أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بوتان زيباري - صراخ الأرض: عندما ترفض الأصوات أن تُسكت















المزيد.....

صراخ الأرض: عندما ترفض الأصوات أن تُسكت


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 10:23
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


اليوم، في حقول الحسكة، حيث تلتقي الرمال بالدم والذاكرة، وقفت سوريّة أخرى على أرضها. ليست تلك التي تُعلن من قصور الشام، ولا التي تُفاوض باسمها سفراء الدول الكبرى، بل تلك التي تنبض تحت الرماد، وتُنادي من قلب الدمار: كفى. كفى صمتًا، كفى تهميشًا، كفى ادّعاءات بالوحدة بينما يُقتل الناس باسم الوحدة، ويُنهب بيتهم باسم الوطن.

في هذا اليوم، لم يجتمع رؤساء ولا وزراء، بل اجتمع شعب. اجتمع من كان يُنظر إليه كأقليات، لكنهم اليوم أدركوا أنهم ليسوا أقلية في وطنهم، بل هم جوهره، هم الجذور التي لم تُقتل رغم كل المحاولات. اجتمع الدروز الذين تُحاصر مدنهم، ويُقتل أبناؤهم، ويُهدم بيتهم، بينما يُقال إن "الدولة" جاءت لحمايتهم. اجتمع الكورد الذين تُحاصر مناطقهم، وتُهدد وجودهم، وتُشوه نضالهم. اجتمع العلويون الذين تُستهدف قراهم، وتُنسج ضدهم المؤامرات باسم الطائفية. اجتمع السريان، والإيزيديون، والعرب السنة، والتركمان، والأرمن، والكلدان، والمسيحيون، كل من حمل اسم "آخر" في لعبة السلطة المركزية التي لا تعرف سوى الاستئثار.

لم يكن المؤتمر تجمعًا سياسيًا عاديًا، بل كان صرخة وجود. صرخة من قالوا: نحن ما زلنا هنا، وما زلنا نعيش، وما زلنا نرفض أن نُمحى. لم يكن مجرد لقاء، بل كان إعلان حداد جماعي على الدولة التي ماتت، وإعلان ولادة جديدة لفكرة مختلفة: دولة لا مركزية في يد رجل واحد، ولا في عاصمة واحدة، ولا في طائفة واحدة، بل دولة تُوزع فيها السلطات، وتُحترم فيها التنوّع، وتُبنى فيها الوحدة على أساس الشراكة، لا على أساس الهيمنة.

لقد رأينا كيف، في الساعات التي سبقت هذا اللقاء، اجتمع القتلة في الشام، وخططوا لقتل المزيد. رأينا كيف يُرسلون قبائل من الجنوب لذبح الدروز في السويداء، ثم يُعلنون بعدها أنهم جاءوا لحمايتهم. رأينا كيف يُحاصر المدن، ويُمنع عنها الطعام والدواء، بينما يُبنى مترو ومشاريع فاخرة في قلب العاصمة، وكأن البلاد تُعاد بناؤها من فوق، بينما تُهدم من تحت. رأينا كيف يُهاجمون من يُرسلون المساعدات الإنسانية، وكأن الخبز والدواء سلاح خطير على النظام.

وفي وسط هذا الجنون، تُعقد محادثات في باريس، يُفترض أنها تُريد "الوئام"، لكنها في الحقيقة تُريد تسوية تُرضي القوى الكبرى، وتُهمّش من يعيش على الأرض. يُقال: نريد أن نُدخل قوات سوريا الديمقراطية في الجيش الوطني، لكن أي جيش؟ جيشٌ تُسيطر عليه مليشيات، وتُدار بمنطق الطائفة والولاء، لا بالانتماء للوطن؟ جيشٌ يُقتل فيه المدنيون، ويُهجر الآلاف، ويُباد الدروز، ثم يُقال: انضموا إليه؟

هذا المؤتمر في الحسكة لم يكن فقط رفضًا للانضمام، بل كان رفضًا للمنطق نفسه. رفضًا لفكرة أن الحل يأتي من فوق، من عواصم القرار البعيدة، أو من قصر في الشام. كان تأكيدًا أن الحل يجب أن يبدأ من الأرض، من الذين يعيشون الخطر كل يوم، من الذين فقدوا أحبّتهم، وبيوتهم، ومستقبلهم. كان تأكيدًا أن من يُريد أن يفهم سوريا، يجب أن يسمع أولاً من أهل السويداء، ومن الحسكة، ومن رأس العين، لا من مكاتب المفاوضات.

لقد أصبح واضحًا الآن أن الفجوة بين الدبلوماسية والواقع الميداني لم تعد فجوة، بل صدعاً عميقاً. بينما يُناقشون في باريس وواشنطن وموسكو "الاستقرار"، يُقتل الناس في السويداء. بينما يُخططون لانتخابات تُعطي شرعية لمن لا يملكها في القلوب، يُحاصر الناس في مدنهم. بينما يُعلنون عن "الانتصار"، يُهدم البلد حجرًا حجرًا.

