائجه حتماً عن ما يتوصل إليه زملاؤه الراصدون.
لكن المفارقة تكمن في أن هناك حقيقة واحدة فقط كما أثبت آينشتاين يتفق عليها جميع المراقبين الكونيين بغض النظر عن مواقعهم أو حركتهم النسبية، ألا وهي القيمة الثابتة لسرعة الضوء في الفراغ.
تخيل ثلاثة مراقبين كونيين، أحدهم على الأرض، يرصدون شعاعاً ضوئياً يقطع المسافة بين الشمس وكوكبنا. ستختلف تقديراتهم للمسافة الفاصلة بين النجم والأرض، فلكل منهم منظوره الخاص وقوانينه الفيزيائية التي تحكم حركته. لكن المفاجأة تكمن في أنهم جميعاً، رغم تباين قياساتهم، سيتفقون على حقيقة واحدة لا تتغير: أن ذلك الشعاع الضوئي يقطع مسافة 300 ألف كيلومتر في كل ثانية من الزمن.
بالنسبة لحساب المسافة بين الشمس والأرض، يحدد المراقب على الأرض هذه المسافة بـ150 مليون كيلومتر، بينما يشير مراقب آخر إلى أنها 50 مليون كيلومتر، في حين يقيس مراقب ثالث المسافة بحوالي 600 ألف كيلومتر.
أما فيما يتعلق بالزمن، فهو يُستخدم لقياس مرور وتدفق الأحداث، ومن خلال الزمن نقيس كل تغيير يحدث، كما نقيس سرعة هذا التغيير لنصل إلى استنتاج حول مدى سرعة أو بطء حدوثه.
"التغيير" هو أي اختلاف يحدث لشيء ما، سواء في حالته الوجودية أو في خصائصه وصفاته، أو في حركته داخل المكان، سواء كان ذلك من انتقاله من موقع إلى آخر في الفضاء، أو على سطح جسم معين، أو في اهتزازه.

كل تغيير يحدث بسرعة محددة، وهذه السرعة تُحدَّد وتقاس باستخدام الزمن. فعلى سبيل المثال، انتقال جسم من نقطة إلى أخرى يستغرق فترة زمنية معينة، قد تكون 50 ثانية حسب الساعة التي أستخدمها أنا، الشخص الذي يعيش على سطح جسم كوني له كتلة وجاذبية معينة. أو قد تختلف هذه المدة إذا كنت على متن مركبة فضائية تتحرك بسرعة معينة، أو تزيد سرعتها بمعدل معين.
وجود أي شيء محدد وملموس يستلزم بالضرورة تعرضه لتغيير معين؛ وهذا التغيير بدوره يتطلب وجود سرعة محددة له. ولا يمكن أن يكون لمفهوم سرعة التغيير معنى حقيقي دون وجود الزمن، الذي من خلاله نقيس هذا التغيير ونحدد السرعة التي يحدث بها.
في المنطق الصوري الذي أسسه أرسطو، يُعتبر "الشيء" مساوياً أو مطابقاً لنفسه، فلا يمكن مثلاً أن تكون "الشمس" في الوقت ذاته شيئًا مختلفًا عنها. وإذا حدث أي تغيير، فإنه لا يمس جوهرها أو ماهيتها الأساسية، بل يقتصر على التغيرات التي يمكن التعبير عنها بالأرقام، مثل زيادة حجمها أو نقصان كتلتها فقط.

كل الأشياء تتغير، ولا يستطيع أحد إنكار أن "التغيير" هو الثابت الوحيد. لكن، هل هناك مساحة زمنية لا يحدث فيها أي تغير؟

الجواب: لا، لا يوجد مثل هذا الحيز الزمني. فكل شيء، مهما كان، يتغير باستمرار في كل لحظة، وحتى لو كانت هذه اللحظة صغيرة جداً. الزمن الصفري، بمعنى لحظة بلا مدة، غير موجود أبداً. ولا توجد لحظة أصغر من أصغر لحظة يمكن قياسها، حتى في أجزاء الثانية، فالثواني مقسمة إلى أجزاء لا حصر لها. ولا يمكن لأي جزء زمني أن يشبه الجسيم الأولي، لأن دائماً هناك زمن أصغر من أصغر زمن نعرفه حتى الآن.
المكان، بأبعاده الثلاثة، مهما قُصِر طوله أو صغر حجمه، لا يمكن أن يصل إلى حد التجزئة إلى جسيم أولي مماثل. إذ يبقى دائماً وجود مساحة أصغر من أصغر مساحة مكانية نعرفها حتى الآن.
انظر إلى هذه القطرة الصغيرة من الماء، فمع مرور الوقت سواءً كان دقائق أو ساعات ستختفي تدريجياً عبر عملية التبخر، لتتحول إلى بخار ماء غير مرئي للعين المجردة.
وقبل أن تكتمل هذه العملية، قد نعتقد أن القطرة ظلت كما هي دون تغيير، لكن الحقيقة تكشف عن نفسها عندما نفحصها تحت المجهر (العين الاصطناعية)، حيث نلاحظ العديد من التغيرات الدقيقة داخلها. ومن بين هذه التغيرات حركة الجزيئات، سواءً عبر الاهتزاز في مكانها أو انتقالها من موقع إلى آخر.
لو امتلكنا القدرة على رؤية ما بداخل هذه القطرة بواسطة "جهاز استشعار دقيق" يكشف كل مكوناتها من الذرات وأنويتها، إلى الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، مروراً بالجسيمات الأصغر حجماً، والفوتونات، وجميع الجسيمات الحاملة للقوى لشاهدنا أجزاءً من مادة القطرة وهي تتغير في طبيعتها (في أجزاء من الثانية)، أو تتفكك، أو تتحرك من مكان إلى آخر. كما لرأينا القطرة وهي تطلق وتمتص، في كل لحظة، جسيمات تسير بسرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية).

نشاهد هذا التغير (أو الاختلاف أو التبدل) داخل القطرة عبر "مجاهر متطورة"، حيث يظهر باستمرار في كل ثانية، وفي كل جزء من الثانية، وحتى في أصغر أجزاء الزمن (التي لا حدود لتقسيماتها).

تلك الجسيمات (التي تفتقر إلى الكتلة) تقوم بنقل القوى (أي التأثيرات الفيزيائية)، وعندما تنطلق من أي مادة، فإنها تتحرك عبر الفضاء أو الفراغ بغض النظر عن المسافة سواءً كانت قصيرة أو بعيدة بسرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية). هذه الجسيمات عندما تصطدم بأي مادة، فإنها تسبب فيها تغييراً ملحوظاً.

لا تظهر القوى المنقولة عبر الجسيمات إلا بشكل مزدوج، حيث يرتبط كل تأثير بقوة مضادة له، تظهر وتختفي معه في نفس اللحظة. إنها ظاهرة كونية غريبة قوى متعاكسة تظهر دائماً معاً!
انظر إلى المفارقة العظيمة في نواة الذرة: كيف تبقى متماسكة ومتجانسة بينما تتكون من بروتونات متشابهة في الشحنة تتنافر بطبيعتها؟ إنه تناقض مذهل يدعو للتأمل!
يتماسك هذا التركيب الذري ويحافظ على وحدته بفعل "القوة النووية الشديدة"، التي تخوض صراعاً مستمراً ضد نقيضها المتمثل في "قوة التنافر الكهروستاتيكي" بين البروتونات. تنجح القوة النووية في كبح جماح هذه القوة المنافرة، مجبرةً البروتونات على البقاء متحدة ضمن نواة الذرة. لكن هذا لا يعني اختفاء قوة التنافر، بل تظل حبيسةً تحت السيطرة، كقوة مكبوتة. وعندما تحصل هذه القوة المكبوتة على "الطاقة الكافية" لتعزيز قوتها، تتحول من ضعف إلى قوة، فتتغلب على القوة النووية الشديدة، مما يؤدي إلى تفكك النواة وانشطارها.
لا يوجد جسم في هذا الكون صغيرا كان أم كبيرا إلا ويتبادل باستمرار جسيمات حاملة للتأثيرات والقوى. هذا التبادل يجري في كل آنٍ من الزمن، حتى في أصغر اللحظات الممكنة، حيث تنطلق هذه الجسيمات بأقصى سرعة يمكن تحقيقها في الطبيعة (سرعة الضوء).
لا توجد "لحظة" مهما بلغت ضآلتها إلا وتتكون من سلسلة من "اللحظات"، فحتى أصغر وحدة زمنية يمكن إدراكها أو تصورها لا بد أن تحتوي على "تحول أو تباين أو اختلاف ما".

