أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-















المزيد.....



الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 14:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بعدَ مضيِّ سنينَ وسنينَ، ترانيمُ دهرٍ تتوالى كَنبضِ الروحِ في عروقِ الأزلِ، ماتَ المعلمُ عبدُ الحكيمِ، وقضى نحبهُ، لا كَزهرٍ ذابلٍ يطويهِ الفناءُ، بل كَنَجْمٍ هوى في سماءِ المطلقِ، مُخلّفًا أثرًا من نورٍ، لكنَّ نورهُ ظلَّ حيًّا في الأرواحِ، كَشرارةٍ قدسيةٍ تُضيءُ دربَ السائرينَ في ظلماتِ الباطنِ.
كانَ أحدُ تلامذتهِ، العازفينَ على الصنوجِ الحديديةِ، "كويو"، قد ورثَ آلةَ الكَنَمْبَرِيِّ من معلمهِ عبدِ الحكيمَ، لا مجردَ آلةٍ من خشبٍ وجلدٍ تُمسكُها الأيادي، بل قلبًا ينبضُ بالسرِّ الأزليِّ، و وعاءً للعهدِ المقدسِ، يحملُ بصماتِ الأرواحِ الخالدةِ، كنقشٍ لا يمحوهُ زمانٌ.
وبدأَ المعلم الجديد يُقيمُ اللياليَ الكناويةَ للجنِّ الأحمرِ، لا كطقسٍ يُعادُ في رتابةٍ، بل كَشَعْلةٍ أزليةٍ تُوقدُ في عتمةِ الزمنِ، تُعيدُ إحياءَ طقوسٍ قديمةٍ، وتُبعثُ فيها روحَ الوجودِ، كَنَفْخٍ في صورٍ يحيي الموتى، كما كانَ يفعلُ المعلمُ عبدُ الحكيمَ رحمهُ اللهُ، كَتِرياقٍ لِأرواحٍ متعطشةٍ لِليقينِ، تُسقى من نبعِ المعرفةِ الخفيةِ. مضتْ سنينَ وسنينَ، لا كَمجردِ أيامٍ وليالٍ تذروها الرياحُ، بل كَنَهْرٍ أسطوريٍّ لا يتوقفُ عن الجريانِ، يحملُ في تيّاراتِهِ قصصَ الأجيالِ، ويُغني لِسرٍّ لا يُفنى، خُطَّ في كتابِ الدهورِ.
كانَ كلُّ واحدٍ من المعلمينَ الذينَ ورثوا الكَنَمْبَرِيَّ يرمّمُ الآلةَ قدرَ المستطاعِ، لا كَمجردِ إصلاحٍ لمادةٍ، بل كَمَنْ يُعيدُ بناءَ صرحٍ قدسيٍّ من نورٍ و روحٍ، يُحافظُ على قدسيةِ أسرارهِ، و يُجدّدُ عهودَهُ مع الغيبِ، في كلِّ وترٍ يُشدُّ. ويعتني بها بأقصى ما يمكنُ، وكأنّها قلبٌ مصانٌ بينَ طيّاتِ الضلوعِ، ينبضُ بأسرارٍ كونيةٍ، تُشِعُّ نورًا في ظلماتِ الوجودِ، فَتَكْشِفُ عن خفايا لم تُدرَكْ. حيثُ يودعُ السرَّ الغابرَ المفقودَ في غياهبِ الكتمانِ، كَنَقْشٍ خفيٍّ على جدارِ الغيبِ، لا يُبصرهُ إلا من أُذِنَ لهُ، بِنورٍ من نورِ اللهِ، يتسلّلُ إلى عمقِ البصيرةِ.
من بوبكرَ رحمهُ اللهُ، أولُ ومضةِ نورٍ في العهدِ، كَشُرُوقِ فجرٍ من القدمِ، إلى عبدِ الحكيمَ، وباقي كلِّ المعلمينَ الآخرينَ، الذينَ توارثوا السرَّ القديمَ فيما بينهم، من المعلمِ إلى تلميذهِ، وهكذا، كَسِلسلةٍ ذهبيةٍ لا تنقطعُ، تُروي قصصَ الأجيالِ، و تحملُ نورَ العهدِ الأبديِّ، من روحٍ إلى روحٍ، في رحلةٍ تُخطّها الأرواحُ بنجومِ السماءِ، وتُشحَنُ بوهجِ اليقينِ، لِتُضيءَ دروبَ الخلودِ، وتكشفَ عن معانٍ لا تُفنى.
لأنَّ الكَنَمْبَرِيَّ قد باتَ في محلةِ الجنِّ الأحمرِ، لم يعدْ مجردَ آلةٍ صامتةٍ خاضعةٍ لِمَشيئةِ الفانينَ، بل غدا موشومًا بالدمِ القاني، تُفجّرُ منهُ رائحةُ المجازرِ الأزليةِ، وعبقُ المسالخِ الداميةِ، كَشاهدٍ أبديٍّ على عهودٍ قُدسيّةٍ نُقِشتْ بسرٍّ غابرٍ، يَتَسامى عن إدراكِ البشرِ.
هذا المعلمُ الجديدُ، الذي كانَ يُجيدُ العزفَ على الصنوجِ الحديديةِ، تراءى لهُ عبدُ الحكيمَ في المنامِ، لا كَطيفٍ عابرٍ يمرُّ في حديقةِ الذاكرةِ، بل كَروحٍ تُناجي الأرواحَ في ملكوتِ اليقينِ، و تُلقي وصيةَ العهدِ، كَوَحْيٍ مُنزَلٍ من سماءِ الغيبِ، في سلسلةٍ أزليةٍ من الأسرارِ المُتوارثةِ، عبرَ أجيالِ العشقِ. كانَ إسمهُ العربيَّ، وقد أوصاهُ عبدُ الحكيمَ وصيةَ الروحِ، أن يعتنيَ بـالكَنَمْبَرِيِّ و يصونهُ، لا مجردَ صيانةٍ لِأداةٍ ماديةٍ، بل حمايةً لسرٍّ كونيٍّ أزليٍّ، وعهدٍ أبديٍّ، مكتوبٍ بمدادِ النورِ الإلهيِّ، لِيُصبحَ منارةً لِلقلوبِ التائهةِ. أن يستمرَّ في الإشتغالِ عليهِ، لا مجردَ عزفٍ يُطربُ الأسماعَ، بل في إقامةِ الليالي الدمويةِ، كَشَعْلةٍ أزليةٍ لا تنطفئُ، تُضيءُ ظلماتِ اللاوعيِ العميقِ، وتُبعثِرُ حدودَ الزمانِ والمكانِ، في رقصةٍ صوفيةٍ تُعيدُ تشكيلَ الواقعِ على إيقاعاتِ القهرِ و القوةِ، وترانيمِ الأرواحِ التي تُروى، من روحٍ إلى روحٍ، عبرَ نبضِ الدمِ الساري في عروقِ الأزلِ، ليُصبحَ لحنًا خالدًا يُرتّلُ في فضاءِ الوجودِ، و يُسجّلُ في كتابِ الخلودِ.
