حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 14:58
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تراقص النغمُ، غصنًا من شجر اليقين، إقتُطع من سفينةٍ ألفَتْ عناقَ الموجِ، فتمايلَتْ، وتغيرَتْ كفراشةٍ تكسو جناحَها حُللَ العبورِ. إنبعثتْ رحلةُ الروحِ إلى بحر الحالِ العاصفِ، بعد أنْ لامستْ الإذنَ من سيدي موسى، ملكِ المرسى، بوابِ الأسرارِ.
شدَا العربيُّ ترتيلةَ المفتاحِ، صوتُهُ مدوٍّ، يشقُّ صمتَ الأفقِ بإتجاهِ رحابةِ المحيطِ، وعيناهُ تستشرفانِ المجهولَ البعيدَ، كأنَّهما نجمتانِ تهتديانِ بنورِ الوجدِ.
وا هيَا سيدي موسى...
وا هيَا سيدي موسى...
كْناوةْ بْلِيتُوني...
واشْ تْسالُوني...
كْناوةْ بْلِيتُوني...
واشْ تْسالُوني...
واش كاين شي عوامة ....
كاين شي بحرية.... يخدموا بالنية....
تراءى العربيُّ تائهًا في عوالمِ الأطلسيِّ السحيقةِ، يشقُّ عبابَ الدروبِ نحو الأعماقِ، غائصًا في صميمِ النغمةِ الكناويةِ، التي تُعانقُها ترانيمُ الأمواجِ كنشيدٍ أزليٍّ، وزغاريدُ النوارسِ المحلِّقةِ في فضاءِ الشاطئِ كأرواحٍ بيضاءَ تدلُّ على اليقينِ. تجسَّدتْ مراحلُ العبورِ السبعِ، كأنها خريطةُ صائدٍ إرتحلَ عبرَ المحيطِ اللامتناهي، و كلُّ محطةٍ فيها سرٌّ ينكشفُ، ودرةٌ تتلألأُ.
كلُّ غوصةٍ كانتْ ميلادًا، وكلُّ نغمةٍ بوابةً لسرٍّ من الأسرارِ المدفونةِ في أعماقِ الذاتِ، والموجُ لمْ يعدْ تحدِّيًا، بلْ نبضًا يوحِّدُهُ بكيانِهِ، كأنهُ إمتدادٌ لروحِهِ السابحةِ في ملكوتِ العشقِ. في كلِّ تموُّجٍ، يرى وجهًا من وجوهِ الأزلِ يتراءى لهُ في مرآةِ القلبِ، وفي كلِّ صرخةِ نورسٍ، يسمعُ نداءً من أعماقِ اللاوعي، يهديهِ إلى بئرِ المعرفةِ. لمْ يكنْ هذا غرقًا، بلْ إرتقاءً في مدارجِ الروحِ، لمْ يكنْ ضياعًا، بلْ وجدانًا يُحيي كُلَّ ما هوَ خامدٌ في الفؤادِ. فمنْ تاهَ في بحرِ سيدي موسى، لنْ يضلَّ الطريقَ أبدًا، بلْ سيجدُ نفسَهُ في ميناءِ الوصولِ حيثُ الأمانُ المطلقُ والعرفانُ الأبديُّ.
تَجَلَّى العربيُّ، لا تائهًا في عوالمِ الأطلسيِّ السحيقةِ، بل مُتَوَحِّدًا مع لجَجِهَا، يَمْخُرُ عبابَ الدروبِ نحو الأعماقِ حيثُ النبضُ الأصيلُ. هناكَ، غاصَ في صميمِ النغمةِ الكَنَمْبرِيّةِ، روحِها العتيقةِ، وهيَ تُعانقُها ترانيمُ الموجِ الأزليّةُ كأنّها نشيدُ الكَونِ الأوّلِ، همسُ البدءِ.
خلفَ ظهرهِ، ظلَّ الشاطئُ يزغردُ بالنوارسِ، لا طيورًا عابرةً، بل أرواحًا بيضاءَ مُحلّقةً، دليلَ يقينٍ لا يتزعزعُ، بصيرةً لم يمسّها الزمنُ. وفي قبضتِهِ، إشتدَّ بأسُ النغماتِ كشلالٍ من النورِ و الظلِّ معًا، بدأتْ دندناتُها كصفيرِ السكونِ المُشْفَى، يهمسُ من أصدافِ اللؤلؤِ المخبّأةِ في قعرِ الروحِ؛ كلُّ دندنةٍ لؤلؤةُ سرٍّ.
توالتْ التجليداتُ "البرغماتِ"، تَشابكتْ مع أوتارِ على جلدِ الآلةِ العتيقِ، فما كانتْ نغمًا مجرّدًا، بل صلواتٍ مرجانيةً تنبضُ مِن عُمقِ البَحْرِ الروحيِّ، تُناشدُ أقصى درجاتِ الصفاءِ الممكنةِ. فتتسربُ في أعماقِ الروحِ، تَغسِلُها، وتُرصّعُها بدررِ السّرِ المُتجلّي، نورًا لا يخبو.
لقد تجسّدتْ مراحلُ العبورِ السبعُ أمامهُ، لم تكنْ مجردَ خطوطٍ على ورقٍ بالٍ، بل كانتْ خريطةَ صيّادٍ أرواحيٍّ إرتحلَ عبرَ المحيطِ اللامتناهي في ذاتهِ. وكلُّ محطّةٍ فيها ليستْ سوى سِرٍّ عميقٍ ينكشفُ مع كلِّ نفسٍ يشهقُها، ودرّةٍ تتلألأُ بضوءِ المعرفةِ، تُضيءُ دربَ العائدِ إلى ذاتهِ الأصليةِ، حيثُ البدايةُ والنهايةُ تتوحّدان.
تَغَيَّرَ ميزانُ العزفِ فجأةً؛ تَبَدَّلَتْ الإيقاعاتُ، إيذاناً بِوُلُوجِ طَرْحِ المَحَلَّةِ البَحْراوِيّةِ، حَيْثُ السِّرُّ يَتَجَلَّى، ويَنْكَشِفُ خَبِيءُ الكَوْنِ. وهكذا، إنْتَفَضَتِ الأمواجُ الهائجةُ، لا مِنْ قاعِ المُحِيطِ الزَّاهِرِ، بَلْ مِنْ عَدَمِ الرُّوحِ ذاتِهِ؛ مِنْ ذَلِكَ العَدَمِ السَّاكِنِ في أَعْمَاقِنَا.
مِنْ مَوْجَةٍ إلى أُخْرى، يَتَقَاذَفُ قَارِبُ الْحَالِ، لا تائِهًا في فَضَاءِ الأطلسيِّ الشّاسِعِ فَحَسْبُ، بَلْ في عوالِمِ الرُّوحِ المَجْهُولَةِ، التي لا تَطَالُها العَيْنُ البَشَرِيّةُ.
هُنا، بَدَأَتْ أهازيجُ الكَنَّاويّةِ البَحْراوِيّةِ تتداخلُ، لَيْسَ كَأَصْوَاتٍ عابِرَةٍ، بَلْ كَرَقْصِ الأمواجِ الهائجةِ عينِها، تُحرِّكُها رياحُ المُلوكِ الهَائِمَةِ، تِلكَ القِوَى الغَيبيّةُ التي لا تُرى.
المَلِكُ كَاتبَالا، ثَانِي مُلوكِ الجِنِّ الْبَحْرِيِّ، يَعْتَلِي عَرْشَهُ، فَيَحْجُبُ النُّورَ. عِنْدَ وُصُولِهِ، يَتلاشَى الشَّطُّ عَنْ بَصَرِ الرُّوحِ، و يَتَحَوَّلُ الْبَحْرُ إلى طَوْقٍ يَخْنُقُهَا، يَضْرِبُ حِصَارًا لا فَكاكَ مِنْهُ على الصَّيَّادِ المُتَشَبِّثِ بِخَيْطٍ واهٍ مِنَ الأمَلِ.
ثُمَّ يَأْتِي المَلِكُ مُوسَابَالا، فَيَدُبُّ الْخَوْفُ، لا فِي الْقَلْبِ، بَلْ في شرايينِ كُلِّ مَنْ سَلَكَ دُرُوبَ المَوْجِ المُتَلاطِمِ، ورَكِبَ قَوارِبَ الأمَلِ التي تَهَاوَتْ أَشْرِعَتُها.
وأَخِيرًا، المَلِكُ كوبايلا بالا، جَزَّارُ الْبَحْراوِيّةِ المُخِيفُ. في عَهْدِهِ، لا يَخِيمُ الظَّلامُ على الأُفُقِ فَحَسْبُ، بَلْ يَتَغَلْغَلُ في ثنايا الرُّوحِ. والأمواجُ التي كانتْ مُجَرَّدَ زَوَابِعَ عابِرَةٍ، تَتَحَوَّلُ إلى موجاتٍ خَانِقَةٍ، هائجةٍ تُحِيطُ بِالرُّوحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، تَدْفَعُها قَسْرًا نَحْوَ لُجَّةِ المَجْهُولِ الأَقْصَى، حَيْثُ لا عَوْدَةَ ولا نُورَ.
إنطوتْ صفحةُ الظلامِ الغارقِ، ولم يَعُدْ لـِكوبايلا بالا سلطانٌ على رُوحٍ نهضتْ. بلغَ العربيُّ ذروةَ الطرحِ الخامسِ في المحلّةِ البحراويّةِ، حيثُ كانَ الغرقُ المحدِقُ آخرَ أنفاسِ الموتِ، لا لِنهايةٍ قاطعةٍ، بل لِولادةٍ مُذهلةٍ. كانَ بابًا إنفتَحَ على إتّساعِ عوالمَ لم تُدركْها الأبصارُ بَعدُ.
فمِنْ ذاكَ القاعِ المُتوّجِ بِسُلطانِ الظلامِ الدامسِ، إنبعثتْ الروحُ، لا غارقةً في برَكِ اليأسِ الآسنةِ، بل سابحةً كَطَيفٍ نُورانيٍّ خفيفٍ، تتّجهُ مُباشرةً نحو رحابِ الطرحِ السادسِ. هناكَ، في عُمقِ المحلّةِ الزرقاءِ الفسيحةِ الأبديةِ، يَتَجلّى طرحُ الملكِ بالاموسكا.
يُلوّحُ الملكُ بالاموسكا بأشرعةٍ من نورٍ منسوجٍ من خيوطِ الفجرِ الأولِ، مُبشّرًا بِزُرقةٍ عميقةٍ تَغسِلُ جفافَ الرّوحِ المُنهكةِ. زُرقةٍ تُبلِّلُ ما تبقّى من عطشِ السوادِ الذي كادَ أنْ يفتكَ بها، و تُزهرُ فيها حدائقُ اليقينِ الوارفةِ، بعدَ عبورِ لججِ التّيهِ المُظلمِ الذي إستنزفَها. إنّها ليستْ مجردَ عودةِ اللونِ إلى العَينِ، بل هيَ عودةُ الحياةِ إلى الأملِ في القلبِ، بعدَ أنْ طُهِرتْ الرّوحُ بِنارِ التجربةِ القاسيةِ، وإرتوتْ من نبعِ النورِ المُنتظَرِ.
هنا، إنْعَطَفَ الكَنَمْبَرِيُّ في عزفِهِ، لم يكنْ تبدّلاً عابراً في لحنٍ، بل كانَ النّغمُ يتّخذُ وجهةً أعمقَ في الرّوحِ، نحو الحياةِ الباطنةِ. هناكَ، حيثُ الحقيقةُ الكامنةُ في خبايا البحرِ، في أسرارِ أعماقِهِ القديمةِ التي لا تُحصى، كانتْ تُنادي من بينِ صخرِ الزّمنِ الغائرِ.
بدأَ العربيُّ يُدندنُ، لا بِعَزفٍ عاديٍّ يمرّ، بل بهدوءِ المُقتنعِ المُحنّكِ، صدىً لِروحٍ جارتْ عليها أمواجُ الأيامِ القاسيةِ، وظُلمُ السنينِ الذي نحتَ خطوطَهُ العميقةَ على محيّا الوجودِ. كانَ صوتُهُ همسَ رجلٍ بلغَ الرّجولةَ الكاملةَ، قَنِعَ من الحياةِ البشريّةِ بعدما تاهَ في بحارها المتراميةِ الأطرافِ، وذاعَ متنقّلاً بينَ موانئها المليئةِ بِالسرابِ والخداعِ، على متنِ سُفُنِ الألمِ السَّقيمِ الذي إستوطنَ القلبَ حتى النّهايةِ. كانتْ دموعُهُ دمويّةً، نازفةً من أعماقِ الفؤادِ المُنهَكِ، حتى بلغتْ صيفَ الجفافِ الأخيرَ، فلمْ يَعُدْ للعينِ ما تُسكبُهُ غيرَ فراغِ العدمِ المُطبقِ.
كانَ العربيُّ يُغنّي بِصوتِ الشيخِ العجوزِ، الذي نجا فجأةً من هلاكِ البحرِ وإبتلاعِهِ المُروّعِ، لكنَّ نجاتَهُ تلكَ لم تكنْ يقينًا كاملاً يُطمئنُ الرّوحَ. لقد إبتعدَ عن الموجِ الهادرِ في لحظةٍ خاطفةٍ، كَخَطْفِ البصرِ الذي لا يرى ما بعدَهُ، دونَ أنْ يتأكدَ أنَّهُ سيبلغُ الشطَّ الأخيرَ الذي يُشيرُ إلى نهايةِ رحلةِ العذابِ، أو أنَّهُ وجدَ الملاذَ الحقيقيَّ الذي يُسكّنُ إضطرابَ الرّوحِ الأبديّ. ظلَّ مُعلّقًا بينَ نجاةٍ مُبهَمةٍ تُراوِغُ الوضوحَ، وشطٍّ يرقصُ على الأفقِ البعيدِ، لا يَستقرُّ في مكانٍ، كَوَهْمٍ لا يَزولُ.
بصوتٍ نُحِتَ من أمواجِ الأيامِ الهائجةِ الجارفةِ، وشُكِّلَ بأهوالِ الزمنِ التي إجتاحتْ كلَّ مألوفٍ، غنّى العربيُّ. كانَ كصيّادٍ عجوزٍ لمْ يتبقَّ لهُ قاربٌ ولا مجدافٌ، ولا شباكٌ تُرجّي صيدًا، فقدَ كلَّ عُدَّةِ ركوبِ بحرِ الحياةِ، ومعَ ذلكَ لمْ تطَلْهُ يدُ الهلاكِ الأخيرِ. وروحُهُ، معَ كلِّ كلمةٍ، كانتْ ترتفعُ كبخورٍ مقدّسٍ يتصاعدُ نحو اللاّنهائيّ
لمْ يكنْ صوتُهُ مجردَ غناءٍ عابرٍ، بل كانَ ترنيمةَ ناجٍ أزليَّةً، صدىً لِفقدٍ عميقٍ حفرَ في الروحِ أخاديدَ لا تُمحى، وبقاءٍ مُعجِزٍ تحدّى العدمَ في أقصى تجليّاته. كانتْ كلُّ كلمةٍ فيهِ خيطَ أملٍ نُسجَ من ألمٍ قديمٍ، وهمسَ روحٍ تجاوزتْ حافةَ الهاويةِ، لتُعلنَ الميلادَ من صميمِ الفناءِ، فجراً يشرقُ من قلبِ الظلامِ السرمديّ.
ماوما بالا موسكا
كيجانا بالاموسكا
يا ولون آسماوي
بابا موسى جاني
يا بواب المرسى
يا واسيدي موسى ...
ماءٌ… ماءٌ
يتدفّقُ من بالاموسكا،
ليسَ سائلًا،
بل روحٌ تتجلّى.
هيَ الجنةُ ذاتُها،
بالا موسكا تشرقُ،
تُعانقُ الروحَ بعدَ عُبورِ الظلماتِ،
فكانَ العناقُ ميلادًا.
ها قدْ جاءني بابا موسى،
لا شبحًا، بل نورًا يتجسّدُ.
يا بوّابَ المرسى يا سيّدي موسى…
فيكَ تُرسي الروحُ سفينةَ أعوامِها الشاحبةِ،
تُلقي مراسيَها في سكونِ اليقينِ الأبديّ.
ذاقتْ كلَّ موجةِ غيابٍ، وكلَّ عُرسِ انتظارٍ.
بعدَ ذاكَ، إرتقى العربيُّ، لا في عزفٍ فحسب، بل في صعودِ الروحِ ذاتِها. تَنَفَّسَ قمةَ التجلّي، مُتَسلّقًا درجاتِ النّغمِ في سُلّمِ محلّةِ البحرِ العميقِ. كلُّ مَقامٍ ملكيٍّ، محطّةٌ كبرى في مدارِ الروحِ المُتّسعِ نحو اللانهايةِ. بلغَ طرحَ سيدي و العارِ عليكَ؛ متوسّلاً ملوكَ البحراويّةِ العظامَ، بَدءاً من بوّابِ الميناءِ، مَن مَنحَهُ جوازَ العبورِ إلى العالمِ الخفيِّ، ذاكَ المجهولِ الذي لم يَعُدْ صامتًا، بل يُنادي بإسمِهِ.
ثمّ، كانَ الوصولُ إلى الملكِ بويانا البحريِّ، الأبِ الروحيِّ، الحنونِ الرّحيمِ الذي يَمحو كلَّ زَلّةٍ بلمسةٍ. يُذكّرُنا ذاكَ المَلِكُ بِالإنسانِ حينَ إقتربَ أجلُهُ، وشعرَ بِدنوِّ وقتِ الرحيلِ من هذهِ الدنيا الفانيةِ، لحظةَ الوداعِ الكُبرى. تلكَ اللحظةُ ليستْ نهايةً، بل تطهيرٌ للروحِ، إعدادٌ لِإنتقالٍ أبديٍّ، حيثُ السلامُ يَعمُّ و السّكينةُ تُعانقُ الأزلَ.
وختاماً، إنبلجَ اللقاءُ، لم يكنْ عابرًا، بل أبديًّا، معَ كبيرِ البحراويّين، ملكِ الملوكِ الأعظمِ، بابا موسى الأفخمِ. سيّدُ الماءِ، سرُّ الحياةِ المتدفّقِ أبدًا، و ذاكرةُ الوجودِ السّرمديّةِ التي لا يُدركها فناءٌ، ولا يُطالُها نسيانٌ.
هنا، حيثُ تلامسُ الروحُ أفقَها الأقصى، حيثُ ينتهي البحثُ الطويلُ. كانَ إدراكُ المبتغى الحقيقيِّ، ذاكَ السّرُّ الذي طالَ سعيُ الروحِ وراءَهُ. هنا، كانَ الوصولُ إلى شاطئِ الأمانِ، الذي طالَ إنتظارُهُ، بعدَ أنْ عبَرَتِ الروحُ كلَّ لججِ التّيهِ، و عادتْ إلى مأواها الأخيرِ.
هنا، كانَ العربيُّ يغني، لا حنجرةً ترددُ صدىً، بل روحاً تصفُ صياداً. صياداً إصطادَ السمكَ من شاطئٍ كانَ بالأمسِ مَلاذاً آمناً، ليجدَ نفسَهُ فجأةً، ودونَ سابقِ إنذارٍ، مُلقىً في أعماقِ المحيطِ الهادرةِ. تملّكهُ الخوفُ من كلِّ جانبٍ، كظِلٍّ لا يبرحُ، يلتصقُ بالرّوحِ قبلَ الجسدِ. ذاكَ هوَ طرحُ بالا موساكا، حيثُ البدايةُ وهمٌ مُخادعٌ، والنهايةُ مجهولٌ يبتلعُ اليقينَ.
