أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض















المزيد.....

سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 09:23
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


في زوايا السويداء، حيث الجبل يرتفع كأنه صرخة مكتومة في وجه السماء، يُسمع دوي الرصاص، لا كنداء حرب، بل كصرخة ألمٍ طويلة تمتد من دمشق إلى حلب، ومن دير الزور إلى قامشلو. لا أحد يعلم متى بدأ هذا الدم أن ينزف، ولا من سيُغلق الجرح. لكن ما نعرفه اليوم بيقين هو أن سوريا لم تعد مجرد بلدٍ يمر بأزمة، بل أصبحت رمزًا للانكسار الإنساني، مسرحًا لعبثٍ سياسي لا ينتهي، حيث يُقتل الإنسان باسم الوطن، ويُدمر الوطن باسم الإنقاذ. كل طرف يرفع شعار العدالة، وكلهم يمارسون الظلم. كل فصيل يدّعي أنه الضحية، وكلهم يتحولون إلى جلاد.

الدم في السويداء ليس حدثًا عابرًا، ولا نتيجة صدفة، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من التآكل الذي بدأ منذ أكثر من عقد. إنه امتدادٌ طبيعي لانهيار الدولة، ليس فقط كمؤسسة إدارية أو عسكرية، بل كفكرة. لأن الدولة الحقيقية ليست مجموعة جدران أو سواتر ترابية، ولا خطوطًا على الخريطة تُرسم وتُمسح بحسب المصالح. الدولة هي وعدٌ بالأمن، هو ضمانة العدالة، هو الشعور بأنك آمنٌ في بيتك، حرٌ في كلامك، محترمٌ في هويتك. أما في سوريا اليوم، فالدولة غائبة، وإن ظهرت، فهي تظهر بوجه قمعي، أو بوجه ميليشياوي، أو بوجه خارجي يتخفى تحت شعارات التحرير أو الوحدة.

نظام دمشق يتحدث عن بسط السيطرة، وعن استعادة الأرض، وكأن الأرض وطنٌ يمكن احتلاله ثم استرجاعه مثل قطعة أرض زراعية. لكن ماذا عن الإنسان؟ هل بسط السيطرة يعني أن تعود الأم إلى ابنها المختفي قسريًا؟ هل يعني أن يمشي المواطن في شوارع السويداء دون خوف من كمين أو تفجير؟ هل يعني أن يُحاسب القاتل، سواء كان يرتدي بذلة عسكرية أو يحمل لواء ثورة؟ لا، لأن السيادة التي تُفرض بالرصاص والاعتقالات، وتقايض فيها حقوق الناس بأوهام "الاستقرار"، ليست سيادة، بل هي احتلالٌ جديد باسم الداخل. وحين يُستخدم مصطلح "الوحدة الوطنية" بينما تُعامل المكونات السورية كقطع شطرنج في لعبة طائفية، فإن الكلمة تفقد معناها، وتتحول إلى نكتة مريرة تُروى على وقع البكاء.

أما المعارضة المسلحة، فقد فقدت منذ زمن طويل أي مشروعية تحدثت عنه يومًا. فكيف نتحدث عن تحرير، بينما تُحكم مناطقها بالخوف، وتحتكر فيها السلطة ميليشيات تعيش على الحرب؟ كيف نُصدق شعارات "العدالة" ونحن نرى من يختلف معهم في الرأي يُختطف أو يُقتل؟ الثورة، إن كانت قد بدأت يومًا كصرخة إنسانية ضد الظلم، فقد تحولت اليوم إلى ذكرى باهتة، بينما الواقع يُعيد إنتاج نفس النموذج: سلطة بالسلاح، وحقوق بالقوة، ووجودٌ مشروط بالولاء. السوريون لم يعودوا يؤمنون بخطاب النصر، لأنهم يعرفون أن النصر الحقيقي ليس في احتلال مدينة، بل في عودة طفل إلى مدرسته، في ابتسامة أم بعد سنوات من البكاء.

وفي هذا الفراغ، برز الدور الإقليمي كلاعب أساسي، لا كحلّ، بل كجزء من المشكلة. تركيا، التي دخلت باسم "حماية السنة"، حوّلت المناطق التي تسيطر عليها إلى ساحات إفقار وتجييش، حيث يُبنى النظام على تدمير المجتمع، لا على بنائه. ميليشيات تُدفع لها رواتب، ومواطنون يُجبرون على الهجرة أو الصمت. نموذجٌ يشبه كثيرًا نموذج النظام في دمشق، الفرق فقط في الشعار. أما إسرائيل، فتبقى الظل الغامض، حيث تُطلق النار وتُوقفها حسب المعادلات، بينما يُتهم الدروز بالتعامل معها، في وقت تُشير فيه التسريبات إلى أن دمشق نفسها تخوض تفاوضًا غير مباشر عبر وقف إطلاق النار. فهل هذه ازدواجية؟ أم أنها الحقيقة المرة: أن الجميع يستخدم ورقة "العدو الخارجي" لتغطية فشله الداخلي؟

في الفضاء الرقمي، تتكرر نفس الأكاذيب. النقاش يختزل إلى اتهامات بالعمالة، بالطائفة، بالعرق. أي صوت يدعو إلى التفكير العميق، إلى التساؤل، إلى النقد، يُصادر ويُوصم بأنه "ينسف الوحدة". بينما الوحدة الحقيقية لا تُبنى بالإسكات، بل بالحوار، بالاعتراف بالآخر، بالقدرة على قول: "ربما أكون مخطئًا". لكن في زمن السجع السياسي، والخطابات البلاغية الفارغة، لا مكان للشك، لا مكان للسؤال. هناك فقط أنا والآخر، الوطن وأنا، والعدو في كل من يختلف.