وهنا، في هذا الصدع، برزت قوات سوريا الديمقراطية ليس كقوة عسكرية فقط، بل كملاذ. ليس لأنها مثالية، بل لأنها الوحيدة التي لم تُشارك في مجازر السويداء، الوحيدة التي أرسلت مساعدات إلى المُحاصرين، الوحيدة التي قالت: نحن نحمي كل من يعيش في مناطقنا، مهما كانت دينه أو عرقه. ولهذا، فإن دعم العشائر العربية لها، ومشاركتها في المؤتمر، ليس موقفًا أيديولوجيًا، بل هو خيار بقٍ. لأنهم يعرفون أن من يُهاجم السويداء اليوم، قد يُهاجمهم غدًا.

لقد أدرك الجميع الآن أن النظام الجديد، مثل القديم، لا يُريد شراكة، بل يُريد خضوعًا. لا يُريد دولة، بل يُريد إقطاعية. لا يُريد وحدة، بل يُريد هيمنة. وهو لهذا، يُهاجم كل من يُطالب باللامركزية، بالفيدرالية، بالحكم الذاتي، لأنه يعرف أن هذه المطالب ليست مجرد شعارات، بل هي تهديد لوجوده.

لكن الأهم من كل هذا، أن هذا المؤتمر لم يكن فقط تحالفًا سياسيًا، بل كان إعلان تضامن إنساني. كان رسالة إلى العالم: نحن ما زلنا نُقاتل من أجل البقاء. نحن لا نطلب منكم أن تُحاربوا عنا، بل نطلب منكم أن تروننا. أن تسمعوا صوتنا. أن تتوقفوا عن التعامل مع من يُدمرنا وكأنه "الحل". نحن لا نُريد احتلالًا، ولا نُريد تدخلًا، لكننا نُريد أن يُفتح الطريق أمام المساعدات، أن تُحقق في الجرائم، أن يُرفع الحصار، أن يُعترف بوجودنا كأصحاب حق، لا كأوراق مساومة.

وتركيا، التي تُهدد بقطع أي ممر بين السويداء ومناطق الإدارة الذاتية، تُخطئ جوهريًا. لأنها ترى في هذا الممر تهديدًا أمنيًا، بينما هو في الحقيقة فرصة إنسانية، وفرصة استراتيجية. لأن من يُدافع عن الدروز والعلويين والأكراد والعرب، ليس عدوًا، بل قد يكون حليفًا في معركة ضد الفوضى والطائفية والإرهاب. لكنها تُفضل أن تُبقي النار مشتعلة، خوفًا من أن يُصبح السلام تهديدًا لمصالحها القصيرة.

في النهاية، فإن ما حدث في الحسكة ليس مجرد حدث، بل هو بداية. بداية لوعي جماعي بأن البقاء لا يأتي بالاستجداء، بل بالموقف. أن الشرعية لا تُمنح من الخارج، بل تُبنى من الداخل. وأن سوريا لا يمكن أن تُعاد بناؤها إلا إذا اعترف الجميع بأنها ليست دولة لطائفة، ولا لعرق، ولا لرجل، بل وطن لكل من عاش فيه، وضحّى من أجله.

الصراخ اليوم في الحسكة ليس صوتًا واحدًا، بل هو صدى آلاف الأصوات التي رُفعت من تحت الرماد. صوت من قال: كفى. كفى قتلًا، كفى تهميشًا، كفى ادّعاءات. نحن هنا، وسنبقى. وسنُعيد بناء وطننا، ليس على أنقاض بعضنا، بل على أساس العدالة، والمساواة، والاحترام المتبادل. لأن الأرض، في النهاية، لا تنسى من يزرعها، ولا تغفر لمن يدوس على أبنائها.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرُّوح المُنهكة: حين يُصبح الوجودُ تمرّداً في أرضٍ فقدتَ حل ...
- الريح لا تُمسك بالأسوار، والشعب لا يُهزم بالصمت
- حين تبكي الجبال وتحتضر الرمال
- الهوية التي تكسر حدود الاستعمار: الكورد وقضية الأرض
- صدى العهد والتفويض الثائر: صوت كوردي في رحلة دستور وأرض
- في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات ال ...
- أطياف الخراب وصهيل الأوهام: سوريا بين سندان التاريخ ومطرقة ا ...
- حين تُكتب الخيانة بخطٍّ كوردي
- سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض
- السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية


المزيد.....




- السيول الجارفة بايت بوكماز تؤكد استعجالية مطالب مسيرة 9-10 ...
- هكذا يدعم السيسي غزة
- حزب النهج الديمقراطي العمالي يقدم تعازيه الحارة لقيادة وقواع ...
- الإبادة البيئية والإمبريالية وتحرير فلسطين
- المحكمة للمتظاهرين ضد تجويع غزة: -لماذا لا تحملون لافتات بال ...
- اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة بإسرائيل وسط بحث نتنياهو إعا ...
- في ذكرى هيروشيما وناغازاكي- تحذير مستخلص من التاريخ: ”هذا م ...
- من أجل تجاوز مغرب بسرعتين: مغرب الرأسماليين ومغرب الكادحين- ...
- إجلاء موظفي سفارة کيان الاحتلال في اليونان بسبب الاحتجاجات ا ...
- بعد «الربيع العربي»… صيف الاحترار الأقصى


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بوتان زيباري - صراخ الأرض: عندما ترفض الأصوات أن تُسكت