مرَّتْ سنينُ وسنينُ، لا كَأنفاسٍ عابرةٍ تذروها الرياحُ، بل طوتْ صفحاتِ الزمنِ كَلفائفَ مقدسةٍ، ووشمتْ آثارَها في قلبِ الوجودِ، كنقوشٍ أزليةٍ تُحاكي سرَّ الكونِ المُبهمِ.
نحنُ الآنَ في بدايةِ سنواتِ الستيناتِ من القرنِ الماضي، حيثُ الماضي السحيقُ والحاضرُ يتعانقانِ في رقصةٍ أبديةٍ، تُشعلُ نارَ الذكرى في القلوبِ. كلّما مضى الوقتُ، زادتْ قيمةُ الكَنمْبَرِيِّ وكبرتْ، لا كَمادّةٍ تُقدّرُها الأعينُ الفانيةُ، بل كَنَجْمٍ يتوهّجُ في سماءِ الأسرارِ، تُرسلُ خيوطَ النورِ إلى أعماقِ الروحِ، و تَعْظُمُ هالتُهُ في قلوبِ العشّاقِ، كَوَحْيٍ سماويٍّ يُلهمُ النفوسَ، ويُوقظُ فيها كوامنَ العشقِ. إلى درجةِ أنّهُ في موسمِ سيدي مسعودِ بنِ حسّاينَ، كانَ الناسُ يحضرونَ بكثرةٍ في الليالي والعشياتِ، لا كَجموعٍ بشريةٍ عاديةٍ، بل كَفيضٍ بشريٍّ يتدفقُ نحو قدسيةٍ غامضةٍ، كَسَيْلٍ من الأرواحِ العطشى تتوقُ إلى نبعِ النورِ، فتُسقى منهُ شفاءً وبلسمًا. وكانوا يُحضرونَ الذبائحَ، التقدماتِ والهدايا الروحيةَ (الصواباتِ)، كَقرابينَ تُقدمُ لِأرواحٍ لا تُرى بالعينِ المجردةِ، لكنّها تُحسُّ كَنَبْضٍ خفيٍّ في عمقِ الوجودِ، يُحرّكُ القلوبَ. كانوا خاضعينَ للجزارينَ الحمرِ، لا كَعبيدٍ يُقادونَ، بل كَأرواحٍ تُسلّمُ مصيرَها لِقوةٍ عليا، لا تُقاومُ، في خشوعٍ مطلقٍ يلامسُ الأزلَ، ويريدونَ نيلَ بركاتهم، كَنورٍ يُضيءُ دروبَ الأملِ في ظلماتِ اليقينِ، في رحلةٍ تُخطّها الأرواحُ بنجومِ السماءِ، وتُشحَنُ بوهجِ القداسةِ.
في ذاكَ الوقتِ، إشتهرَ هذا الكَنَمْبَرِيُّ بينَ المرضى الروحيينَ والمجاذيبِ أصحابِ الحضرةِ الدمويةِ، والحالِ الروحانيِّ، كَبلسمٍ لِجراحِ الروحِ، ومفتاحٍ لِأبوابِ الغيبِ المُوصدةِ، يُشِعُّ نورًا في دروبِ الحائرينَ، ويُضيءُ لهم سبيلَ اليقينِ. في وقتٍ من الأوقاتِ، كانَ الكَنَمْبَرِيُّ يوضعُ فوقَ مكانٍ عالٍ جدًّا، كَعرشٍ مقدّسٍ يُعلي مكانتهُ بينَ العوالمِ، قد أصبحَ تمثالًا مبجّلًا تُرفعُ لهُ الرؤوسُ، أو أيقونةً مقدسةً تُضاءُ بِنورِ الأسرارِ، وتُشِعُّ قداسةً تلامسُ أبعادَ الروحِ.
فكانَ لا بدَّ لذاكَ الإنسانِ المجذوبِ أو المريضِ أن يمشيَ إلى مكانِ الكَنَمْبَرِيِّ، لا كَخطواتٍ عاديةٍ تُسجّلها الأرضُ، بل كَحاجٍّ يتّجهُ نحو قبلةِ الروحِ، في رحلةٍ تُخطّها الأرواحُ بنجومِ السماءِ، وتُروى قصتُها في سجلِّ الخلودِ، عبرَ أجيالِ العشقِ، و يبذلَ جهدًا جهيدًا حتى يتمكنَ من وضعِ راحةِ يدهِ عليهِ و تقبيلهِ، كَعاشقٍ يضمُّ حبيبهُ الأبديَّ، يتلقّى منهُ نفحاتِ القداسةِ، وأسرارَ اليقينِ، في همسٍ خفيٍّ. ثمَّ يضعُ يدهُ عليهِ مرةً أخرى ويقبلهُ من أجلِ التبركِ ونيلِ النفحاتِ من الجنِّ التابعينَ لزاويةِ الحمرِ، والناسُ جميعًا كانوا يأتونَ لأخذِ البركةِ، كَطوفانٍ من الأرواحِ العطشى، يبحثُ عن النورِ في ظلماتِ الوجودِ، في شغفٍ لا ينتهي، و لهفةٍ تُلامسُ الأزلَ، و تُعلي رايةَ العشقِ الأبديِّ.
في ليلٍ ساحرٍ، حيثُ الفلكُ يدورُ في فضاءِ الأسرارِ، كانَ العربيُّ ومجموعتهُ يُقيمونَ ليلةً في دارٍ، تَشْهَدُها الأرواحُ العاليةُ، وتَسْكَرُ فيها النفوسُ من سحرِ النغمِ، كَخَمْرٍ قديمٍ يُحيي القلوبَ الغافلةَ. بعدَ إنتهاءِ عملهِ، شعرَ بإرهاقٍ وتعبٍ، يرافقهُ دوارٌ في الرأسِ، كَغَيْمةٍ عابرةٍ تُظلّلُ الوعيَ، أو كَأثرٍ لِرحلةٍ عميقةٍ في عوالمَ أخرى، لم تُدركها العينُ الفانيةُ.
حملَهُ رفاقُهُ إلى منزلٍ قريبٍ لِيقضيَ ليلتهُ و يستريحَ، ثمَّ يذهبَ في الغدِ عندَ الحكيمِ أو العشّابِ، كَرحلةِ روحٍ تبحثُ عن مأوىً في محرابِ القداسةِ، عن دواءٍ لِتعبِ الوجودِ، يُسقى من نبعِ اليقينِ الصافي. كانَ يشعرُ فقط بعياءٍ طفيفٍ، ناتجٍ عن سهرٍ وجهدٍ في العزفِ والغناءِ، كَهَمْسَةٍ خفيفةٍ تُذكّرُهُ بِأثرِ العشقِ الأزليِّ، ولوعةِ الفنِّ الذي يلامسُ أوتارَ الأرواحِ.
أخذَ النومُ العربيَّ، لا كَمجردِ غفوةٍ عابرةٍ، بل كَفراشةٍ أثيريةٍ تُلامسُ زهرَ الغيبِ، يُسافرُ إلى أعماقِ اللاوعيِ، ليُبصرَ ما خفيَ عن العيونِ، في رؤيا من عالمِ النورِ. وبدأَ يرى في حلمهِ إمرأتينِ تتقدّمانِ نحوهُ، جمالُهُما منقطعُ النظيرِ، لا يُوصفُ بِلُغةِ البشرِ، بل كَآيتينِ من آياتِ الحسنِ الربانيِّ، تُشِعُّ منهما الأنوارُ، فتُضيءُ ظلماتِ الروحِ، و تكشفُ عن أسرارِ الوجودِ. إحداهما ترتدي البنفسجيَّ، كَشَفَقٍ مُتَلوّنٍ يلامسُ الروحَ، و يُعانقُ أسرارَ الغروبِ الأبديِّ، والأخرى الأصفرَ، كَشمسٍ ذهبيةٍ تُضيءُ دروبَ الغيبِ، وتُبعثِرُ ظلالَ الشكِّ من القلوبِ.
نادتاهُ في آنٍ واحدٍ، بصوتٍ مخملي يحملُ صدى الأزلِ، كَنَبضِ الكونِ ذاتِهِ يتردّدُ في فضاءِ العدمِ، في نداءٍ يوقظُ الروحَ:
العربيُّ... ويا العربيُّ، إذهبْ إلى مرشيشَ وطهّرِ الكَنَمْبَرِيَّ، إذهبْ إلى مرشيشَ وعطّرِ الكَنَمْبَرِيَّ، أقلعْ منهُ رائحةَ المجازرِ الزفرةَ.
كان نداءهن كَصيحةٍ من عالمِ النهرِ المقدسِ، تُطالبُ بالتطهيرِ، وإزالةِ أثرِ الدمِ الذي لطّخَ الروحَ، ويُعيدُ إليها نقاءَها.
ثمَّ إرتفعَ صوتُهما، يخترقُ حجبَ اللاوعيِ، و يُوقظُ كلَّ خليةٍ في الجسدِ:
العربيُّ إستيقظْ... العربيُّ إستيقظْ...
سوفَ تتحرّرُ من سطوةِ الجنِّ الأحمرِ،
من قيودِ عهدٍ قديمٍ، و سلاسلِ الظلامِ التي كبّلتْ الروحَ؛ إطبعْ لنا الكَنَمْبَرِيَّ بطابعنا فقط...
كان صوتهن الناعم كَوَحْيٍ مُنزَلٍ من سماءِ المعرفةِ، كَإنذارٍ سماويٍّ يُعلنُ عن بدايةِ عهدٍ جديدٍ، وتحوّلٍ كونيٍّ، من عالمِ الدمِ إلى عالمِ الطهرِ، من قيدِ السطوةِ إلى حريةِ الروحِ، في نداءٍ أبديٍّ يُشعلُ نورَ اليقينِ في قلبِ المجذوبِ، ويُشيرُ إلى طريقِ الخلاصِ الأبديِّ.
إستيقظَ العربيُّ من الحلمٍ، لا كصحوٍ عابرٍ، بل مُفزَعًا، يلهجُ في إضطرابِ الوعيٍ، كَطائرٍ أسطوريٍّ أفاقَ على فزعٍ من طيرهِ، و قد لامسَ جناحاهُ سرَّ الغيبِ الأقصى. فكرَ كثيرًا، لا كَتقليبِ أمرٍ عاديٍّ في زوايا الذهنِ البشريِّ، بل كَلَبْلابٍ أزليٍّ يتشابكُ حولَ جذعِ اليقينِ، تُصارعُ نفسُهُ بينَ الخضوعِ المُطلقِ لِنداءِ الروحِ والتمردِ الكامنِ، في معركةٍ روحيةٍ تُحددُ المصيرَ. وفي الأخيرِ، قررَ أن يمتثلَ ويخضعَ لِتنفيذِ ما رآهُ في الحلمِ، لا كَضعفٍ، بل كَتلميذٍ يُسلّمُ أمرَهُ لِمعلمٍ سماويٍّ، تُكتبُ لهُ مسيرةٌ جديدةٌ، من نورٍ ونارٍ، في سجلِّ الخلودِ الذي لا يمحوهُ زمانٌ.
كانَ العربيُّ معلمًا كناويًّا بارعًا، لا مجردَ عازفٍ لِلَحنٍ فانٍ يزولُ بزوالِ الوقتِ، بل سيدَ نغمٍ يُلامسُ أوتارَ الأرواحِ الخفيةِ، يُشعلُ فيها جذوةَ العشقِ الأزليِّ، ويُبعثِرُ بها حدودَ الوعيِ، لِيُطلِقَ الأرواحَ من سجونِها. كانَ يدركُ في قرارةِ نفسهِ، كَيَقينٍ لا يتزعزعُ، أنهُ ممنوعٌ عليهِ أن يلعبَ أيَّ معزوفاتٍ، أو يُغنّي أيَّ أهازيجَ لا تخصُّ المحلةَ الحمراءَ، كَفارسٍ مُقيّدٍ بعهدٍ قديمٍ، خُطَّ بمدادِ الدمِ والسرِّ، لا يجرؤُ على كسرِ قيودهِ، فَنارُ العهدِ تُصهرُ كلَّ عصيانٍ، وتُضيءُ دروبَ الطاعةِ، لِتُعلنَ عن ولادةِ فجرٍ جديدٍ في روحهِ، يشرقُ بنورِ التطهيرِ، ويُحرّرُ النفسَ من قيودِ الماضي، لِتُحلّقَ في فضاءِ الروحِ المطلقِ.
جهَّزَ العربيُّ نفسَهُ للسفرِ، لا كَرَاكبٍ عاديٍّ يذرعُ الدروبَ، بل كَفارسٍ يمتطي صهوةَ اليقينِ، يتّجهُ إلى ضريحِ سيدي مرشيشَ، حيثُ ستُكتبُ فصولٌ جديدةٌ، لا في كتابِ الزمنِ الفاني، بل في سجلِّ الروحِ الخالدِ. هنا سيكتبُ فصلًا جديدًا آخرَ في حياةِ هذا الكَنَمْبَرِيِّ، لا كَحدثٍ عابرٍ، بل كَقصيدةٍ سماويةٍ تُرتّلُها الأجيالُ، وتُشْفَى بها الأرواحُ العليلةُ، من كلِّ ألمٍ.
حينما نزلَ العربيُّ في ضريحِ مرشيشَ، كانتْ مجموعتهُ الكناويةُ ترافقهُ، لا كَرفاقِ دربٍ، بل كَنُجومٍ تُضيءُ دربَ قمرٍ في ليلٍ بهيمٍ، تُشِعُّ نورًا في ظلماتِ الغيبِ. وبدأَ يلتقي بالنساءَ المقدماتِ، اللواتي لم يكنَّ يشتغلنَ بالأعمالِ و الطقوسِ الروحانيةِ التي تخصُّ الجزارينَ، كما لم يكنَّ يشتغلنَ بأعمالِ السودِ الغابويينَ، كَشَمسٍ تُشرقُ بعدَ ليلٍ مظلمٍ طويلٍ، تُعلنُ عن فجرٍ جديدٍ، يغسلُ أدرانَ الماضي.
كنَّ يشتغلنَ بألوانِ بناتِ الجنِّ الملكاتِ، ذواتِ الزهوِ والبذخِ و النخوةِ ورفعةِ المقامِ، المحباتِ للإحتفالاتِ والضحكِ وصنوفِ العربدةِ والمجونِ، كاللونِ الأصفرِ والبنفسجيِّ، كَفراشاتٍ أثيريةٍ تتراقصُ في فضاءِ البهجةِ، تُنسجُ من خيوطِ النورِ أثوابًا للروحِ، فتكسوها حُلّةَ القداسةِ.
إحدى المقدماتِ، لا كإمرأةٍ فحسبُ، بل كَكاهنةٍ عظمى تُحملُ سرَّ الغيبِ، وتنطقُ بإسمِ الأرواحِ الطاهرةِ، أعطتِ العربيَّ التوجيهاتِ، كيفياتِ القيامِ بالطقوسِ الجديدةِ المتعلقةِ بالملكاتِ من بناتِ ملوكِ الجنِّ، كَوَحْيٍ مُنزَلٍ، يُلهمُ النفوسَ، و يُضيءُ دروبَ المعرفةِ، لِيَهْدِيَها إلى طريقِ الحقِّ. وسلمته أيضًا أنواعَ العطورِ النادرةِ والأبخرةِ المنقطعةِ النظيرِ، و الزيوتِ الباهضةِ الثمنِ لتطهيرِ الكَنمْبَرِيِّ، كَجَوْهَرَةٍ تُصقلُ لتُعيدَ بريقَها الأصيلَ، أو كَروحٍ تُغتسلُ من خطايا الماضي، لِتُشرقَ نقيةً.
إضافةً إلى حُلِيٍّ ذهبيةٍ ومجوهراتٍ وأحجارٍ كريمةٍ لتزيينِهِ، لا كَمجردِ زينةٍ، بل كَعَروسٍ تُزفُّ إلى عريسِها الأبديِّ، تُلبسُ أجملَ الثيابِ، وتُزَيَّنُ بأبهى الحُلِيِّ، لتُصبحَ أيقونةً للجمالِ الروحيِّ. لأنَّ الكَنمْبَرِيَّ الآنَ قد خرجَ من ضيمِ وحزنِ الملوكِ السودِ، ولم يعدْ تلتصقُ بهِ الدماءُ الجافةُ وطوابعُ الجزارينَ، كَقمرٍ يشرقُ بعدَ خسوفٍ طويلٍ، يُنيرُ الظلماتِ، أو كَروحٍ تتحرّرُ من قيودِ الماضي، لتُحلّقَ في فضاءِ النورِ الأبديِّ، و تُعانقَ أفقَ الخلودِ.
مسكَ العربيُّ الكَنَمْبَرِيَّ، لا بِيَدٍ عاديةٍ تمسُّ الأشياءَ الفانيةَ، بل بِيَدِ العشقِ المتقدِّ واليقينِ الراسخِ، ونظَّفهُ جيدًا بالزيوتِ الفائقةِ وأنواعِ الطيبِ السامي، والعطورِ النادرةِ، كَمَنْ يُطهّرُ روحًا من أدرانِها العتيقةِ، دونَ أن يتركَ فيهِ أيَّ قطرةِ دمٍ، كَشَفَقٍ يُغسلُ من سوادِ الليلِ، فَيَعودُ بَرّاقًا يُبهرُ الأبصارَ. و هكذا أصبحَ الكَنمْبَرِيُّ نقيًّا، كَأنهُ إنبعثَ من ينبوعِ الصفاءِ الأبديِّ في ولادةٍ جديدةٍ، في دورةٍ ثالثةٍ من الحياةِ والموتِ، يُعيدُ بها تشكيلَ الوجودِ ذاتهِ، بل وحتى أبعادَ الكونِ.
مسكَ العربيُّ الكَنمْبَرِيَّ ومسحهُ بالمسكِ وصنوفِ الطيبِ، كَشَذًى مقدسٍ يفوحُ في أركانِ الروحِ، يُعطّرُ جوَّ الأسرارِ المُخبأةِ في طياتِ الغيبِ. ثمَّ مرَّرَ عليهِ منديلًا أصفرَ اللونِ، معطّرًا بأفخرِ العطورِ، من إحدى المناديلِ التي تستعملُها النساءُ، كَلَمسةٍ ناعمةٍ من عالمِ الأثيرِ، تُضفي عليهِ جمالًا و سحرًا لا يُقاومُ، فيُفتنُ بهِ العارفونَ. وأضافَ إلى الكَنمْبَرِيِّ قطعةَ ودعٍ واحدةً في الرأسِ، كَعينٍ سريةٍ تُبصرُ ما خفيَ عن العيونِ، وحارسةٍ لِأسرارِهِ العميقةِ، تُضيءُ لمن يطلبُ الهدى.
بالإضافةِ إلى بعضِ القطعِ الذهبيةِ من فئةِ الفرنكِ الملكيِّ، كَقرابينَ ثمينةٍ تُقدمُ لِأصحابِ المقامِ الرفيعِ، فَتُزيدهُ بهاءً و وقارًا، وتُعلي من شأنِهِ بينَ العوالمِ والكياناتِ. وهكذا أصبحَ الكَنمْبَرِيُّ ملكًا للملكاتِ من بناتِ ملوكِ الجنِّ، لا مجردَ آلةٍ تُعزفُ على أوتارِها الفانيةِ، بل عرشًا تُتَوَّجُ عليهِ الأرواحُ الطاهرةُ، ونورًا يُضيءُ دروبَ العشّاقِ، في رحلةٍ أبديةٍ نحو الصفاءِ والجمالِ المُطلقِ، يُسافرونَ بها عبرَ الزمانِ والمكانِ، لِيبلغوا أفقَ الخلودِ.
أتتِ الليلةُ الكناويةُ التي سوفَ تُقامُ على شرفِ الملكاتِ من بناتِ ملوكِ الجنِّ، لا كَمجردِ موعدٍ يُسجلُ في الروزنامةِ، بل كَفجرٍ من نورٍ يتهادى في سماءِ العشقِ الأبديِّ، يُبشّرُ بعهدٍ جديدٍ، خُطَّ بمدادِ النورِ الإلهيِّ. حضرَ الكثيرُ من الفتياتِ الإنسياتِ، لا كَأجسادٍ تمشي على الأرضِ، بل كَزهورٍ تتفتّحُ على ضفافِ السحرِ، تُعانقُ أسرارَ الغيبِ، في رقصةٍ كونيةٍ تُبهرُ القلوبَ وتُدهشُ العقولَ. بالإضافةِ إلى الملكاتِ من بناتِ ملوكِ الجنِّ جميعُهنَّ، لا كَملكاتٍ عادياتٍ يحكمنَ الفانيةَ، بل كَكواكبَ تُضيءُ ليلَ الوجودِ، تُشِعُّ بهاءً وجمالًا، يلامسُ الأرواحَ ويُسكِرُها، فَتَغرقُ في بحورِ الخلودِ.
الحاجةُ مليكةُ صاحبةُ الأخضرِ، لا كَلونٍ مجردٍ يُرى بالعينِ، بل كَغابةٍ أزليةٍ تُخبّئُ أسرارَ الحياةِ، و تُبعثِرُ عبيرَ الطُّهرِ، في نسيمٍ يُحيي القلوبَ الميتةَ، ويُوقظُ فيها كوامنَ العشقِ.
الشريفةُ لآلة مليكةُ صاحبةُ الأبيضِ، لا كَبياضٍ ناصعٍ يُرى فحسبُ، بل كَسحابةٍ نقيةٍ تمطرُ غيثَ النورِ على القلوبِ العطشى، و تُطهّرُ الأرواحَ من كلِّ دنسٍ، فَتُشرقُ نقيةً، كَأنها لم تُخلقْ من طينٍ.
مليكةُ الزهوانيةُ صاحبةُ اللونِ البنفسجيِّ، لا كَصَبغٍ على قماشٍ، بل كَشَفَقٍ يلامسُ الروحَ، و يُضيءُ دروبَ الجمالِ، فتُسْكَرُ بها النفوسُ، وتغرقُ في بحورِ العشقِ الأبديِّ، وتتيهُ في جنانِ الحبِّ.
الملكةُ ملوكةُ الصغيرةُ، لا كَصغيرةٍ في العمرِ، بل كَبُرْعمٍ يتفتّحُ في بستانِ البهجةِ، يُنبئُ بعبيرٍ وشذىً قادمٍ، يملأُ الفضاءَ، و يُغيّرُ وجهَ الوجودِ.
كما حضرت الملكاتِ من بناتِ ملوكِ بني الأصفرِ، لا كَقومٍ من البشرِ، بل كَأشعةِ شمسٍ ذهبيةٍ تُعانقُ الأفقَ، وتُضيءُ أركانَ الوجودِ، في إشراقةٍ لا تنتهي، وتُبهرُ العيونَ والقلوبَ.
ميرا الشلحةُ، لا كإمرأةٍ عاديةٍ، بل كغزال شقراء أصيلةٍ تحملُ في عينيها حكاياتِ الجبالِ الشاهقةِ، وغموضَ العوالم الاطلسية الساحرةِ، وسحرَ الأزلِ الذي لا يُفسّرُ.
ميرا الحارثيةُ، لا كَقائدةٍ تُعرفُ، بل كَفارسةٍ تُقارعُ الصعابَ، و تُسطّرُ أمجادَ العشقِ بمدادِ الإرادةِ، في ملحمةٍ خالدةٍ، تُروى عبرَ الأزمانِ.
ميرا الغماميةُ، لا كسحابةٍ تمطرُ، بل كَسحابةٍ عابرةٍ تُلقي بظلالِها على القلوبِ، فتُوقظُ فيها شوقَ اللقاءِ، ولوعةَ الحبِّ الأبديِّ، وتُشعلُ نارَ الشوقِ.
ميرا العربيةُ، لا كَنسبٍ يُذكرُ، بل كَأصالةٍ تُضربُ في عمقِ الجذورِ، وتفوحُ منها عبيرُ الأصالةِ، و فخرُ النسبِ، في أريجٍ لا يزولُ، يملأُ الأرجاءَ.
ميرا الكناويةُ، لا كَفنانةٍ تُجيدُ العزفَ، بل كَترنيمةٍ تُحاكي نغمَ الروحِ، وتُرقصُ الأرواحَ على إيقاعاتِ العشقِ، في سيمفونيةٍ كونيةٍ تُبهرُ الأسماعَ.
وهكذا، في ليلةٍ تُنسجُ خيوطُها من نورِ الأسرارِ، و تُرتّلُ فيها الأرواحُ أعذبَ الألحانِ، في حضرةٍ تُعلي مقامَ الجمالِ، وتُعانقُ أفقَ الخلودِ، لِتُصبحَ ذكرى لا تُنسى، ونورًا يُضيءُ دروبَ الأرواحِ عبرَ الأزلِ، نحو عالمٍ من البهاءِ والكمالِ.
مسكَ العربيُّ الآلةَ، لا كَتمثالٍ من صمتٍ، بل بِيَدِ العشقِ المتقدِّ، ودندنةِ الروحِ الأولى، كَأنفاسٍ قدسيةٍ تتوالدُ من عمقِ اليقينِ، تُوقظُ السحرَ الكامنَ في خفايا الوجودِ. وما أن دندنَ الكَنمْبَرِيُّ دندنتهُ الأولى، أثناءَ مساواةِ الأوتارِ الرقراقةِ، حتى هرعنَ الفتياتُ، لا كَجموعٍ تهرولُ في لهفةٍ، بل بِفرحٍ يلامسُ عنانَ السماءِ السابعةِ، وزغاريدَ تمزّقُ حجبَ الصمتِ، وزهوٍ يفيضُ من العيونِ، كَجداولِ نورٍ يتلألأُ، وهنَّ متلبّساتٍ بِأرواحِهنَّ، يظهرنَ ميلَهنَّ وأشواقهنَّ الجياشةَ إلى المعلمِ العربيِّ، كَفراشاتٍ أثيريةٍ تُحَلّقُ حولَ شعلةِ العشقِ، تَحْتَرِقُ فيها وتُبعثُ من جديدٍ.
الكَنمْبَرِيُّ الذي كانتْ تخرجُ منهُ تلكَ الدندنةُ الحارةُ، لا كَصوتٍ يترددُ في الأثيرِ، بل كَلهيبٍ سماويٍّ يقتحمُ حصونَ القلوبِ، يلامسُ أوتارَ الشوقِ الأزليِّ، ويُشعلُ فيها نارَ الولهِ. كنَّ البناتُ يجذبنَ ويتحيّرنَ، ورؤوسُهنَّ بالقربِ من الكَنمْبَرِيِّ، كَأرواحٍ عاشقةٍ تُسلّمُ أمرَها لِقوةٍ عليا، حتى تطرطقَ الحلقاتُ الذهبيةُ لِآذانهنَّ، كَنَجْمٍ سماويٍّ يتناثرُ في فضاءِ الوجدِ واللانهائيةِ. فيسقطنَ مُغمىً عليهنَّ من شدةِ الجذبِ، والولعِ الساحرِ، و الشغفِ المغمورِ بالزهوِ المنبعثِ من أنغامِ الكَنمْبَرِيِّ، كَأرواحٍ تائهةٍ في بحرِ اللانهايةِ، تُعانقُ جنونَ العشقِ، وتذوبُ فيهِ، لِتُصبحَ جزءًا من هذا النغمِ الأبديِّ.
هكذا بقيَ العربيُّ معاهدًا للملكاتِ الجنياتِ، كَفارسٍ أزليٍّ تُكلّلُهُ الأسرارُ، أو كَوصيٍّ على الكنوزِ المخفيةِ. كانَ دائمًا نظيفًا أنيقًا معطّرًا بالروائحِ، كَوردةٍ سماويةٍ تُفوحُ عطرًا في أركانِ الوجودِ يُبهرُ الحواسَ ويُروّحُ الأرواحَ. وكانَ ذا جاهٍ و قبولٍ أكثرَ من كلِّ المعلمينَ الذينَ سبقوهُ، كَشمسٍ تُشرقُ بعدَ غيابٍ طويلٍ، تُعلنُ عن عصرٍ جديدٍ من النورِ، ومقامٍ رفيعٍ لا يبلغهُ أحدٌ سواه. فبدأَ يشعرُ أنَّ الكَنمْبَرِيَّ ملكٌ لهُ وحدَهُ، كَأنهُ أصيبَ بحبِّ التملكِ المدنس، حبَّ السيطرةِ الفانيةِ، حبَّ الإحتواءِ و الإحتفاظِ بسرٍّ كونيٍّ، يربطهُ بالملكاتِ. كانتْ كلُّ ليلةٍ تقفُ ملكةٌ من بناتِ ملوكِ الجنِّ على العربيِّ، وتعطيهِ من خيراتِها، كَينبوعٍ أزليٍّ يتدفقُ عطاءً لا ينضبُ، أو كَسحابةٍ سماويةٍ تمطرُ جودًا وبركةً. وهكذا إستمرَّ الحالُ، كَنهرٍ يجري في فضاءِ الأزلِ، لا يتوقفُ جريانهُ، ويُغذي الأرواحَ العطشى، و يُروي ظمأَ العشّاقِ.
ذاكَ الكَنمْبَرِيُّ الذي أمضى سنينَ وسنينَ طويلةً، لا كَجمادٍ، بل كَشاهدٍ صامتٍ على تقلباتِ الزمنِ، وتغيراتِ العهودِ، وحكاياتِ العشقِ. الكَنمْبَرِيُّ الذي بكى على صاحبهِ الذي صنعهُ المعلمُ عصمانُ رحمهُ اللهُ، كَروحٍ تُناجي روحًا غابتْ عن الوجودِ، و تحملُ بينَ طياتِها ذكرى لا تُنسى، محفورةً في قلبِ الذاكرةِ. هذا الكَنمْبَرِيُّ الذي أمضى الكثيرَ و الكثيرَ من حياتهِ، وعزفَ عنه الكثيرُ من المعلمينَ الكناوينَ، كَكتابٍ مفتوحٍ، تُكتبُ فيهِ قصصُ العشّاقِ، وتُسجّلُ فيهِ حكاياتُ الروحِ، في حروفٍ من نورٍ. أما الآنَ فقد أصبحَ في أحضانِ الملكاتِ من بناتِ ملوكِ الجنِّ، كَطفلٍ عادَ إلى أحضانِ أمهِ الحنونِ، أو كَجوهرةٍ نادرةٍ وُضِعتْ في مكانها الصحيحِ، لتُشِعَّ نورًا أزليًّا، في عهدٍ جديدٍ من الجمالِ والقداسةِ، والعشقِ الأبديِّ الذي لا يفنى.
أمضى العربيُّ في عيشٍ، لا تتلاطمُهُ أمواجُ الرعبِ، بل كَخيطِ نورٍ ينسابُ في فضاءِ الأمانِ الرحيبِ، لم تلمسْهُ رُموشُ جنٍّ أحمرَ، ولا غَشَتْ عينَهُ ظلالُ أسودَ في منامِهِ، كَكابوسٍ يقتحمُ حصونَ الأحلامِ. أدركَ بقلبِهِ أنَّ الكَنمْبَرِيَّ مصونٌ في أحضانِ الملكاتِ الجنياتِ، "لآلياتِي و مالياتي" تلكَ مالكات الوجودِ اللواتي ينسجنَ نسيجَ الكونَ، وعاشَ معهنَّ في نعيمٍ وبذخٍ و ترفٍ، كَقمرٍ يسبحُ في فضاءِ السعادةِ السرمديةِ، مُحاطًا بِنُجومِ العشقِ الأبديِّ التي لا تخبو.
هكذا حلَّقَ الزمانُ، لا كَأنفاسٍ عابرةٍ تُذرّيها الرياحُ، بل كَنَهرٍ من الذهبِ يتجلى، يتدفقُ في جداولِ الزمانِ، يُروي ظمأَ الخلودِ. والليالي الكناويةُ تُقامُ، كَإحتفالاتٍ سماويةٍ تُطرزُها الأنوارُ، لا تتوقفُ أبدًا، كَنَبضٍ كونيٍّ لا يسكنُ. حتى ذاعَ صيتُ الكَنمْبَرِيِّ في ضريحِ سيدي مرشيشَ و نواحيهِ، كَرِيحٍ مقدسةٍ تُبشّرُ بقدومِ البركةِ، تحملُ عبيرَ الطُّهرِ، وتُسجّلُ في صفحاتِ التاريخِ قصصَ النورِ الخالدةِ. كما كانَ صيتُهُ قد إنتشرَ سابقًا في ضريحِ سيدي مسعودِ بنِ حسّاينَ، كَأسطورةٍ تُروى على ألسنةِ العشاقِ، تُلهمُ النفوسَ التائهةَ، و تُضيءُ دروبَ الحائرينَ في ظلماتِ اليقينِ.
كلُّ إمرأةٍ أو فتاةٍ، قد عانتْ من عسرِ زواجٍ، أو قيدِ عقدٍ، أو أيِّ مشكلٍ روحيٍّ يثقلُ كاهلَها، كنَّ يأتينَ إلى العربيِّ، لا كَمرضى يُساقونَ، بل كَأرواحٍ عطشى تتوقُ إلى نبعِ الشفاءِ المتدفقِ من عينِ الغيبِ. يَسرْنَ لهُ بأسرارهنَّ، كَهمساتٍ تُناجي الغيبَ في خشوعٍ، تُلقي بأثقالِها على صدرِ المعرفةِ. فيُخرجُ لهنَّ الكَنمْبَرِيَّ، فيتبركنَ بهِ، و يمنحونَهُ مقابلَ ذلكَ بعضَ الهباتِ "الفتوحِ" كَقرابينَ من نورٍ تُقدمُ للعشقِ الأبديِّ، في تبادلٍ روحيٍّ يُعلي مقامَ الواهبِ، ويسمو بالموهوبِ، إلى أفقِ الوصالِ.
ولم تكنْ فقط الفتياتُ طالباتِ البركةِ هنَّ من يحضرنَ، بل حتى البناتُ المجذوباتُ من أهلِ حضرةِ بناتِ ملوكِ الجنِّ كنَّ يأتينَ عندَ العربيِّ، للتبركِ وإصلاحِ علاقتهنَّ بملكاتِ الجنِّ، كَأرواحٍ تائهةٍ تبحثُ عن الوصالِ المنشودِ، في رحلةٍ تُخطّها بنجومِ السماءِ، وتُشحَنُ بوهجِ القداسةِ المشرقةِ، لِتُضيءَ دروبَ الظلمةِ. كلُّ إمرأةٍ مجذوبةٍ، حسبَ عهدِها مع الملكةِ التي تسكنُها، أو تقيمُ معها عهدًا، كنَّ يقدمنَ تقدماتٍ للملكاتِ الجنياتِ في طقوسِ الدردبةِ خلالَ الليالي الكناويةِ، كَقرابينَ من نورٍ تُقدمُ في محرابِ العشقِ الأزليِّ، تُعلي من شأنِ العهدِ، وتُجدّدُ الولاءَ في دماءِ الروحِ.
كنَّ يحضرنَ العربيَّ لعزفِ الأغاني الروحيةِ، و الأهازيجِ الكناويةِ، وترانيمِ الحالِ المتعلقِ بالملكاتِ، كَقُبلةٍ من الروحِ تُرسلُها الأناملُ، تُحرّكُ القلوبَ الخامدةَ، وتُلهبُ المشاعرَ الصامتةَ. و بمجردِ حضورِ الجنياتِ على أنغامِ الكَنمْبَرِيِّ، ينسونَ الخصامَ، ويعُدنَ للتوافقِ والإنسجامِ مع المرأةِ المجذوبةِ التي تتملكُها روحُ الملكةِ الجنيةِ "صاحبةُ الخشبةِ"، ويقبلنَ التقدمةَ المقدمةَ من مملوكاتهن، كَرقصةِ فلكٍ تتوافقُ فيها النجومُ و الكواكبُ في مداراتِ العشقِ، وتنسجمُ الأرواحُ في سمفونيةٍ كونيةٍ تُعزفُ على أوتارِ الوجودِ، تُعلي مقامَ السلامِ، وتُتوّجُ العشقَ الأبديَّ على عرشِ الخلودِ.
ذاعَ صيتُ العربيِّ في كلِّ مكانٍ، لا كَصدىً عابرٍ يتلاشى، بل كَشمسٍ أشرقتْ من كبدِ السماءِ، و ملأتْ الأرضَ نورًا يُبهرُ الأبصارَ. إشتهرَ بينَ القاصي والداني، وعُرفَ في مجامعِ الحالِ الروحانيِّ، وصارَ بذكرهِ الركبانُ في كلِّ الأماكنِ و البلدانِ، كَأسطورةٍ تُروى على مرِّ العصورِ، لا تموتُ بمرورِ الدهورِ، بل تُخلّدُها القلوبُ.
إلى أن أتى إحدى الأيامِ، كانَ ذاهبًا في طريقهِ، بالقربِ من قارعةِ الطريقِ، كَفارسٍ يسيرُ في دروبِ اليقينِ، لا يخشى شيئًا من غوائلِ الزمانِ. وقفتْ سيارةٌ، كانَ من النادرِ أن ترى سيارةً في الطريقِ خلالَ تلكَ الأيامِ الغابرةِ، كَطيفٍ يمرُّ في حلمٍ عميقٍ، أو سرابٍ يظهرُ في صحراءَ قاحلةٍ يُوهمُ الناظرَ بوجودِ الماءِ، فما بالك أن تقفَ بجانبكَ، كَقدرٍ يُصادفكَ في غفلةٍ، أو يدٍ خفيةٍ تمتدُّ إليكَ من عالمِ الغيبِ. وقفتْ سيارةٌ من نوعِ مرسيدس من الطرازِ القديمِ بجانبِ المعلمِ العربيِّ، كَحصانٍ جامحٍ يُروضُهُ القدرُ بِلَمسةٍ خفيةٍ، ويُلقي بِظلالِهِ على طريقِ الأسرارِ المُبهمةِ.
نزلَ منها رجل كبيرٌ نوعًا ما، وضخمُ الجثةِ، تظهر عليه علامات الثراء والبذخ، كانتْ ملامحهُ غيرَ معهودةٍ و غريبةً، يظهرُ كأنهُ ليسَ مغربيًّا، بدى كَشَبحٍ يخرجُ من رحمِ الظلامِ الدامسِ، أو كَكيانٍ من عالمٍ آخرَ، يرتدي ثيابَ البشرِ ليخفي حقيقتَهُ. وقد نادى العربيَّ قائلًا:
العربي... آركبْ "ياشيدي" يا سيدي العربي عندي ما أقولُه لكَ..!
كان صوته كَصوتٍ يأتي من أعماقِ الغيبِ، يُحرّكُ سكونَ الروحِ، ويُلقي بِمفاتيحِ الأسرارِ في بحرِ القلبِ.
شعرَ العربيُّ بأنَّ طريقةَ كلامِ الرجل غريبةٌ نوعًا ما، ولغتهُ الدارجةُ ليستْ منسجمةً، كَسيمفونيةٍ كونيةٍ، فيها نشازٌ خفيٌّ يُربكُ الأذنَ ويُثيرُ الفضولَ. إتجهَ العربيُّ نحوهُ كَصقرٍ يُحَلّقُ في سماءِ الفضولِ، يبحثُ عن سرِّ اللغزِ، ويُحلّقُ حولَ نورِ المعرفةِ، وردَّ قائلًا:
يا هذا من اين سبق لك معرفتي؟ ومن تكونُ؟
ردَّ الرجلُ الضخمُ كَأمرٍ لا يُردُّ، أو كَقوةٍ خفيةٍ تُحرّكُ الأقدارَ، و تُوجهُ خطى الأزمانِ قائلًا:
إصعدْ... إصعدْ شيدي العربي.. "سيدي العربي" ؟!
حينها إستحضرَ العربيُّ نيتهُ، وصعدَ إلى السيارةِ، كَسفينةٍ تُبحرُ في بحرِ المجهولِ، تحملُ على متنها أسرارَ القدرِ، وتتجهُ نحو شواطئِ اللاوعي. و في تلك الأثناء أخبرهُ الرجلُ الذي كانَ راكبًا في السيارةِ، كَشَمسٍ تُشرقُ بعدَ ليلٍ طويلٍ، تُزيحُ الستارَ عن سرٍّ عظيمٍ، وتُعلنُ عن بدايةِ فصلٍ جديدٍ في كتابِ القدرِ، يُكتبُ بمدادِ النورِ، ويُرتّلُ بِلُغةِ الأزلِ، تُسمعُها القلوبُ قبلَ الآذانِ قائلًا:
إسمعني سيدي "آشمعْ نعامْ آسيدي"... أنا إسمي يعقوبُ... أو جاكوبُ كما يناديني اليهودُ أبناء جلدتي....؟

يتبع ... .. .



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الْكِمُبْرِئ -الْجُزْءُ الرَّابِع-
- الْكمبْرِئ -الْجُزْءُ الثَّالِث-
- الكّْمْبّْرِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-
- الْكِمُبْرِي -الْجُزْءُ الْأَوَّلُ-
- أَطْلَانتس وَسيِّدِي مُوسَى
- الزَّرَادِشْتِيَّة
- جَوْهَرٌ أَعْمَق أَسْرَار الْوُجُود
- إخْتِرَاق الزَّمَكَان
- المُثَقَّف الْمُزَيَّف
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٌ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ -الْجُ ...
- نَظَرِيَّةٍ مَا بَعْدَ الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ
- الْجَبْرِيَّة الرَّأْسِمَالِيَّة -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-


المزيد.....




- تامر المسحال : -إسرائيل مجرمة بحق الصحافة والصحافيين-
- مدير الأخبار بالجزيرة الإنجليزية يعلق لـCNN على مقتل أنس الش ...
- محمد صلاح يتساءل عن ظروف مقتل -بيليه الفلسطيني- والجيش الإسر ...
- البلوغر المصري جمال صبري ومحتواه التقني المتنوع
- ناغازاكي تحيي ذكرى الضحايا الكوريين بعد 80 عامًا من القصف ال ...
- وزير الدفاع الإيطالي: عقوبات محتملة على إسرائيل لـ-إنقاذ شعب ...
- العراق: الفصام لدى الأطفال.. تحذير مبكر للأسر من أعراض تُنذِ ...
- أهم الاختلافات في الجيل القادم من ساعة -آبل ووتش-
- مصور الجزيرة بغزة يسرد تغطيته مجريات الحرب مع أنس الشريف
- رسائل مؤثرة.. مراسلو الجزيرة نت في غزة يرثون زملاءهم الشهداء ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الْكِمبْرِئ -الْجُزْءُ الْخَامِس-