أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - بوتان زيباري - في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات الخرائط














المزيد.....

في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات الخرائط


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 09:45
المحور: القضية الكردية
    


منذ أن امتشقت القوى الكولونيالية أقلامها الحادة وخطّت بها الخرائط على لحم الجغرافيا، وُلدت سرديات هجينة أرادت أن تُسكت ذاكرة الشعوب وتكتب بدلاً منها أساطير مطهّرة من الحقيقة. في قلب هذه السردية الاستعلائية، وُضع الكورد – كأمة حيّة تعانق الجبال والوديان منذ آلاف السنين – في خانة "الطارئ"، كأنهم لم يكونوا يومًا أبناء هذا التراب، وكأنّ التاريخ لم يكن شاهدًا على لغتهم ودمائهم وملحهم.

لقد شُيّدت سردية "الآخر الكوردي" على أعمدة ثلاث: الإنكار، الإقصاء، والتشويه. إنكارٌ للوجود التاريخي للكورد على أرض ميزوبوتاميا العليا، إقصاءٌ لحقهم في تسمية ديارهم وتوثيقها، وتشويهٌ لهويتهم بإلصاقهم بأجندات خارجية أو بنفي أصالتهم اللغوية والثقافية. وبين هذه الركائز، تم بناء وعي زائف أراد أن يُلبس الأرض ثوبًا لا يليق بها، وأن يُخرج أبناءها من باب التاريخ الخلفي، كأنهم ضيوف ثقلاء على مائدة لا تعود لهم.

إلا أن الحقيقة أعمق من خرائط سايكس بيكو وأعرق من حدود الاستعمار الفرنسي. فالكورد لم يكونوا "لاعبين جددًا" على مسرح المشرق، بل كانوا من الذين شيّدوا خشبة هذا المسرح قبل أن تُكتب أول سطور المسرحية. في الممالك الخورية والميتانية، وعلى ضفاف دجلة والخابور والفرات، ارتفعت لغتهم وموسيقاهم، وتجلّت رؤيتهم للوجود والكون والطبيعة. لم يكونوا عابرين، بل مؤسسين. لم يكونوا جوقة في الخلفية، بل العازفين الأوائل للنشيد.

إن وجود الكورد في شمال وشمال شرق سوريا ليس فرعًا نابتًا من غصن غريب، بل هو جذرٌ غائر في التربة. من جزيرة ابن عمر إلى ديريك، من عفرين إلى كوباني، يمتد الحضور الكوردي عبر قرون موثقة في سجلات الجغرافيين والمؤرخين. لقد كتب شمس الدين الذهبي عن كورد الجزيرة منذ القرن الرابع عشر، وبدر الدين العيني تحدّث عن كورد حموا قلعة دير الرحبة قلعة الميادين بصدورهم، في وجه التتار لا العنصرية، وسجّلهم كارس نيبور الألماني في خرائطه لسنة 1770 يعرض في الجزيرة الفراتية مجموعة قبائل كوردية. لم يكونوا أشباحًا، بل أممًا نابضة بحضارتها. ولغتهم – وإن تقاطعت مع الفارسية القديمة – فإنها حافظت على كينونتها بوصفها لغة حية لها صرفها ونحوها وشعرها ونثرها، تكتبها الجبال وترددها الأودية.

إن المزاعم التي تختزل الكورد في صورة "اللاجئ" أو "الوافد" ما هي إلا محاولة لنسف التاريخ من جذوره، وإعادة كتابة الحاضر بلغة الاستعلاء العرقي. لكن الحقيقة لا تُمحى بشطبٍ على ورق، ولا تزول بتكرار الوهم. فالهجرات التي وقعت في بدايات القرن العشرين من شمال كوردستان إلى جنوبها لم تكن إلا حركة داخل الوطن الواحد، قبل أن تُسَيّج الأرض بأسلاك الانتداب والحدود الاستعمارية. من عبر آنذاك لم يعبر إلى الغربة، بل إلى شطر آخر من جسد واحد مزّقته القوى الإمبريالية.

ولعل أخطر ما في هذه السرديات الحديثة، هو ذاك الربط المتعسّف بين الكورد ومشاريع قومية أو دينية خارجية، في محاولة لإفراغ نضالهم من شرعيته الذاتية. إنّ كورد سوريا لم يرفعوا راية فارس، ولا تبنّوا أجندة غرباء، بل حملوا رؤيتهم الخاصة للحرية، وانبثقت ثورتهم من وجعهم المحلي، من جراحهم التي نزفت لعقود تحت وطأة التمييز والتهميش. هم لم يكونوا أداة، بل فاعلين في كتابة حاضرهم، كما كانوا دائمًا فاعلين في رسم تاريخهم.

ثمّة محاولة مستميتة لحصر "الحق" في جغرافيا سامية خالصة، وكأنّ الأمم التي سبقت الكتابة والنسب قد اختفت وتبخرت. لكنّ الخوريين والميتانيين والأورارتو لا يزالون يتحدثون في أسماء القرى، وفي طقوس الفصول، وفي نبض اللغة الكوردية التي ورثت نغماتهم وأحلامهم. الكورد ليسوا لاحقين على السامية، بل هم من أوائل الذين نحتوا على الصخر قبل أن تكتب الأبجدية.

وفي كل هذا، يظل السؤال الحقيقي غائبًا: لماذا كل هذا الجهد لإنكار شعب؟ لماذا كل هذا العناء في تشويه الذاكرة وتزوير التاريخ؟ الجواب ربما في الخوف من الاعتراف، من لحظة الحقيقة التي تُسقط الأقنعة وتُعيد تعريف من هو "الطارئ" ومن هو "الأصيل". الكورد لا يحتاجون إلى شهادة من أحد، فهم أبناء جبل الألف عام، أبناء اللهب الذي لا ينطفئ، أبناء الوجع الذي تحوّل إلى قصيدة مقاومة.

وفي زمن تتنازع فيه الأمم على هوياتها، يتمسك الكوردي بأرضه لا كمن يستولي عليها، بل كمن يتذكّر نفسه فيها. في شجرة زيتون في عفرين، في قبة مسجد في قامشلو، في أغنية حزينة تُغنّى على ضفاف الخابور، تنبض ذاكرة لا تستطيع الجغرافيا المزورة أن تطمسها. وإذا كان للحق صوت، فإنه يتحدث بالكوردية، بلكنة الجبل، وبرائحة الخبز الساخن في بيوت لم تهاجر يومًا من ذاكرتها.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطياف الخراب وصهيل الأوهام: سوريا بين سندان التاريخ ومطرقة ا ...
- حين تُكتب الخيانة بخطٍّ كوردي
- سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض
- السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية
- سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب
- أطياف الصراع: قراءة فلسفية في تداعيات الضربة الإيرانية والرد ...
- ملحمة الصراع الإيراني-الإسرائيلي وتصدعات الشرق المكسور
- صراع الوجود وأسئلة المصير: الهجوم الإسرائيلي على إيران بين ا ...
- سقوط الأقنعة: حين يصبح الفساد سلاحاً للانهيار والهيمنة
- تأملات في الخطاب والهوية بين السجال والوجود


المزيد.....




- صحة غزة: نعيش مجاعة حقيقية.. والأمم المتحدة تنتظر موت 480 طف ...
- الأمم المتحدة: 1.3 مليون سوداني شردتهم الحرب عادوا إلى دياره ...
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية: الجيش أتلف عشرات الآلاف من موا ...
- محكمة النقض الفرنسية تبطل مذكرة اعتقال بحق الأسد
- الأمم المتحدة تكشف عن أرقام صادمة في حرب السوادن
- ترامب ونتنياهو يبتعدان عن التفاوض.. والمجاعة تحاصر غزة
- البرش: 122 حالة وفاة بسوء التغذية في غزة و11.5% من الأطفال ي ...
- مظاهرات في مدن عربية تضامنا مع غزة واعتقالات بالأردن
- مراكز توزيع المساعدات: ساحات عنف ممنهج تزهق أرواح النساء وتق ...
- رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق يتهم نتنياهو بإفشال صفقة ...


المزيد.....

- “رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”. / أزاد فتحي خليل
- رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر / أزاد خليل
- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - بوتان زيباري - في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات الخرائط