تخيل أن الثانية الواحدة تنقسم إلى مليار جزء أو لحظة. خذ البروتون مثالاً فهو لا يني يتغير ويتبدل (ولا بد له من ذلك) في كل جزء من هذه الأجزاء (أو في كل لحظة من هذه اللحظات). فلا وجود لـ"لحظة" واحدة يظل فيها البروتون ثابتًا دون تغير، لأن الشيء الذي لا يتغير أبداً، أو في أي لحظة، هو ببساطة شيء غير ممكن الوجود؛ إنه مجرد وهم؛ إنه "العدم" بعينه.
وحقيقة لا تقبل الجدل: "انعدام الزمن" و"وجود الأشياء" ضدان لا يلتقيان أبداً.

إن الجمع بين الإيمان بـ"وجود الزمن" والإصرار على "ثبات الأشياء وعدم تغيرها" هو ضرب من المحال والتناقض الصريح، إذ كيف يُعقل للزمن أن يوجد أصلاً دون حدوث تغير؟ فالزمن والتغير توأمان لا ينفصلان، وجهان لحقيقة واحدة. فحقيقة "الزمن" تتلخص في "التغير"، ويمكننا القول إن "الزمن" ما هو إلا "مقياس لدرجة التغير".
فكيف يُتصور وجود شيء ما قائم يتغير ويتبدل، بينما الزمن نفسه غائب أو معدوم؟ هذا أمر لا يُعقل ولا يمكن تخيله.

كل كائن موجود لابد أن تكون له بداية يُخلق فيها، وما كان له بدء فلابد أن يكون له نهاية. فحقيقة الوجود تقتضي أن كل ما وُجد ساعةً ما، لابد أن يأتي عليه وقتٌ يفنى فيه.
ويكفي أن نثبت للشيء لحظة ميلاد ولحظة فناء، حتى يصبح الزمن حقيقة لا تقبل الشك، وضرورة لا مفر منها. فوجود البداية والنهاية دليل قاطع على وجود الزمن واستحالة إنكاره.
لكن يجب أن ندرك أن لحظتي "البداية" و"النهاية" لا تدخلان ضمن سلسلة التغيرات التي تطرأ على الشيء، فالتغير الحقيقي هو ما يحدث للشيء خلال الفترة الواقعة بين ميلاده وفنائه.
ويكفي أن يمر الشيء بأي تحوّل (أو تبدل أو اختلاف) حتى يصبح له "سيرة وجودية"، وهذه السيرة تتجسد في "الأبعاد الزمنية الثلاثة" للشيء، وهي: "حاضره" و"ما مضى منه" و"ما سيؤول إليه".
إذا لم يكن لوجود الشيء وتغيره معنى في غياب الزمن، فهل يمكن أن يكون للزمن معنى دون حدوث أي تغير في الأشياء؟
كل موجود بلا استثناء يحمل "قصة وجود"، أي أن له "أمساً" و"يوماً" و"غداً".
لو افترضنا أن كينونة الشيء في ماضيه مطابقة تماماً لحاضره، واستمرت هذه المطابقة في مستقبله، فكيف يمكن الحديث عن "قصة وجود" له؟!
أين نجد هذا الشيء العجيب الذي يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، مع بقائه هو ذاته دون أدنى تحوّل في جميع أطواره الزمنية؟!

أنت تمتلك ماضياً ومستقبلاً، وهذا يدلّ ويجب أن يدلّ على أنك في ماضيك لم تكن كما أنت الآن، وفي مستقبلك لن تكون كما أنت اليوم.
فما المقصود بأن الشيء لا يمكن أن يبقى مطابقاً لنفسه؟
المقصود أن كل شيء في الوجود، بغض النظر عن حجمه، في حالة تحوّل مستمر (اختلاف وتغيّر دائم).
لكن ما المقصود بـ"تحوّل مستمر"؟
هذا يعني أن التغيير يحدث في كل لحظة زمنية.
لو افترضنا أن "اللحظة" تساوي سنةً كاملة، فسنجد أن كل شيء يتغير سنوياً.
وإن كانت "اللحظة" تعادل دقيقةً، فالتغيير يحدث كل دقيقة.
وإن كانت تعادل ثانيةً، فالتغيير يصبح كل ثانية.
وحتى لو كانت "اللحظة" جزءاً ضئيلاً من الثانية، فإن التغيير يحدث في كل جزء من أجزائها، مهما بلغت صغره.
إذن، كل شيء في الكون يتغير باستمرار، في كل لحظة، مهما كانت قصيرة أو متناهية الصغر. فلا يوجد زمنٌ قصيرٌ لدرجة أن الشيء يظل ثابتاً فيه. كما أن مفاهيم "الماضي" و"الحاضر" و"المستقبل" تتجلى في كل لحظة، حتى في أصغر الأزمنة وأدقها.

