أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - اللامركزية بين مطرقة السلطة وسندان الحرية: تأملات في فلسفة الحكم ومصائر الشعوب















المزيد.....

اللامركزية بين مطرقة السلطة وسندان الحرية: تأملات في فلسفة الحكم ومصائر الشعوب


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 10:56
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


في دهاليز الدولة الحديثة، حيث تتصارع السلط مع الحاجات، وتتنازع المراكز مع الهوامش، تتسلل فكرة اللامركزية كنسمة حرية تمشط شعر الخرائط، وتعيد رسم حدود السيادة بين قلب الدولة وأطرافها. إنها ليست مجرد آلية تقنية لتوزيع المهام، ولا إصلاحًا إداريًا عابرًا، بل هي فلسفة وجودية، تصور آخر لمفهوم الحكم، ومرآة تعكس تطور الوعي الجمعي بالمشاركة، والتعدد، والكرامة السياسية.

بين السياسة والإدارة: جدل الهوية والوظيفة
ليست اللامركزية قالبًا واحدًا يصب في جميع الدول، بل هي ثنائية تتجاذبها السياسة والإدارة، كما يتجاذب البحر ضفتيه. اللامركزية السياسية تمنح الإقليم حق التنفس المستقل، لا تحت وصاية المركز، بل في شراكة ندّية تعترف باختلاف الخصائص وتنوع الأولويات. أما اللامركزية الإدارية، فهي تفويض في المهمة لا في القرار، ترسل السلطة المركزية أذرعها نحو المحليات، لتقوم مقامها في تقديم الخدمة، دون أن تفرّط بسوط القرار السيادي.

والفرق بينهما كالفرق بين من يسكن بيتًا بإيجار ومن يمتلك سند الملكية: الأول يزيّن الجدران، والثاني يغيّر المخطط. ففي حين تتمتع ولايات أمريكا بسلطات تشريعية وتنفيذية تجعلها فاعلة على مسرح الحكم، تبقى البلديات الفرنسية، رغم نشاطها، أشبه بفروعٍ إدارية تعمل بتوجيه المقرّ المركزي في باريس.

الديمقراطية تبدأ من الحارة
ما اللامركزية السياسية إلا تتويجٌ للنضج الديمقراطي، حين تدرك الدولة أن السيادة لا تتجزأ، لكنها تتوزع. في إسبانيا، حيث تعانق الباسك صوتهم القومي، وفي سويسرا، حيث يتحدث الجبل بلهجته الخاصة، نجد في تنوع الأنظمة الإقليمية تعبيرًا عن خصوصيات ثقافية وتاريخية لا تُحتمل في ظل مركزية جامدة.

اللامركزية، إذًا، ليست فقط أداة إدارية، بل هي لغة تفاهم بين السلطة والشعب، بين الذاكرة والواقع. إنها فلسفة احترام الآخر داخل الذات الوطنية. فحين تُمنح الأقاليم حق التشريع والتنظيم، يصبح الوطن حديقة من الأصوات لا ثكنة من الأوامر.

التنمية لا تُحكم من العاصمة
لئن كانت المركزية تراهن على التنسيق والهيبة، فإن اللامركزية تراهن على القرب والكفاءة. فالقرارات التي تُطبخ في دهاليز البيروقراطية غالبًا ما تُفقد نكهتها حين تصل إلى موائد المواطنين. أما حين تتخذ المدن والقرى قراراتها بنفسها، فإنها تطبخ حاجاتها على نار التجربة والمعرفة.

خذ اليابان مثالًا: رغم نظامها الإداري المركزي، فإن بلدياتها تتمتع بهامش واسع في إدارة النقل والصحة والتعليم. ولولا هذه اللامركزية لكانت البيروقراطية كفيلة بإغراق قطارات طوكيو في تأخير يومي مزمن! وفي ألمانيا، حيث الفيدرالية ليست اختيارًا بل ثقافة، نرى كيف تنتج كل ولاية نمطها الخاص من التعليم والاقتصاد، مما يصنع تنوعًا داخل الوحدة، وغنىً في التنسيق.

حين تكون السلطة فنًا لا سيطرة
السلطة في فلسفتها العميقة ليست قهرًا بل تنظيم، وليست احتكارًا بل توزيعًا. اللامركزية تُرجع السلطة إلى مصدرها الطبيعي: المجتمع. إنها تشبه الفنون الحرة التي يُتقنها الإنسان حين يشعر أنه مشارك لا مجرد متلقٍّ. ولهذا، فإن تمكين الجهات المحلية لا يؤدي فقط إلى تحسين الخدمات، بل يعيد للمواطن شعور الانتماء، ويجعل من الحاكم المحلي جارًا لا غريبًا.

وفي هذه العلاقة الحميمة، يولد الابتكار. البلديات التي تُمنح حرية اتخاذ القرار، تخترع حلولها، تبتكر نظامها البيئي، وتبني جسور الثقة بين الدولة والمواطن. فالمدينة التي تدير مياهها وطرقها ومدارسها بنفسها، تكتشف قوتها الذاتية، وتصبح قادرة على التفاوض لا التوسل.

تحديات في طريق التحرر
غير أن هذا الطريق ليس معبدًا بالورود. فاللامركزية، في غياب الحوكمة الرشيدة، قد تتحول إلى دويلات فساد صغيرة. حين تُفكك السلطة دون بناء مؤسسات قوية، تصبح اللامركزية أداة لتكريس الامتيازات لا لتوزيع العدالة. وفي دول نامية، حيث الموارد غير متكافئة بين الأقاليم، قد تؤدي اللامركزية إلى تعميق الفوارق بدل ردمها.

ثم تأتي بيروقراطية الخوف، حين تتوجس السلطة المركزية من فقدان السيطرة، فتضع العراقيل أمام الإصلاحات اللامركزية، كما لو أن منح الأقاليم صوتًا هو دعوة إلى التمرد. هذه النظرة الاستعلائية تُجهض أي تجربة ولدت لتكمل، وتبقي الدولة في حلقة مفرغة من المركزية القمعية والتخلف الإداري.

المستقبل: لامركزية ذكية في عالم متغير
لكن المستقبل لا ينتظر. التحول الرقمي، والبيانات الضخمة، والحوكمة الذكية، تفتح للامركزية أفقًا جديدًا. فبفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن لكل بلدية أن تقرأ احتياجات سكانها في الزمن الحقيقي، وتخطط خدماتها بكفاءة غير مسبوقة. وبفضل البلوك تشين ((Blockchain) تعني حرفيًا "سلسلة الكتل"، وهي تقنية رقمية حديثة تُستخدم لحفظ وتوثيق المعلومات بطريقة لامركزية وآمنة، دون الحاجة إلى وجود جهة مركزية تتحكم بها، مثل الحكومات أو البنوك.)، يمكن مراقبة الإنفاق العام محليًا بشفافية مطلقة، دون انتظار تقارير وزارة في عاصمة تبعد ألف كيلومتر.

اللامركزية المالية، والميزانيات التشاركية، والاستفتاءات المحلية، كلها أدوات قادمة لتجعل من المواطن ركنًا في القرار، لا مجرد رقم في دفتر النفوس. إنها انتقال من الهرم الصلب إلى الشبكة المرنة، من القرار الواحد إلى التعدد التوافقي.

خلاصة: الدولة التي ترى نفسها في مرآة شعوبها
في النهاية، اللامركزية ليست رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية لدولة تحترم ذاتها عبر احترام تنوعها. الدولة التي تطمئن إلى مواطنيها تمنحهم السلطة، والدولة التي تخشاهم تحتكرها. وبين هذين الخيارين، يتحدد مصير الشعوب: إما وطن متعدد يزهر من أطرافه، أو سلطة متخشبة تموت في قلبها.

اللامركزية، إن أُحسن غرسها، تثمر عدلًا وازدهارًا، وإن أُسيء فهمها، تتحول إلى فوضى مقنّعة. والفرق بين الحالتين ليس في البنية، بل في النية، وفي مدى استعداد العقل السياسي للانتقال من منطق السيطرة إلى منطق الشراكة.

فهل نملك الشجاعة كي نُصغي للأطراف، كما نُنصت للقلب؟ وهل نملك الحكمة كي نفهم أن الوحدة لا تعني التطابق، بل التناسق في التنوع؟
ذاك هو السؤال الذي تطرحه اللامركزية... وسنجيب عليه، إما بشعب حيّ، أو بدولة تخشى ظلها.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع الجبابرة: إيران وسوريا في دوامة الشرق الأوسط الدامية
- الكوردايتي: سيمفونية تحوّلٍ من البقاء إلى الازدهار
- تأملات في الحرية والذات والهوية
- صوت المثقّف في مواجهة دوّامة التفاهة والانقياد
- حين ينهش القناع مَن يلبسه
- سوريا بين رُكام الشرق وحُمى الغرب: عن الأويغور، إسرائيل، وخر ...
- تركيا والكورد في مفترق الطرق
- انفصال المعنى عن الفعل الإنساني: المأساة الصامتة للمجتمع الح ...
- رحلة الكُرد نحو الذات السياسية
- بين سُحب التقسيم ووهج الاتفاق: رقصة الأضداد في ظل الشرق المض ...
- أقنعة الاستبداد: سوريا بين مطرقة التقديس وسندان التماثل الخف ...
- لعبة التوازن بين الحوار والقمع في الملف الكوردي التركي
- انفتاح الغرب... نافذة خلاص أم قيد ناعم؟
- شاطئ الخوف: تأملات في ظل صمت البنادق
- حين تتكلم الجبال ويسكت العالم
- على درب السلام، أين تقف الوعود؟
- رمادٌ لم يُدفن: كيف يُعاد تدوير الجريمة في ذاكرة الأمم؟
- تأمل في مشهدٍ يتدحرج من السلة إلى السلطة
- حين تتهامس الجغرافيا بالعقل: التأمل في مصير وطن تحكمه الأطيا ...
- تحت ظلال قامشلو: أنشودة الكورد في خريف العصور


المزيد.....




- تحديث مباشر.. الجيش الإسرائيلي يعلن رصد صواريخ قادمة من إيرا ...
- إدارة ترامب تستهدف مصر وسوريا و34 دولة بحظر السفر للولايات ا ...
- إعلام عبري يكشف الأهداف الأربعة لعملية -الأسد الصاعد- الإسرا ...
- بن سلمان يؤكد لبزشكيان وقوف السعودية بثبات إلى جانب إيران
- ليبيا.. -قافلة كسر الحصار على غزة- تتراجع من مشارف سرت وتتجه ...
- +++ قصف إيراني جديد وإسرائيل ترد باستهداف العمق الإيراني +++ ...
- ضربة صاروخية إيرانية كبيرة جديدة على إسرائيل (فيديوهات)
- -كان 11- العبرية: إيران هزمت بالفعل بفضل خطوة إسرائيلية لم ت ...
- مراسلة RT: سلاح الجو الإسرائيلي يشن هجوما على اليمن وصف بالد ...
- خبير عسكري يفجر مفاجأة بشأن الضربات الإسرائيلية ضد إيران


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - اللامركزية بين مطرقة السلطة وسندان الحرية: تأملات في فلسفة الحكم ومصائر الشعوب