أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بوتان زيباري - انفصال المعنى عن الفعل الإنساني: المأساة الصامتة للمجتمع الحديث














المزيد.....

انفصال المعنى عن الفعل الإنساني: المأساة الصامتة للمجتمع الحديث


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 00:42
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


ليست مأساة الإنسان المعاصر مقتصرة على الفقر أو الاستبداد، ولا على أروقة السياسة أو متاهات الاقتصاد؛ بل تسكن في الأعماق، حيث ينفصم الكائن عن جوهره، وتتفكك الصلة بين فعله وبين عالم القيم والمعاني والمعتقدات التي من المفترض أن تهديه. وربما تكمن مفارقة عصرنا الكبرى في أن الإنسان يبدو وكأنه يفعل ما يجب، لكنه لم يعُد يدري لماذا يفعله… أو لم يعُد يشعر بشيء على الإطلاق.

1. الزواج في زمن فقدان الحب: كيف تلتهم التقاليد ما تبقى من العشق؟
كان الزواج، عبر التاريخ، لقاءً لا يجمع جسدين فحسب، بل سلالتين، عائلتين، وأحياناً طبقتين اجتماعيتين. أما اليوم، فقد أُفرغ من نداءاته الوجودية، من حرارة الحب أو شغف الاكتمال. صار استجابةً باهتة لتوقعات المجتمع وضغوط الاقتصاد. تتلاقى الأجساد على طاولة العقد، بينما الأرواح تلوذ بالصمت، وقد تفترق دون أن تغادر المكان. وكل زواج يُبنى على فراغٍ عاطفي هو في جوهره تضخيمٌ لوحدة الفرد، لا نقيضها.

2. فجوة بين الإنجاب والاستثمار الثقافي: أطفال بلا مرجعية
إنجاب الأطفال ليس مجرد عملية بيولوجية، بل هو تسليم شعلة التاريخ، وبذل للهوية، وتكريس للأخلاق. لكننا في زمن أصبحت فيه الأبوة والأمومة امتدادًا لاختلال طبيعي لا يرافقه وعي. أن تربي طفلًا يحتاج زمناً وحكمة، أما أن تنجبه فليس أكثر من لحظة. في هذا الانفصام، يُترك الجيل القادم في مهب الضياع، بلا دليل ثقافي، بلا بوصلة أخلاقية… كأشجار نبتت دون جذور، في أرض لا تعرف الفصول.

3. الارتفاع المعماري والانهيار الفكري
نبني الأبراج، ولا نبني الإنسان. ترتفع الخرسانات، وتنهار خرائط المعنى. وهنا يبرز الفارق بين "التمدن" و"التحضر": فالأول معنيٌّ بالهيكل، والثاني بالجوهر. المدينة الحديثة شامخة، لكنها مجوفة؛ مترفة، لكنها عمياء. إنها سقوط عمودي، لا يُرى بسهولة، لكنه يمزق أرواح ساكنيها دون صوت.

4. حين تتحول العبادة إلى عادة: انطفاء النور المقدس
الإيمان نغمة داخلية تهتز في أعماق الإنسان، تهديه وتطمئنه. لكن حين تتحول العبادة إلى عادةٍ ميكانيكية، تفقد الصلاة جوهرها، ويتحول الدين إلى استعراض. يصلي المرء، بينما قلبه عالق في صخب السوق، يهمس بالدعاء لكن روحه في غيبوبة. وهكذا يُقصى الله من مركز الحياة، ولا يبقى سوى القالب الخالي. يتحول الدين من رسالةٍ تحرر الضمير، إلى طقسٍ يخرسه.

5. العمل كفعل اغتراب: متى أصبح الجهد عبئاً لا تحقيقاً للذات؟
العمل ليس فقط كسباً للعيش، بل ميدانٌ لتحقيق الذات واكتشافها. غير أن العمل اليوم، وقد نُزعت منه الروح، تحوّل إلى طاحونة لا تتوقف. نكدح، لكننا لا نعرف لماذا. صار الجهد مرادفًا للإرهاق، لا للتحرر. وهنا يظهر الاغتراب بأوضح صوره: الإنسان صار غريبًا عن ما يصنعه، وما يُنتجه لا يُشبِهه. في مثل هذا المجتمع، لا يُحرِّر العمل الإنسان، بل يستنزفه ويستهلكه.

6. تدهور الكلمة: سقوط اللغة في فخ اللا معنى
الكلمة عهد، واللغة وطن الروح. لكن حين يُقال الكلام بلا صدق، تُفرّغ المعاني من روحها. لم تعد الكلمات تُقرّب القلوب، بل تُستخدم سلاحًا في تزييف الحقيقة. تضيع الثقة وسط زينة البلاغة المصطنعة، ويتحول الخطاب إلى قناع. اللغة مرآة المجتمع، واليوم هذه المرآة مكسورة، وكسورها تعكس الانهيار الأخلاقي.

الخاتمة: المأساة لا تُروى بالكلمات، بل تُكتب بصمت الأفعال
ما تقدّم ليس سوى محاولة لتوصيف الهوة العميقة بين فعل الإنسان وحقيقته الباطنية. فليس المهم فقط أن نعمل، بل أن ندرك لماذا نعمل، وكيف نعمل. وإلا تحولت الأفعال إلى تكرارٍ أجوف، إلى تمثيلٍ بلا مضمون، إلى طقوسٍ بلا روح.

المجتمع الحديث يشبه جسراً آيلاً للسقوط، يمتد بين الفعل والإيمان، بين الشكل والجوهر، بين الجسد والروح. وحين ينهار هذا الجسر، ينهار معه كل شيء: تزداد الوحدة، وتتفاقم الغربة، ويضيع المعنى. إننا لا نعيش في دراما تصرخ، بل في مأساة تهمس… مأساة تُكتب بأيدينا، لكننا لا نقرأها، لأننا مشغولون بتكرار أفعال لم نعد نشعر بها.

هل رأيت مأساة أكثر صمتاً من هذه؟



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة الكُرد نحو الذات السياسية
- بين سُحب التقسيم ووهج الاتفاق: رقصة الأضداد في ظل الشرق المض ...
- أقنعة الاستبداد: سوريا بين مطرقة التقديس وسندان التماثل الخف ...
- لعبة التوازن بين الحوار والقمع في الملف الكوردي التركي
- انفتاح الغرب... نافذة خلاص أم قيد ناعم؟
- شاطئ الخوف: تأملات في ظل صمت البنادق
- حين تتكلم الجبال ويسكت العالم
- على درب السلام، أين تقف الوعود؟
- رمادٌ لم يُدفن: كيف يُعاد تدوير الجريمة في ذاكرة الأمم؟
- تأمل في مشهدٍ يتدحرج من السلة إلى السلطة
- حين تتهامس الجغرافيا بالعقل: التأمل في مصير وطن تحكمه الأطيا ...
- تحت ظلال قامشلو: أنشودة الكورد في خريف العصور
- أغاني التراب: حين تسافر الأمم في ليلها الطويل
- المتاهة السورية: بين سراب السيادة وظلال الأطياف الإقليمية
- نسيج الأقطار: سيمفونية الصراع ورنين الأمل
- أردوغان في متاهة السياسة: بين سندان الداخل ومطرقة الخارج.. ه ...
- العاصفة الصامتة: كيف حوّلت الصين ساحة الحرب الاقتصادية إلى ر ...
- أطياف النفوذ وسراب القوة: إيران والعراق في متاهة التحولات ال ...
- لعبة المصالح: الدبلوماسية بين الوهم والواقع في ظل صراع الأجن ...
- تأملٌ في متاهات الهويّة وسراديب السلطة


المزيد.....




- إسرائيل.. محتجون يقتحمون مقر حزب نتنياهو.. والشرطة تعتقل الع ...
- مصدر عسكري إسرائيلي: نخشى آلاف الصواريخ وإسقاط مقاتلاتنا إذا ...
- وحشية شرطة بريطانيا.. برئ ضابطان استخدما رذاذ فلفل وصاعقا كه ...
- روبيو: سنبدأ في إلغاء تأشيرات بعض الطلاب الصينيين
- فضائيون يحاولون الاتصال بالأرض؟ حيرة لدى العلماء بسبب جسم كو ...
- مندوب الجزائر يضع مأساة آلاء النجار والطفلة وردة أمام أنظار ...
- مصدر عسكري إسرائيلي: نخشى آلاف الصواريخ وإسقاط مقاتلاتنا إذا ...
- ترامب: التراجع عن التهديد بفرض الرسوم الجمركية ليس جبنا بل ط ...
- مصر.. رئيس الحكومة يعلق على جدل -شهادة حلال- للألبان واللحوم ...
- انهيار جليدي ضخم يدمر بلدة بشكل جزئي في سويسرا (فيديوهات + ص ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بوتان زيباري - انفصال المعنى عن الفعل الإنساني: المأساة الصامتة للمجتمع الحديث