وبعدَ الولوجِ في طرحِ كوبايلي بالا، أُلقيَ الصيادُ وحيداً، معزولاً في قلبِ المحيطِ الذي لا يعرفُ رحمةً. الأمواجُ الهائجةُ، التي لا تعرفُ شفقةً، كانتْ تتقاذفُهُ كقشةٍ في عاصفةٍ أزليةٍ. هنا، إرتفعتْ أغنيةُ العربيِّ، لا بصوتٍ عاديٍّ، بل بغصّةِ المظلومِ، صوتٌ نالَ منهُ الألمُ والحزنُ حتى النّخاعِ، حتى إستقرّا في أعمقِ خلايا الروحِ. كأنّهُ مكلومٌ طُعِنَ قلبُهُ بأنصالِ الحديدِ الحادِّ، مُترنّماً بوجعٍ يخترقُ الروحَ، ويُحاكي صرخاتِ الأعماقِ التي لا يسمعها بشرٌ.
كانَ يصدحُ مردّدًا:
الدنيا غدارة ما عندي ولي.....
ما عندي صحابي.....
ربي والي ......
هُنا، بينَ وهجِ الأنغامِ المُقدّسةِ، يتجلّى المصابُ بالأرياحِ، أوِ المريضُ الذي قامتْ لأجلِهِ الليلةُ؛ لا ينجذبُ كَخيطٍ واهنٍ، بل كَطَيفِ نورٍ مُنسابٍ من الأعماقِ، يَحْضرُ أمامَ المُعلّمِ العربيِّ، مركزِ الكونِ الحيِّ. يحيطُ بهِ عَازِفو الصُّنوجِ الحديديةِ، ثلاثةٌ عن يمينِهِ تتهادى، وثلاثةٌ آخرونَ عن شِمالِهِ تتراقصُ، في تناغمٍ كونيٍّ يحاكي نبضَ النجومِ السابحةِ في الفضاءِ الأزليّ.
كأنّهُ شَوكةُ الميزانِ العظمى التي لا تضبطُ إيقاعَ لحنٍ عابرٍ، بل الإيقاعاتِ الكونيّةَ ذاتَها، يُناطُ بِهِ الوزنُ الدقيقُ لكلِّ ذرّةٍ في الوجودِ، والصفاءُ المطلَقُ الذي يبلغُ حدَّ البدايةِ والنهايةِ. رأسُهُ، المكلّلُ بجوهرةِ الكنمبريِّ المتلألئةِ، ليسَ مجردَ رأسٍ، بل هوَ بوصلةُ الروحِ المُطلقةِ، التي لا تُشيرُ إلى الشفاءِ فَحسبُ، بل إلى التوازنِ المُستعادِ بينَ أزليةِ الأرضِ المُمتدةِ و سرمديةِ السماءِ التي لا تنتهي، حيثُ تلتقي الأبعادُ وتتوحّدُ الكينونةُ.
هُنا، بينَ سُتُرِ النغمِ الخفيّةِ، تتجلّى رقصاتٌ للمريضِ، ليستْ تلكَ التي تُحاكي غاباتِ الجنِّ الأسودِ بوهجِها البدائيِّ، ولا دمويةَ السيوفِ التي تعصفُ في قبضةِ الجنِّ الأحمرِ. لم تكنْ حتى رقصاتِ المخملِ والتمايلِ الباذخِ لملكاتِ الجنيّاتِ الحالماتِ.
إنّما الرقصُ هنا يتّخذُ منحىً آخرَ؛ إنّهُ محاكاةٌ لرقصةِ المحيطِ العظيمِ ذاتِهِ، لِلُججِ الأمواجِ الخانقةِ، وللتيّاراتِ البحريّةِ القاتلةِ التي لا تعرفُ رحمةً. إنّهُ صراعٌ أزليٌّ ضدَّ الأضدادِ المتناحرةِ في مُكوّنِ الماءِ الأبديِّ؛ كأنّهُ يُصارعُ من أجلِ البقاءِ، ليجتنبَ الغرقَ الأكيدَ، والموتَ إختناقًا في لججِ العدمِ.
إنّها رقصةُ روحِ المياهِ، جذبةُ المحيطاتِ الهادرةِ، تلكَ التي إمّا أنْ تكونَ بساطَ النجاةِ والسلامِ الذي يُشِعُّ في أقصى الظلماتِ أو الغرقَ المحدقَ حيثُ الهلاكُ الأبديُّ يترصّدُ، قَدَرًا لا مَفرَّ منهُ.
وهكذا، إنقضتْ ليلةُ المَساويينَ؛ ليلَةٌ تراقَصَتْ فيها الأهازيجُ السَّمَاوِيَّةُ، ترنيماتٌ روحانيّةٌ كناويّةٌ، كأنّها نَفَثَاتُ قلبٍ عابدٍ مُشتاقٍ، تُناشدُ ملوكِ الجنِّ البحراويّينَ في أعماقِ اللازَوَرْديِّ اللَّامُتَنَاهي. صَعَدَتْ تلكَ النَّجْوَى، حتّى وَصَلَتْ إلى ملكِ الملوكِ الأعظمِ، بابا موسى؛ سيّدِ الماءِ المُنهمرِ، نبضِ الحياةِ السَّاريةِ في كلِّ كائنٍ، و ذاكرةِ الوجودِ السَّرْمَدِيَّةِ التي لا تُدركُها عينُ بشرٍ، ولا يَطالُها فناءٌ.
تَلَتْ تلكَ الليلةَ البحريّةَ، المحلّةُ السادسةُ؛ محلّةُ الجنِّ السَّماويّينَ، حيثُ تتجلّى الرّوحُ في عليائِها، مُتوحّدةً معَ النورِ القدسيِّ الذي يغمرُ كلَّ شيءٍ. هناكَ، كـَالملكِ السَّماويِّ المُضيءِ الذي تُشِعُّ منهُ الأكوانُ، والملكِ سيدي سَما بولاندي الذي تُصافحُ أنغامُهُ الأثيريّةُ أفلاكَ النّورِ المُتوهّجِ، فيَنصهرُ الزَّمنُ في رقصةٍ أبديّةٍ، لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، رقصةٌ تُذيبُ الفواصلَ بينَ العالمينِ.
نشيد الماء؛ ترنيمةُ الروحِ العطشى
البحراويُّ، سيّدُ الماءِ...
سيدي موسى، سيّدُ الماءِ...
إسكبِ الماءَ يا سيّدَ الماءِ،
رَوِّي ظمأَ روحٍ في التيهِ هامتْ.
دارَ الأمانِ، يا صاحبَ الماءِ...
دارَ الأمانِ، يا صاحبَ الماءِ...
لقد عبرتُ بحارًا كثيرةً،
تجاويفَ الروحِ والأيامِ،
وإجتزتُ الكثيرَ من الأوديةِ،
واديَ الألمِ وواديَ الصّمتِ.
مرحبًا بسيّدِ الماءِ،
يا منْ بِجودِكَ الأرواحُ تحيا.
العائمونَ يا سيّدَ الماءِ...
العائمونَ يا سيّدَ الماءِ...
أمدِدْ يدًا لقلوبٍ أضناها العَناءُ.
مكِّنّي جرعةً، يا سيّدَ الماءِ...
مكِّنّي جرعةً، يا مولايَ يعقوبُ...
ها أنتَ تداوي العِللَ،
تداري العيوبَ،
تَمحو آثارَ السنينَ.
سيدي موسى...
بابا موسى...
يا دارَ الأمانِ...
لقد إنفلتتْ من يديّ... سمكةٌ ذهبيّةٌ،
روحٍ حُرّةٍ، ضاعتْ في زحامِ الدّنيا،
فهلْ تعيدُها يدُكَ، يا سيّدَ الماءِ.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