أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر














المزيد.....

رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 02:47
المحور: الادب والفن
    


لم نعتد السفر بسيارة كرفان، فقد بقيت الفكرة أسيرة الأمنيات المؤجَّلة منذ سنين، حتى أطلّ صباح أحدٍ مشمس حار، يحسب نادراً في بريطانيا، صار بطاقة دعوة لتحقيق الحلم، مقرونةً بواجب تعزية اجتماعي يقودنا الى الشمال.
كانت الشمس تفرش الطريق بخيوط ذهبية تتسلّل بين أغصان الأشجار، وتنحدر فوق أسطح الحقول الخضراء الممتدة بلا نهاية. سياج من الشجيرات يضم المراعي، وأبقار وخراف متناثرة كأنها نقاط حبر سوداء وبيضاء على صفحة منسوجة بالأخضر، فيما تعبق رائحة العشب الطازج في الهواء، مكتملةً بذلك لوحة ربيعية باذخة.
ومع اقترابنا من ستامفورد، راحت حجارتها الرمادية تلوح في الأفق، كحارس عجوز يفتح ذراعيه للقادمين إليها، مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها اليوم بضعة وعشرين ألفًا، أقدم بكثير من حجمها، إذ كانت في العصور الوسطى قلبًا نابضًا لتجارة الصوف والحياكة، ترسل أقمشتها الفاخرة إلى أسواق أوروبا والعالم. وفي القرن السابع عشر تحولت إلى عقدة مواصلات للعربات البريدية، فازدادت حيويتها وثراؤها.
شوارعها الضيقة المرصوفة بالحجر ما زالت تحتفظ بوقع الخطى التي مرّت عليها قرونًا، والمباني الجورجية تقف كصفحات مفتوحة من كتاب معماري عريق.
كنائسها ليست جدرانًا صماء، بل ذاكرة تشهد على زمان كانت فيه نابضة؛ فكنيسة "جميع القديسين" ببرجها المهيب تراقب الساحة منذ القرن الثالث عشر، ونوافذها الملوّنة تسرد قصص الإيمان والحروب والأوبئة. وعلى مقربة، ترتفع كنيسة "سانت ماري" بعمارتها القوطية وبرجها الحاد، يلمع تحت الشمس كإصبع يشير نحو الخلود، ويشهد على التغير بعد أن تحول الدخول إليها من الصلاة إلى التمتع بالعمارة والزخرفة ونضارة القدم لقاء ثمن.
مدينة مترفة نجت في القرن التاسع عشر من طوفان التصنيع الذي مسخ ملامح كثير من المدن البريطانية، فبقيت واجهاتها كما هي، لتكون من أوائل المدن التي أعلنتها وزارة البيئة "منطقة ذات أهمية معمارية وتاريخية خاصة". هذا الحفظ الدقيق لجمال التراث جعلها أشبه بإستوديو سينمائي مفتوح؛ مرّت على أدراجه كاميرات أفلام شهيرة مثل "كبرياء وتحامل" (2005) التي حولت شوارعها إلى قرية إنجليزية تحاكي ذاك الزمان، و"شيفرة دافنشي" (2006) الذي استغل روعة قصر بورغلي هاوس القريب. كما احتضنت مسلسلات كلاسيكية عدة ، وصولًا إلى أعمال حديثة مثل "التاج" التي غيّرت ملامح شوارعها لتستعيد حقبًا غابرة، وكأن الزمن هنا متواطئ مع الحجر ليحفظ ملامحه، ويعيد إحياءه أمام العدسات، فلا يدع يدًا تعبث به إلا بما يزيده بريقًا وقيمة.
بعد الظهيرة، بدت الأزقة في عموم المدينة هادئة، كأن الزمن قد جمدها ليحمي قدسيتها وصمود حجارتها. دفع ذلك إلى المقارنة بين ضيقها الشديد واستثمارها هنا، وبين ضيقها الأقل في بغداد ومدن أخرى من العراق، حيث تُهمل مع مرور الزمن. هنا يُعتبر الضيق جزءًا من الهوية التاريخية والسياحية التي يُفتخر بها ويُستثمر فيها، وهناك يُعتبر اختناقًا وعبئًا لا بد من التخلص منه.
ومع ميل الشمس نحو المغيب، توقفنا عند بحيرة ساكنة على أطراف المدينة، حيث الماء يعكس وجه القمر الفضي، والطيور المائية تهمس للريح. ركنّا الكرفان بمحاذاة الماء، والليل يمد ذراعيه حول المكان كوشاح دافئ. كانت تجربة النوم في قلب الطبيعة أشبه بقراءة قصيدة هادئة الإيقاع: دفء البطانية، ورائحة الخشب الرطب، وصوت الماء وهو يعانق الشاطئ… لحظات جعلت التاريخ والحاضر يجلسان معًا على طاولة واحدة، يرويان حكاية مدينة تعرف أن تحفظ ما ورثته، لا أن تتركه يذوب في غبار النسيان.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تنطق لندن....
- حين يصاب الوطن بالتبلد
- تداعي الدولة العراقية: حين تنهار البُنى من داخلها
- مسرح الحريق: العراق بين لهب المأساة وقيد البندقية
- حين يسير العراق إلى حتفه: مرآة النفس الجمعيّة المعطوبة
- ڤرّنا... حيث تتكلّم الغابة بلغة الهدوء
- في حضرة التاريخ: بين أوربرو وبابل
- بطء بطعم الشرق
- على طريق الحسين
- علمٌ ينتظر الولادة من رحم الوطن
- أربعة أيام في عمر قاضٍ
- هذا ليس دين أبي
- الشبح من انتصر
- كيف تُهيّأ النفوس لتقبّل الخسارة؟: قراءة نفسية في سيناريو ال ...
- التفاهة: حين تُغلق أبواب المعنى في وجه بلد بأكمله
- تشوه صورة الدولة في وعي مواطنيها
- لماذا لم يتجاوز العراقيون أحزانهم
- الخرافة: ظل الخوف في العقل العراقي
- إعادة كتابة الذات العراقية
- حكاية راهب ومدينة


المزيد.....




- المؤرخ ناصر الرباط: المقريزي مؤرخ عمراني تفوق على أستاذه ابن ...
- فنانون وشخصيات عامة يطالبون فرنسا وبلجيكا بتوفير حماية دبلوم ...
- من عروض ايام بجاية السينمائية.. -بين أو بين-... حين يلتقي ال ...
- إبراهيم قالن.. أكاديمي وفنان يقود الاستخبارات التركية
- صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
- بين شبرا والمطار
- العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
- في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض ...
- ماكي صال يُحيّي ذكرى بن عيسى -رجل الدولة- و-خادم الثقافة بل ...
- الأمير بندر بن سلطان عن بن عيسى: كان خير العضيد ونعم الرفيق ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر