|
جدليةُ الإحساس!
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 00:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : د . ادم عربي
الإنسان يكتسب معرفته العقلية، بكل صورها وأشكالها، من خلال الإحساس (أو الأحاسيس) التي تصله عبر الحواس الخمس، والتي تُعد المصدر الأساسي والجذر الأصلي لكل فكرة تتكوَّن في ذهنه. فلا توجد فكرة واحدة في عقل الإنسان إلّا وكانت مستمدة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من التجارب الحسية التي توفرها له هذه الحواس.
فعن طريق حاسة البصر، على سبيل المثال، يتمكَّن الفرد من تمييز أنَّ ما يراه أمامه هو شجرة برتقال، أو شجرة تفاح، أو شجرة زيتون. ومن خلال البصر أيضاً، يُدرك الفرد المعيَّن من الشجر، أي شجرة برتقال بعينها، تميِّزها خصائص فريدة تجعلها لا تُشبه تماماً أي شجرة أخرى كما تُميِّز البصمة صاحبها.
لكن إدراك مفهوم "الشجرة" بوصفه تصوراً عاماَ أو فكرة شاملة لا يمكن أنْ يتم عبر حاسة البصر أو أي من الحواس الأخرى؛ فهذه الحواس لا تُدرِك إلّا الجزئيات والمحسوسات. أما المفهوم العام للشجرة، فهو حصيلة التجريد العقلي الذي يقوم به الذهن عندما يكتشف السمات المشتركة بين مختلف أنواع الأشجار، فيُكوِّن منها مفهوماَ كلياً لا وجود له في الواقع المحسوس، بلْ في عقل الإنسان وحده. نحن لا نستطيع أنْ ندرك حسّياً سوى الفرد المعيَّن من الأشياء، أو الشيء المحدد بعينه؛ فمثلاً، الإنسان الذي يُدعى "محمد"، وله صفات خاصة، هو إنسان محدد يمكننا إدراكه عبر الحواس. أما "الإنسان بوصفه كائناً عاماً"، فلا وجود له في الواقع الملموس، بلْ هو تصور ذهني لا يُدرك بالحواس.
ومع ذلك، فإنَّ هذا الفرد المحسوس لا يكون موجوداً في عزلة، بلْ دائماً ما يُدرك باعتباره جزءاً من كلٍّ، أو مثالاً من نوع أو جنس معين. وهذه العلاقة الضرورية بين الفرد والنوع لا تُدرك بالحواس مباشرة، بلْ نتوصّل إليها من خلال عملية تجريد عقلي، تنطلق في أساسها من المعطيات الحسيّة.
ويمكن تشبيه التجريد هنا بهرم مقلوب، حيث يبدأ من القمة أي من الفرد المحسوس ثم نصعد إلى القاعدة، التي تمثل الفكرة العامة أو التصور الكلي. فمثلاً، عندما أرى الآن شجرةً معينة، أدرك أنها شجرة برتقال؛ وهذا يعني أنني أتعامل مع فردٍ ينتمي إلى جنس هو شجر البرتقال، أي أنني أنتقل من إدراك الفرد إلى وعي بالنوع الذي ينتمي إليه، بفضل التجريد العقلي. في عملية التجريد الفكري التي تتّجه من الجزئي إلى الكلي، أو من "القمة" نحو "القاعدة"، نبدأ بوصف ما نراه بأنه شجرة برتقال، ثم نُجرِّد منه صفة التخصيص فنقول إنها مجرد شجرة، ثم نُوسّع المفهوم فنقول إنها نبات، وبعد ذلك نقول إنها كائن حي، ثم نُصنِّفها كـجسم، وأخيراً نُدرجها ضمن مفهوم المادة.
ومن خلال هذا المسار التجريدي، نصل إلى التعريفات؛ فعلى سبيل المثال، نُعرِّف "الإنسان" بأنه "حيوان ناطق". وهذا التعريف يستحق تأملاً فلسفياً عميقاً، لأنه يُبنى على أساس وحدة ضدّين لا ينفصلان: التماثل والاختلاف.
ففي هذا السياق، يشير "التماثل" إلى اشتراك الإنسان مع غيره من الكائنات في صفات مشتركة، مثلما نرى في كلمة "حيوان"، حيث يُدرَج الإنسان ضمن هذا الجنس العام. أما "الاختلاف"، فهو ما يميّزه عن بقية الحيوانات، كما يدل عليه وصفه بـناطق، أي العاقل أو المفكر.
إذن، فالتعريف يتأسّس على الجمع بين ما يشترك فيه الكائن مع غيره، وما يميّزه عنهم؛ أي أنَّ الإنسان، تعريفاً، هو كائن يشترك مع سائر الحيوانات في خصائص "الحيوان العام"، لكنه يتميز عنها بقدرته على النطق والتفكير. الإنسان، مع كونه حيواناً، إلّا أنه يتميّز عن باقي الحيوانات بأنه "ناطق"؛ أي يمتلك قدرة على التفكير المنطقي. فـالفكرة تنشأ داخل ذهنه، ثم تخرج إلى العالم الخارجي محمولة في وسيط مادي هو اللغة المنطوقة، والتي يمكن تحويلها لاحقاً إلى لغة مكتوبة.
كل تعريف لأي شيء لا بدَّ أنْ يجمع بين عنصرين متكاملين لا ينفصلان: التماثل والاختلاف. فالإنسان، لكي يكون إنساناً، يجب أنْ يكون حيواناً ناطقاً، يشترك مع الحيوان في سمات أساسية، ولكنه يختلف عنه في صفة "النطق" أو التفكير. ومع ذلك، لا يمكن أنْ نعكس هذا التعريف؛ فليس كل حيوان ناطقاً، وبالتالي ليس كل حيوان إنساناً.
كما أشرنا سابقاً، لا وجود في الواقع الحي إلّا للأشياء في صورتها الفردية المحسوسة، تلك التي تُشبه "البصمة" من حيث فرادتها. ومع ذلك، فإنَّ هذا الفرد لا يوجد في عزلة، بلْ هو دائماً موجود في هيئة "سيرورة" (عملية ديناميكية مستمرة).
خذ مثال نبات الشعير: في بدايته هو حبّة شعير. لكن هذه الحبّة لا يمكن أنْ تُصبح نباتاً إلّا إذا خضعت لسلسلة من الشروط والعمليات: يجب أنْ تُزرع، وأنْ تتوفر لها عوامل النمو كالماء، والحرارة، والرطوبة. يجب أنْ تكون في تفاعل دائم مع بيئة خاصة. وإذا عُزلت عن هذه البيئة وتوقف تفاعلها مع تلك العوامل، فإنها تفقد قدرتها على التحول والنمو. وهذا يوضح أنَْ الفرد لا يُمكن أنْ يوجد إلّا ككائن متفاعل مع بيئته، يتأثر بها ويؤثر فيها بشكل مستمر.
فالفرد، من حيث هو سيرورة متغيّرة، هو الشكل الوحيد الموجود في "الواقع الحي"؛ وهذا الواقع لا يُدرَك إلّا عبر الحواس الخمس التي تنقل إلينا الأحاسيس، والتي تُشكِّل نقطة الانطلاق لعملية التجريد الفكري التي ننتهي بها إلى تكوين المفاهيم.
والآن، دعونا نلقي نظرة جدلية على الإحساس نفسه، ونسأل: كيف ينشأ الإحساس؟
إذا وضعت يدك في ماء بارد، فإنك تشعر بالبرودة؛ هذا الإحساس لا يظهر من فراغ. لقد تولَّد الإحساس لأنَّ يدك، بالنسبة إلى الماء، كانت أكثر حرارة؛ ولو لم تكن كذلك، لما أحسستَ بالبرودة. وهذا يعني أنَّ الإحساس هو نتيجة تفاعل بين شيئين يختلفان في الحالة أو الدرجة، وليس شيئاً منفصلاَ أو مطلقاً. كون يدك دافئة مسبقاً هو فقط جزء من التفسير للإحساس بالبرودة؛ أما الجزء الآخر فهو أنَّ هذه الحرارة تتعرّض لإلغاء جزئي أو نفي مؤقّت عند ملامستها للماء البارد. فالإحساس بالبرودة ينشأ من كون حرارة يدك تُواجَه وتُقهر جزئياً، أي أنها تُنفى ولكن لا تُمحى كلياً.
يدك هنا تُجسّد تلاقيًا دائمًا بين ضدّين: الحرارة والبرودة. وفي حالتها الأصلية، أي قبل ملامسة الماء، كانت الحرارة في يدك تعبّر عن نوع من التوازن النسبي بين هذين القطبين المتناقضين. وعندما تُغمر يدك في الماء البارد، يُكسر هذا التوازن لأنَّ البرودة تطغى على الحرارة، مما يخلق توازناً جديداً بين الطرفين.
إذن، الإحساس بالبرودة لا يأتي فقط من وجود حرارة سابقة، بلْ من حدوث نفي نسبي لها في لحظة التلامس. وهذا النفي، من منظور جدلي، لا يعني إزالة الحرارة بالكامل، بلْ هو تغلّب البرودة عليها مع الإبقاء على قدر منها. والدليل: لو زالت الحرارة تماماً من يدك، فلن يكون هناك فرق حسي حين تضعها في ماء أبرد لاحقاً، لأنَّ الإحساس لا يظهر إلّا بوجود فرق نسبي بين حالتين.
بمعنى أدق، الإحساس بالبرودة لا يمكن أنْ يتولّد إلّا من التلاقي الجدلي بين حالتين متناقضتين: وجود حرارة، ونفي جزئي لها في اللحظة ذاتها. يدك، في كل لحظة، تحتوي على كلٍ من الحرارة والبرودة في آن، لكنك لا تشعر بأيٍّ منهما ما دام بينهما توازن مستقر. وما إنْ يختل هذا التوازن، ويبدأ أحد الطرفين بالرجحان سواء الحرارة أو البرودة ينشأ الإحساس تلقائياً استجابة لهذا الاختلال. إذا وضعت يدك نفسها في ماء ساخن، ستشعر بالحرارة. لكن هذا الإحساس لا ينشأ إلا لأن البرودة كانت موجودة سلفًا في يدك، وهذه البرودة تتعرّض الآن لـ نفي جزئي نتيجة تلامسها مع حرارة الماء.
بهذا نفهم أن الإحساس بالحرارة أو البرودة – من منظور فلسفي جدلي – يتشكّل من وجود حالة ونفيها في آن واحد. وهذا المعنى يصبح أوضح عندما ننظر إليه من زاوية الفيزياء، حيث يتجلّى المفهوم بطريقة أكثر تحديدًا ودقة.
فالماء، في طبيعته، هو مادة جزيئية، أي يتكوّن من جزيئات، وكل جزيء بدوره يتكوّن من ذرّات. بين هذه الجزيئات يوجد فراغ، وهي في حالة دائمة من الحركة والتفاعل، تتجاذب وتتنافر، وتتحرّك بسرعات واتجاهات مختلفة ومتضاربة.
عندما تزداد سرعة حركة هذه الجزيئات، فإن ما يحدث فعليًّا هو ارتفاع في درجة حرارة الماء؛ أما إذا تباطأت حركتها، فإننا نُدرِك ذلك على أنه زيادة في البرودة.
وعندما تقوم بتسخين الماء، فأنت عمليًّا تُضيف إليه نوعًا من الطاقة، وهي ما نُسميه الطاقة الحرارية. هذه الطاقة تُشحن بها جزيئات الماء، فتنشط وتتحرك بسرعة أكبر. وكلما زادت كمية الطاقة التي تضيفها، زادت سرعة الجزيئات، وارتفعت حرارة الماء.
وعندما تضع يدك في هذا الماء الساخن، فإنَّ الإحساس الذي تشعر به والذي نسمّيه حرارة أو سخونة هو نتيجة مباشرة لهذا الفارق في الطاقة بين يدك والماء؛ حيث يتم نفي جزئي للبرودة الكامنة في يدك، ما يخلق حالة التفاعل التي تولّد الإحساس الحراري. من الناحية الفيزيائية، يتولّد الإحساس بالحرارة لديك لأنَّ جزءاً من الطاقة الحرارية (أي تلك "المادة الخاصة") ينتقل من جزيئات الماء إلى جزيئات يدك. نتيجةً لهذا الانتقال، تتباطأ حركة جزيئات الماء (لأنها فقدت بعضاً من طاقتها)، بينما تزداد حركة وسرعة جزيئات يدك بفعل الطاقة المكتسبة. هذا الارتفاع في النشاط الجزيئي داخل يدك هو ما يُفسَّر على أنه إحساس بالحرارة، أي أنَّ ما تشعر به هو سخونة يدك نفسها بعد امتصاصها للطاقة.
أما فيما يخص الحواس، فالجسم يمتلك خمس حواس ظاهرة، هي: البصر (العين)، السمع (الأذن)، التذوق (اللسان)، الشم (الأنف)، واللمس (البشرة). وكل واحدة منها تمثل وسيلة لاستقبال المؤثرات من العالم الخارجي.
وفي المثال الذي نتحدث عنه، كان الماء البارد أو الحار هو ذلك المؤثر المادي الذي أثّر في حاسة اللمس عبر جلد اليد، مما أدى إلى نشوء الإحساس، سواء كان بالإحساس بالبرودة أو بالحرارة، بحسب طبيعة التفاعل بين حرارة يدك ودرجة حرارة الماء. تخيَّل نفسك داخل غرفة مظلمة بالكامل، لا ترى شيئاً على الإطلاق. الآن، إذا قمت بإشعال شمعة واحدة صغيرة، ستشعر بأنَّ شيئاَ من الظلمة بدأ يتلاشى. لقد تم نفي الظلام جزئياً. ولكن، من منظور جدلي، فإن الظلمة لم تختفِ تماماً؛ إذْ لا تزال الغرفة تحتفظ بقدر منها، ويمكنك إدراك ذلك ببساطة: فإذا أشعلت شمعة ثانية، سترى أنَّ الإضاءة تزداد، أي أنَّ مزيداً من الظلمة قد تم نفيه.
وهذا يطرح سؤالاً مهماً: من أين جاءت هذه الزيادة في النور؟ إنَّها لم تأتِ إلّا من ظلام كان لا يزال قائماً وتم نفيه بفعل الضوء الجديد. إذن، كل ارتفاع في مستوى الإضاءة هو، في جوهره، نفي متجدد للظلام الذي لم يُمحَ كلياً.
ولو افترضنا أنَّك أضأت الآن مئة شمعة، ستصبح الغرفة بالغة الإضاءة. لكن إنْ أطفأت شمعة واحدة فقط، ستلاحظ على الفور نقصاً نسبياً في الضوء أي عودة جزئية للظلام، تقاس بما كان موجوداً قبل إطفاء الشمعة. وهذا يعني أنَّ الظلمة لم تختفِ أبداً تماماً، بلْ كانت ولا تزال كامنة، تُقاس بمدى تغيّر الإضاءة.
فالذي يجعلك تشعر بالنور في الغرفة هو أنَّ هناك ظلاماً موجوداً تم نفيه جزئياً. وبالعكس، إحساسك بـالظلام يأتي لأنَّ النور قائمٌ أيضاً، لكنَّه تعرض بدوره لنفي أو تقليص. فالإحساس بالظلام أو بالنور لا ينشأ إلّا من تفاعل بين وجود أحدهما ونفيه النسبي في حضور الآخر. في غرفة يغمرها الظلام التام، يصعب عليك أنْ تبصر الأشياء أو تميّز بينها. ولكن، المدهش أنَّ الأمر لا يختلف كثيراً في غرفة يغمرها الضوء الشديد جداً؛ ففي هذه الحالة أيضاً تجد صعوبة في الرؤية والتمييز. أي أنَّ كلا النقيضين الظلام الكامل والضوء الكامل يؤدي، عند بلوغه حده الأقصى، إلى نتائج متشابهة من حيث الأثر على الإدراك.
إنَّ ما نُسميه "الواقع الموضوعي" أي الواقع المادي الخارجي المستقل عن ذهننا ووعينا هو ما يُحدث فينا، من خلال تأثيره على حواسنا، مختلف الأحاسيس التي نشعر بها. لكن هذه الأحاسيس لا تنشأ في فراغ، ولا تأتي بصورة منفردة؛ إذْ إنَّ كل إحساس ينشأ مصحوباً بنقيضه أو على الأقل مشروطاً بوجوده.
بمعنى آخر، تناقض الأحاسيس فينا ليس إلّا انعكاساً مباشراً لتناقضات الواقع الموضوعي الذي أحدثها عندما أثّر فينا من خلال الحواس.
العلاقة بين الإحساس والمحسوس تماثل تماماً العلاقة بين الوعي والمادة. فعندما ترى اللون الأخضر كمثال فإنَّ ما يحدث هو أنَّ ورقة الشجر تؤثّر في عينك، وهي عضو مادي وظيفته الإحساس بالألوان. إذن، في هذا السياق، يكون ورق الشجر هو المحسوس، والعين هي الوسيط المادي الذي يستقبل الأثر.
أما إحساسك باللون الأخضر، فهو ليس شيئاً مادّياً في ذاته، بل يُشبه ما نسمّيه الفكرة أو الصورة الذهنية. وهذه الصورة لا توجد إلا في الذهن أو الوعي؛ فهي ليست خارج الوعي، ولا يمكن أنْ توجد مستقلة عنه. في المقابل، ورقة الشجر باعتبارها المحسوس تمثّل المادة، أو ما يُعرف بـالواقع الموضوعي، لأنها موجودة خارج الذهن وتستقل عنه في وجودها وتطورها.
ومع أنَّ هذه الورقة موجودة بمعزل عن وعيك، فإنَّ هذا لا ينفي إمكانية أنْ تؤثّر فيها بقوة مادية من طرفك؛ كأن تخدشها بظفرك، مثلاً. فهذا التغيير الذي يحدث في الورقة هو نتيجة تفاعل بين الذات والموضوع، أو بين الكائن الواعي والعالم المادي.
الإحساس هو نتاج التفاعل بين عنصرين: الأول هو "الحاس" أو عضو الإحساس، وهو كيان مادي، والثاني هو "المحسوس"، وهو أيضاً شيء مادي. لكن النتيجة التي تظهر من هذا التفاعل أي الإحساس نفسه ليست مادة ولا تنتمي إلى عالم المادة من حيث ماهيتها.
على سبيل المثال، لا تشعر بالبرودة إلّا لأنَّ نقيضها، أي الحرارة، موجود بداخلك، ولأنَّ هذا الوجود الحراري يتعرض لـنفي خاص بمعناه الجدلي، وهو التغلب على الحرارة مع الاحتفاظ بها في نفس الوقت. لحظة نفي الحرارة هذه هي نفسها لحظة إحساسك بالبرودة.
وبالمثل، لا تشعر بالجوع إلّا لأنَّ حالة الشبع موجودة فيك بشكل موضوعي، وهذه الحالة بدورها تعرّضت للنفي. ولا تشعر بالشبع إلّا لأنَّ حالة الجوع موجودة فيك كذلك وتعرضت للنفي.
كذلك، لا تشعر بالراحة إلّا لأنَّ التعب موجود بداخلك وتعرض للنفي، ولا تشعر بالحرية إلّا لأنَّك في واقعك الموضوعي تعاني من بعض مظاهر العبودية، وهذه الحالة من العبودية تعرضت للنفي. إذاً، لحظة الإحساس بالحرية هي ذاتها لحظة التغلب على العبودية في واقعها الموضوعي، مع الاستمرار في الاحتفاظ بجزء منها في الوقت ذاته.
للإحساس طبيعته الموضوعية المتناقضة؛ فلا يمكنك أنْ تشعر بشيء معين إلّا لأنَّ نقيضه الموجود في الواقع المادي قد تعرّض للنفي، أي تم التغلب عليه واحتفظ به في الوقت ذاته.
الإحساس، الذي يُولد منه الأفكار والمفاهيم، يعكس الواقع المادي المتناقض بطبيعته. هذا الانعكاس ليس سوى صورة حسية ذهنية لا تظهر، ولا يمكن أن تظهر، إلّا عبر "مرآة خاصة" ذات طبيعة مادية، تتكوّن من الدماغ، وأعضاء الحس الخمسة، والأعصاب.
تخيل صورة جسم ما أو شيء معين في مرآة عادية، ولنفترض أنَّ الصورة التي تراها فيها هي لشجرة برتقال.
لا يحتاج المرء إلى تفكير عميق ليفهم أنَّ ظهور صورة شجرة البرتقال في المرآة لا يعني، ولا ينبغي أنْ يعني، أنَّ الشجرة نفسها موجودة داخل المرآة؛ فصورة الشجرة لنْ تظهر لو لم تكن الشجرة نفسها موجودة خارج المرآة، مستقلة في وجودها وتغيرها عنها. كذلك، لا يحتاج الإنسان إلى تأمل مطول ليعلم أنَّ المرآة لا تعكس إلْا ما تقع عليه نظرتها؛ فلا يمكن أنْ تظهر صورة لجسم لا تراه. والدماغ، باعتباره "المرآة الخاصة"، لا يحمل صورة ذهنية إلّا لما تقع عليه حواسه. لذا، من المستحيل أنْ تجد في ذهن الإنسان فكرة لا تمثل، حتى ولو جزئياً، شيئاً موجوداً في الواقع الموضوعي. حتى أكثر الأفكار خيالاً أو بعداً عن الواقع تستند إلى "مكونات" موجودة في هذا الواقع.
كل إحساس يولد فيك يجب أنْ يُفهم على أنه انعكاس لتناقض حقيقي موضوعي؛ فحين يغلب أحد طرفي هذا التناقض على الآخر، يولد الإحساس. ويفترض أنْ تدرك أنَّ جسمك هو جزء من الواقع المادي الموضوعي، الذي يشمل كل ما هو موجود خارج ذهنك ومستقل عنه. والدليل الواضح على ذلك هو العمليات الجسدية مثل عملية الهضم التي تخضع لقوانين مادية موضوعية لا تتغير بتغير معرفتك أو جهلَك بها. وهناك الكثير من هذه القوانين التي تؤثر في حياتنا اليومية ولم نكتشفها بعد.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فلسفة نسبية -الآن-!
-
نساء٣
-
في الزمن!
-
هل رأيت يوماً ذكراً خالصاً؟
-
بعضٌ من جدل فلسفة التغيير!
-
صرخةُ العدم!
-
التفسير المثالي والواقعي للسياسة!
-
ما هي الحقيقة من منظور جدلي؟
-
فلربما!
-
صفورا
-
رواتب النواب والوزراء!
-
الذكاء الاصطناعي بين هيمنة رأس المال ومقاومة الاستغلال!
-
كرة القدم.. لعبة الفقراء سرقها الأغنياء!
-
ابحث عن شمسٍ تشرق في الليل!
-
لا يَتَخَلَّص الإِنسان مِنَ الوَهم إِلّا بِتَجرِبَتِهِ!
-
يوم العمَّال العالمي!
-
عندما تُصبح المعارضة وظيفة حكومية!
-
كيف تكون مادياً في التفكير؟
-
امرأة في قطار!
-
ما هو الرأسمال؟ ومن هو الرأسمالي؟
المزيد.....
-
-لكنتم تتحدثون الألمانية أو اليابانية الآن-.. ترامب عن تنظيم
...
-
حصار غزة: سفينة -مادلين- في مهب رياح السلطات الإسرائيلية
-
شطب الإمارات من القائمة الأوروبية السوداء لغسل الأموال وإضاف
...
-
هل تهدد أزمة كاليفورنيا أسس النظام الفدرالي الأمريكي؟
-
عقوبات أمريكية تستهدف مؤسسات خيرية بزعم دعمها حركة حماس
-
الحوثيون: استهدفنا مطار بن غوريون الإسرائيلي بصاروخين بالستي
...
-
الحكومة الإيرانية: طهران أعدت نفسها لمختلف السيناريوهات
-
نيبينزيا: روسيا تدعم سيادة العراق وتعارض أي تدخل خارجي في شؤ
...
-
قائد القيادة المركزية الأمريكية: خطط الضربات جاهزة في حال ان
...
-
على غرار صفقة رأس الحكمة.. مصر تخصص أرضا ضخمة بالبحر الأحمر
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|