سوريا اليوم ليست دولة، بل هي فكرة قيد الموت. لكن في قلب هذا الموت، لا تزال هناك نبضات. نبضات في قلوب أولئك الذين يرفضون أن يُختزلوا إلى طائفة أو منطقة أو ولاء. نبضات في كتابات المثقفين الذين لا يزالون يكتبون رغم الخوف. نبضات في عيون الأطفال الذين يلعبون بين الأنقاض، وكأنهم يقولون: "لا تزال الحياة ممكنة". هذه النبضات هي الأمل، لكنها لا تكفي. لأن الأمل لا يُبنى على المشاعر، بل على عقد اجتماعي جديد، على دولة لا تفرق بين مواطنيها، على عدالة لا تعرف الاستثناءات.

التقسيم لم يعد تهديدًا نظريًا، بل هو حقيقة تُفرض على الأرض، لا بقرارات دولية، بل بفعل السلاح، بالخوف، بالتمييز. لكن التقسيم ليس الحل، بل هو انتحار جماعي. لأن سوريا، كيانها الجغرافي لا يساوي شيئًا إذا لم تكن وطنًا للجميع. فالحدود التي تُرسم بالدم لا تصمد، كما أن الدول التي تُبنى على الطائفية لا تعيش. التاريخ مليء بالأمثلة، لكن لا أحد يتعلم.

السؤال الأخير، وهو الأصعب: هل يمكن أن تنهض سوريا من بين الركام؟ الجواب لا يكمن في أيدي القوى الكبرى، ولا في مؤتمرات جنيف، ولا في خطابات المسؤولين. الجواب يكمن في إرادة الشعب، في قدرته على رفض أن يكون وقودًا، في شجاعته على قول لا لكل من يحاول اختزاله. لأن سوريا الجديدة لن تُبنى بالدبابات، ولا بالبيانات الإعلامية، ولا بوعود الخارج. ستُبنى بكلمات صادقة، بمحاسبة حقيقية، بعفو لا يعني نسيان الجريمة، بل تجاوز الكراهية. ستُبنى عندما يشعر الدروزي في السويداء كما يشعر العلوي في الساحل، والكوردي في قامشلو، والسنّي في حمص، أن هذا الوطن هو بيته، وليس ساحة حرب.

سوريا ليست جثةً تنتظر التقطيع، كما يظن البعض. هي قلبٌ ما زال ينبض، وإن ببطء. والنابض لا يموت. لكنه يحتاج إلى يدٍ تُضمَد بها جراحه، لا إلى سكينٍ تزيد من نزيفه. الخيار اليوم ليس بين نظام ومعارضة، ولا بين شرق وغرب، بل بين الحياة والموت. وبين أن نكون شعبًا، أو أن نصبح مجرد رقم في سجلات النزاعات الدولية. المستقبل ليس مكتوبًا، بل هو ما نصنعه. فهل نصنع وطنًا؟ أم نواصل اللعب في مسرح الدم؟



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية
- سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب
- أطياف الصراع: قراءة فلسفية في تداعيات الضربة الإيرانية والرد ...
- ملحمة الصراع الإيراني-الإسرائيلي وتصدعات الشرق المكسور
- صراع الوجود وأسئلة المصير: الهجوم الإسرائيلي على إيران بين ا ...
- سقوط الأقنعة: حين يصبح الفساد سلاحاً للانهيار والهيمنة
- تأملات في الخطاب والهوية بين السجال والوجود
- رياح التمرد والهشاشة: الكورد بين مطرقة الذات وسندان الجوار
- اللامركزية بين مطرقة السلطة وسندان الحرية: تأملات في فلسفة ا ...
- صراع الجبابرة: إيران وسوريا في دوامة الشرق الأوسط الدامية


المزيد.....




- أكبر محاكاة عسكرية لها.. تايوان تجري تدريبات غير مسبوقة لجيش ...
- صور مرعبة تجسد الدمار البطيء للبيئة بهدف إيجاد حلول
- مخاوف بين سكان الخرطوم من الألغام والأجسام المتفجرة
- ماذا نعرف عن استخدام الجيش الإسرائيلي لمقاولين لهدم غزة؟ | ب ...
- ترامب مهددًا إيران: سنعيد قصف المنشآت النووية إذا لزم الأمر ...
- واشنطن تفرج عن الوثائق السرية المتعلقة باغتيال مارتن لوثر كي ...
- إغراء للموظفين.. -رايان إير- تدرس رفع المكافآت مقابل ضبط الح ...
- تحقيق يكشف: إسرائيل تستعد لسيناريو هجوم من جهة سوريا
- خطر خفي في مشروباتنا..دراسة فرنسية تكشف تلوّث المشروبات بجزي ...
- تنسيق ترحيل أفغان - وصول ممثلين من طالبان إلى ألمانيا لأول م ...


المزيد.....

- اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون / سعيد العليمى
- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض