ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 14:17
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
الحاجة ، أو بتحديد أدق، الحاجة التي لا بدَّ للإنسان أنْ يلبيها لنفسه كي يظل على قيد الحياة ولا يهلك ، تتجسد أولاً وقبل كل شيء في الحاجة إلى الطعام . فعندما يشعر الإنسان بالجوع، يجب عليه أنْ يأكل، لأنَّ الإحساس بالجوع هو من أقوى وأعمق المشاعر التي نختبرها. بلْ إنَّ هذا الإحساس هو، في الواقع، أصل كل ما بنته البشرية من حضارة؛ لأنَّه الدافع الأول الذي حرّك الإنسان نحو العمل والتعلُّم وتطوير الوسائل التي تمكنه من إشباع حاجاته الأساسية. فلو لم يكن هناك جوع، لما كانت هناك زراعة، ولا صيد، ولا اختراعات تسهل الإنتاج، ولا حتى مفاهيم مثل الاقتصاد والمعرفة العلمية.
الضرورة هي ما يمكن تسميته بالقانون الموضوعي الذي يحكم الواقع، وهي منبع الوعي الحقيقي، إذْ تشكل أساس الحرية بالمعنى الفلسفي، أي حرية الإرادة البشرية الواعية. وهي كذلك أصل المنطق وأساس العلم ، لأنَّ الفهم العقلاني للعالم لا يبدأ إلّا من وعي الضرورة وقوانينها.
فعلى سبيل المثال، مهما راودتك الرغبة في الطيران، ومهما كانت إرادتك وتصميمك قويين، فلنْ تتمكن من الطيران إلّا إذا أدركت قوانين الطيران الموضوعية (مثل قوانين الجاذبية والدفع والرفع)، وتصرفت وفقاً لها. فالرغبة وحدها لا تكفي، ولا تتحقق الإمكانيات إلّا بالوعي والمعرفة والعمل المنسجم مع الواقع.
ولعلَّ أبلغ تعبير عن مركزية الضرورة في حياتنا هو القول الشائع: "الضرورات تبيح المحظورات"، وهو يشير إلى أنَّ الضرورة تتجاوز القواعد الأخلاقية أو القانونية حين تكون مسألة بقاء، مما يبيّن أنَّها ليست مجرد مبدأ عقلي، بلْ حقيقة فاعلة في حياتنا اليومية، ومصدراً لإعادة تنظيم أولوياتنا وسلوكنا.
الحقّ هو ما يعود بالنفع على الفرد، بشرط أنْ تكفله له الجماعة التي ينتمي إليها، وتضمن له القدرة على ممارسته فعلياً. ولا يصبح هذا الحق، في كثير من الحالات، ملكاً للفرد إلّا إذا انتزعه انتزاعاً عبر صراع يخوضه مع الآخرين من أجل الحصول عليه والاعتراف به.
فمثلاً، لك كإنسان أو مواطن حقّ العمل ، لا لأنَّ هذا الحقّ يُمنَح لك تلقائياً، بلْ لأنَّك تعيش في مجتمع لا يتيح لك البقاء على قيد الحياة من دون العمل؛ وبالتالي، يصبح العمل ضرورة، ويُنتزع كحقٍّ من قلب هذه الضرورة.
وكذلك، لك الحق في أنْ تعتقد ما تشاء، وأنْ تؤمن بالفكرة التي تراها صحيحة أو تراها معادلة للحقيقة، ما دام المجتمع لا يمنعك من ذلك.
غير أنَّ الحق ، من حيث هو علاقة قانونية بينك وبين الجماعة، لا يمكن أنْ يُمنَح لك أو يُصان إلّا إذا قبلتَ أنْ يكون مقروناً بالواجب تجاه الجماعة ذاتها. فالواجب ليس نقيض الحق، بلْ هو حقّ آخر ، حق الجماعة عليك مقابل ما تأخذه منها.
وهكذا، فإنَّ كل حقٍّ فردي يستند ضمناً إلى التزام متبادل، حيث لا توجد حرية مستدامة من دون مسؤولية، ولا حقوق مضمونة من دون اعتراف مسبق بواجبات تُمارَس في المقابل.