"الآن" ليست سوى لحظة في طريقها إلى التحول إلى ماضٍ، أو بالأحرى، إلى جزءٍ إضافي من الماضي، أو إلى "الماضي الأقرب". لكن هذا "الماضي الجديد" لن يبرز إلا عندما يصبح ما كان ينتمي إلى "المستقبل" حاضراً جديداً. وهنا يكمن المعنى المزدوج لـ"زوال الحاضر"، أي اختفاء "الآن".
هل يُعَدُّ الزمن "شيئاً"؟
وهل له نهايات في أجزائه تشبه "الجسيمات الأولية"؟
الزمن ليس "شيئاً"، لأن أي "شيء" لابد أن يكون له بداية ونهاية ضمن الزمن. فلو كان الزمن نفسه "شيئاً"، لوجب أن يكون له بداية ونهاية داخل الزمن، وهذا مستحيل!

كل كائن في الوجود له لحظة بداية ونهاية، فإذا افترضنا أن الزمن نفسه كائن، لوجب أن يكون له بداية ونهاية هو الآخر. ولو صح أن الزمن له ميلاد وموت، لكان على المادة أن تخضع لنفس القانون، إذ يستحيل تصور مادة بمعزل عن الزمنية.
التحول والزمان توأمان لا ينفصلان، فأحدهما لا يقوم إلا بوجود رفيقه. وإننا لا نجد مقياساً نقيس به معدل التحول (أي وتيرة التغيير) سوى الزمن نفسه.
الزمن، على غرار المادة، لا يُخلق ولا يفنى، بل يمر بتحوّلات وتغيّرات مستمرة؛ فهو ليس كيانا ثابتا من حيث سرعته أو معدل تدفّقه، بل يمكن أن يتسارع أو يتباطأ.
وقد تطرّقنا سابقا إلى شرح العوامل التي تؤدي إلى هذا التسارع أو التباطؤ، وبيّنّا الكيفية التي يمكن من خلالها فهم هذه الظاهرة.
بحسب مفهوم الترابط الذي لا ينفصل بين الزمان والمكان، والذي يُعرف بوحدة الأبعاد الأربعة: الطول والعرض والارتفاع والزمن، يتكوّن الكون من عدد لا نهائي من الأجزاء. كل جزء من هذه الأجزاء سواء كان نجما، كوكبا، أو جسيما يشبه ما يمكن تشبيهه بـ"مربع رباعي الأبعاد"، إذ يحتوي على ثلاثة أبعاد مكانية إلى جانب البُعد الزمني، مكوِّنا بذلك وحدة متكاملة من الزمكان.
يمكننا أن نُطلق على هذا "المربع"، الذي يتّحد فيه الزمان والمكان بشكل لا يقبل الانفصال، اسم "الزمكان" (Spacetime).
ويُقاس كل بُعد من الأبعاد الأربعة سواء كان مكانيا أو زمنيا بطريقة موضوعية باستخدام أدوات قياس مثل المتر للحيّز والساعة للزمن.
ويُمكن أن يتم هذا القياس من منظورين مختلفين: إمّا من "داخل المربع"، أي من داخل الزمكان ذاته، أو من "خارجه". وبذلك، فإن الحقيقة الموضوعية تنقسم إلى حقيقتين: واحدة تعبّر عن الواقع من داخل الزمكان، وأخرى تمثل الواقع من خارجه.
لتوضيح ما يُعرف بـ"التناقض الموضوعي للحقيقة"، يمكننا الاستعانة بالمثال التالي:
لنفرض أن جسماً طوله 100 متر انطلق من كوكب الأرض متجهاً نحو كوكب آخر ذي كتلة أكبر بكثير من كتلة الأرض. عند هبوط هذا الجسم على سطح الكوكب الثاني، إذا قام مراقب على الأرض بقياس طوله باستخدام أدوات قياس موضوعية، فسيجد أن الطول أقل من 100 متر. في المقابل، إذا أجرى مراقب على سطح ذلك الكوكب القياس نفسه، فسيحصل على الطول الأصلي، أي 100 متر.
هذا المثال يُظهر كيف يمكن أن تختلف الحقيقة الموضوعية باختلاف موقع المراقِب، داخل نفس الإطار الزمكاني.
إذا قام المراقب الموجود على كوكب الأرض بقياس المسافة بين كوكبه والكوكب الآخر، فقد يجدها على سبيل المثال 500 مليون كيلومتر. بينما لو أجرى القياس نفسه مراقب يقف على سطح الكوكب الثاني، فقد يقدّر المسافة بأنها 300 مليون كيلومتر.
ورغم هذا الاختلاف في نتائج القياس، إلا أن هناك شيئاً واحداً يتفق عليه كلا المراقبين، وهو سرعة الضوء؛ فكل منهما يجد أن سرعة الضوء ثابتة دائماً، لا تتغير، وتبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.
أما التناقض الكامن في كل "مربع زمكاني"، والذي يمكن للمراقب الخارجي إدراكه، فهو التوتر بين ظاهرتين متلازمتين: "التقلص" و"التمدد". فعندما يتقلص المكان، يتمدد الزمن بمعنى أنه يتباطأ؛ وعندما يتمدد المكان، يتقلص الزمن، أي يتسارع.
قد يُلاحظ "المراقب الخارجي" أن الزمن داخل "مربع كوني معيّن" يسير ببطء، وإذا رصد هذا التباطؤ، فإنما يعني أن وتيرة التغيرات داخل ذلك المربع أبطأ، مقارنةً بإيقاع التغير من منظور هذا المراقب. فكلما تباطأ الزمن، تباطأ معه التغيير بشكل نسبي.

لكن من المهم أن نُدرك أن التباطؤ في التغيير لا يعني بالضرورة أن الزمن نفسه يتباطأ؛ فمثلاً، على كوكب الأرض، يمكن أن تتسارع التغيرات أو تتباطأ دون أن يكون لذلك علاقة بتباطؤ الزمن نفسه، الذي يبقى في إطاره الطبيعي دون تغيير.



#ادم_عربي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل رأيت يوماً ذكراً خالصاً؟
- بعضٌ من جدل فلسفة التغيير!
- صرخةُ العدم!
- التفسير المثالي والواقعي للسياسة!
- ما هي الحقيقة من منظور جدلي؟
- فلربما!
- صفورا
- رواتب النواب والوزراء!
- الذكاء الاصطناعي بين هيمنة رأس المال ومقاومة الاستغلال!
- كرة القدم.. لعبة الفقراء سرقها الأغنياء!
- ابحث عن شمسٍ تشرق في الليل!
- لا يَتَخَلَّص الإِنسان مِنَ الوَهم إِلّا بِتَجرِبَتِهِ!
- يوم العمَّال العالمي!
- عندما تُصبح المعارضة وظيفة حكومية!
- كيف تكون مادياً في التفكير؟
- امرأة في قطار!
- ما هو الرأسمال؟ ومن هو الرأسمالي؟
- نحنُ أُمَّةٌ لا تَشكو أبداً فراغاً معرفياً!
- كُتاباً على شكل تُجار!
- لو كان الفساد رجلاً لقتلته!


المزيد.....




- -نحن وإسرائيل لدينا أعداء مشتركون-.. رجل أعمال أمريكي ينشر م ...
- بريطانيا تعتزم بناء 6 مصانع أسلحة جديدة ضمن مراجعة دفاعية
- السلطان والسفاح.. كيف واجه العثمانيون وحشية دراكولا الحقيقي؟ ...
- إيلون ماسك يكشف حقيقة إدمانه للمخدرات
- توغل إسرائيلي في ريف القنيطرة.. وإقامة حاجز تفتيش
- -مفاجأة- بشأن مهاجر هدد بقتل ترامب.. خطه قلب الموازين
- قتلى وجرحى بانهيار جسر في منطقة بريانسك الروسية
- بـ1.8 مليار يورو.. بريطانيا تعتزم بناء 6 مصانع أسلحة جديدة
- لكسر الجمود.. كشف تفاصيل -مقترح ويتكوف- لإيران
- صحيفة: بريطانيا تهتم بشراء طائرات أمريكية قادرة على حمل أسلح ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - في الزمن!