أما المصلحة ، فهي، من حيث تمسك صاحبها بها واستعداده للصراع من أجلها، تشكل الأساس الحقيقي والمحرّك الفعلي للسياسة في الواقع، وبخاصة في عالمها العملي.
فالبشر يدافعون عن مصالحهم وخصوصا المادية والاقتصادية بأشدِّ أشكال التحيّز والتعصّب، بلْ إنَّ هذا التعصّب يفوق غالباً كل أشكال الولاء الأخرى، حتى لو تعلّق الأمر بحقائق علمية أو مبادئ منطقية. فهم مستعدون، مثلاً، لرفض حقيقة رياضية بديهية إنْ تعارضت مع مصالحهم المباشرة.
وهناك نوع من المصالح كالمصالح الشخصية الضيقة أو الفئوية الأنانية لا يمكن أنْ يستمر أو يزدهر إلّا في مناخ الصراع والعداء، بلْ يعيش ويتغذى على الحرب المستمرة ضد حقوق الآخرين.
فتمكين الآخرين من حقوقهم، ومنحهم القدرة على ممارستها بحرية وعدالة، يهدد مثل هذه المصالح التسلطية، بلْ يضعفها أو يقضي عليها؛ لأنَّ هذه الحقوق تتعارض جوهرياً مع منطق الامتياز والاستغلال.
من هنا، فإن صراع المصالح ليس مجرد تفاعل بشري طبيعي، بلْ هو أيضاً منشأٌ أساسي للنزاعات السياسية والاجتماعية، ولعلّه أحد أبرز الأسباب التي تجعل الدفاع عن الحقوق يتطلب دائماَ مواجهة بنى قائمة على احتكار المنفعة.
ظلّ البشر، ولا يزالون، يخوضون صراعات متواصلة من أجل بناء مجتمعٍ أفضل، يُعيد تنظيم العلاقة بين "الحاجات" و"الضرورات" و"الحقوق" و"المصالح" على نحوٍ أكثر عدلاً وكفاءة.
فالمجتمع الجيِّد، القوي، لا يُقاس تميّزه بالشعارات أو بالقوة المجردة، بلْ بقدرته الواقعية على تلبية حاجات أفراده الأساسية، وعلى توسيع نطاق تلبيتها باستمرار. وتأتي في مقدّمة هذه الحاجات: الغذاء، والمسكن، والملبس، إضافة إلى الرعاية الصحية، والتعليم، والأمن بمفهوميه الفردي والجماعي.
كما أنَّ المجتمع المتقدم لا يُكتفى فيه بتوفير الضروريات، بلْ يُمنح أفراده أيضاً فرصة حقيقية للتمتُّع بوقت فراغ أكبر، وهو ما يشكّل معياراً مهماً لقياس درجة تحضّره. فكلما اتسع وقت الفراغ المضمون للفرد، كلما دلّ ذلك على فعالية البنية الاقتصادية والاجتماعية في رفع أعباء الكدح المباشر عن الإنسان، وفسح المجال لنمو الفكر والثقافة والإبداع.
وبذلك، فإنَّ المجتمع الأفضل هو الذي يخلق انسجاماً ملموساً بين الضرورات المادية، والحقوق الإنسانية، والمصالح العادلة، ويحوّل هذا الانسجام إلى بنية يومية تُشعِر الإنسان بكرامته وكفايته وأفقه المفتوح.
والمجتمع الأفضل ، حتى وإن كان ذلك نسبياً ، هو المجتمع الذي يُربّي أبناءه جميعاً على إدراك أهمية مراعاة الضرورات في حياتهم اليومية، وفي طرائق تفكيرهم، وفي تنظيم سلوكهم. إنَّه مجتمع يغرس في أفراده الوعي بوجود الضرورات، ويدفعهم إلى اكتشافها وفهمها والعمل وفقاً لها، لا باعتبارها قيوداً، بلْ بوصفها مفاتيح لتحقيق مقاصدهم، وخدمة مصالحهم، وتلبية احتياجاتهم على نحو واقعي وفعّال.
فكلما ازداد وعي الإنسان بالضرورات التي تحكم واقعه ، سواء كانت طبيعية أو اجتماعية أو تاريخية ، اتسع أفق حريته، لأنَّ حرية الإرادة، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، ترتبط دائماً بدرجة وعي الضرورة .
بهذا المعنى، تصبح المعرفة تجسيداً فعلياً للحرية، لأنها تُمكِّن الإنسان من التصرّف الواعي في عالم تحكمه قوانين. أما الجهل ، فلا يؤدي إلّا إلى الخضوع الأعمى، ويجعل من الفرد عبداً لقوى لا يفهمها ولا يستطيع التأثير فيها.
ومن هنا، فإنَّ المشروع التربوي للمجتمع الأفضل لا يكتفي بتعليم المهارات أو نقل المعلومات، بلْ يُنشئ إنساناً حراً لأنه مدرك لحدود الواقع، ومُبادر لتغييرها حين يستطيع، بما يحقق له أقصى ما يمكن من السيادة على مصيره.
إنّ المجتمع الأفضل هو، بالأساس، مجتمع الحقوق ، أي ذلك المجتمع الذي تتكاثر فيه حقوق الأفراد والجماعات، ويُضمن حفظها وصونها وتعزيزها باستمرار. في هذا المجتمع، لا تكتفي الدولة أو الجماعة بمنح الحقوق، بلْ تُمكِّن أصحابها من وعيها بعمق، والدفاع عنها بفعالية، وممارستها بحرية كاملة، بعيداً عن ضغوط القهر، وفساد المصالح المتعارضة، وهيمنة أصحاب النفوذ.
فكلما ازداد رسوخ الحقوق، وازدادت مساحة ممارستها، قويت الحرية، وتعززت كرامة الإنسان. وفي المقابل، تُواجه المصالح ، خصوصاً تلك التي تتعارض مع العدالة والمساواة ، بالتقويم والمقاومة، وتُروَّض وتهذَّب وتُؤنْسن، حتى تصبح خاضعة، لا مُسيطرة؛ متكيّفة مع منطق الحقوق، لا مهيمنة عليه.
إنَّ مجتمع الحقوق هو بعينه المجتمع الحر؛ والمجتمع الحر لا يُقاس فقط بوجود الديمقراطية، بلْ بمدى تعطشه الدائم إلى مزيد من الحريّة، ورفضه الاكتفاء بسقوف جاهزة. فبينما قد يكون للديمقراطية سقف ، كالحدود المؤسسية والقانونية التي تنظمها داخل إطار الدولة ، فإن للحرية أفقاً مفتوحاً لا يقف عند حد؛ إنَّها، ببساطة، السماء بلا سقف، الفضاء الذي لا ينتهي، والرغبة المستمرة في تجاوز كل ما يُقيد الإنسان ظلماً أو قسراً.
ولهذا، فالمجتمع الأفضل ليس من يفاخر بوجود ديمقراطية شكلية، بلْ من يرتقي باستمرار بمعنى الحرية، ويجعل الحقوق هي اللغة التي تُفهم بها المصلحة، لا العكس.
في مجتمع الحقوق ، وهو المجتمع الذي تزدهر فيه روح الجماعية وتُبنى فيه المؤسسات بمعناها الواسع والعادل ، يُمنح الفرد الحق الكامل في أن ْيفكّر كما يشاء، وأنْ يعيش كما يريد، وفق قناعاته ورغباته، بشرط أساسي لا يُمكِن تجاوزه: ألّا يتعارض هذا الحق مع حقّ الآخرين في التفكير والعيش بالطريقة التي يختارونها هم أيضاَ.
فحرية الفرد في هذا المجتمع ليست امتيازاً مطلقاً، بلْ هي حرية مشروطة بالاحترام المتبادل، وبالامتناع عن فرض أسلوب الحياة أو منظومة الأفكار على أي شخص آخر، أيًّا كان.
فكل فرد حرّ، ما دام لا يُقيد حرية غيره؛ وهذه المعادلة هي جوهر العيش المشترك في مجتمع الحقوق الذي في توازن دقيق بين الحرية الشخصية والاعتراف المتبادل بالحدود التي ترسمها حقوق الآخرين.
بذلك، لا تصبح الحرية ذريعة للهيمنة أو الإقصاء، بلْ تُمارَس كمسؤولية أخلاقية وقانونية تحترم تعددية المجتمع، وتُثبّت أسس المساواة والكرامة للجميع.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