أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - أقنعة الاستبداد: سوريا بين مطرقة التقديس وسندان التماثل الخفي














المزيد.....

أقنعة الاستبداد: سوريا بين مطرقة التقديس وسندان التماثل الخفي


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 18:33
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


في مسرح الظلال السوري، حيث تتقاذف الأطيافُ السياسيةُ جمرَ السلطة، تطلّ علينا دورةٌ وجوديةٌ جديدةٌ للطغيان، تتنكر بثوب المُخلّص وتتوسل بلغة القداسة. إنها حكايةُ النظام الذي لا يموت، بل يتناسخ في قوالب لفظية جديدة، كالثعبان الذي ينسلخ عن جلده ليحتفظ بسمومه ذاتها. نظام أحمد الشرع، الذي صعد إلى السلطة ملوحًا بإعادة البناء من أنقاض الحرب، سرعان ما كشف عن هيكله العظمي: استبدادٌ قديمٌ يرقص على أنغامٍ دينيةٍ بدلَ النشيد القومي.

ليست الثيابُ الدينيةُ سوى مرآةٍ معتمةٍ تعكس وجهاً آخرَ للشمولية البعثية، كالوجهين المتضادين لعملةٍ واحدةٍ تسكّها آلةُ القمع منذ عقود. فكما حوّل الأسدُ الأبُ العروبةَ إلى سيفٍ مسلطٍ على رقاب المختلفين، يصوغ الشرعُ اليومَ خطاباً دينياً يتحول إلى محرابٍ تُذبح عليه التعدديةُ قرابينَ وهمية. إنها لعبةُ المرايا الملتوية: فتحت مسمى "حماية الثوابت" تُختنق الأصواتُ الناقدةُ، وباسم "الردةِ الفكريةِ" تُسحقُ أحلامُ التغيير، تماماً كما جرى تحت راية "الوطنية" و"المقاومة". هنا، لا فرقَ بين استغلال المقدسِ والدنيوي إلا كالفرق بين السكينِ والمِقصلةِ في النهاية.

تشي هذه التحولاتُ بمبدأٍ جوهريٍ في فلسفة السلطة: الاستبدادُ كائنٌ متعددُ الأوجهِ، قادرٌ على استعارةِ أقنعةِ العصرِ وإخفاءِ وجهه الحقيقي. فالنظامُ الجديدُ، رغم تبنيه لغةَ "الدولة الراشدة"، يعيد إنتاجَ آليةِ التفكير الأحادي عبر أدواتٍ أكثرَ دهاءً. الإعلامُ الذي كان يُهلهلُ سرديةَ "القائد الملهم" صارَ يُقدسُ "المرجعيةَ الفقهيةَ"، والمدارسُ التي كانت تُغذي عقولَ الناشئةِ بشعاراتِ البعثِ تحوّلت إلى منابرَ لترسيخِ تفسيرٍ واحدٍ للدينِ. حتى المثقفون، أولئك الذين ناضلوا ضدَ طغيانِ الأمسِ، وجدوا أنفسَهم أمامَ سجانٍ جديدٍ يخنقُ أفكارَهم بلجامِ "الانحرافِ العقدي"، وكأنما التاريخُ يعيدُ نفسَه بلغةٍ أكثرَ سوداوية.

وفي قلبِ هذه المعادلةِ المُعقدةِ، يطفو سؤالٌ وجوديٌ: هل يمكنُ للاستبدادِ أن يولدَ من رحمِ الثورةِ ذاتها؟ لقد جاء الشرعُ على أكتافِ حراكٍ شعبيٍ طالبَ بالحريةِ، لكنه سرعانَ ما أدارَ ظهرَه لأحلامِ المشاركةِ، مكرساً نموذجَ الدولةِ الأمنيةِ تحتَ غطاءِ "الأخلاقِ العامةِ". المجالسُ المدنيةُ المستقلةُ تُوصمُ بالانفصاليةِ، والمبادراتُ الثقافيةُ تُحاصرُ بتهمةِ "التغريبِ"، في مشهدٍ يُذكرنا بمصيرِ "اللجانِ الثوريةِ" في عهدِ الأسدِ، حينَ كانت كلُ جماعةٍ خارجَ الحزبِ تُعتبرُ خليةً نائمةً. إنه الخوفُ الأبديُ من التنوعِ، ذلكَ الشبحُ الذي يطاردُ كلَ نظامٍ شموليٍ، فيحوله إلى وحشٍ يلتهمُ أبناءَه خشيةَ أن ينقلبوا عليه.

اللافتُ في هذهِ المسرحيةِ المأساويةِ هو افتقارُ النظامِ الجديدِ لرؤيةٍ سياسيةٍ تتجاوزُ شعاراتِ الهويةِ المُطلقةِ. فبينما تتهاوى المدنُ تحت وطأةِ الدمارِ الاقتصادي، يُقدّمُ الحاكمُ خطاباً أخلاقياً كمسكّنٍ لأوجاعِ الشعبِ، كالطبيبِ الذي يعالجُ سرطاناً بالأسبرينِ. لا خطةَ لإعادةِ الإعمارِ سوى إعادةِ بناءِ السجونِ، ولا عدالةَ انتقاليةً إلا عدالةَ المنتصرِ التي تُعاد كتابتُها على منابرِ الجمعةِ. إنها "النهضةُ" المزعومةُ التي لا تختلفُ عن سابقتها إلا كاختلافِ القيدِ الحديديِ عن القيدِ الخشبيِ.

ولا يخفى على المُتمعنِ التشابهُ البنيويُ في توظيفِ العاطفةِ الجمعيةِ. فكما استثمرَ الأسدُ في جرحِ القوميةِ العربيةِ المُهانةِ، يراهنُ الشرعُ اليومَ على غريزةِ الخوفِ من "الآخرِ" الطائفيِ، مُحولاً الدينَ من رابطٍ روحيٍ إلى سلاحٍ سياسيٍ. الخطابُ الرسميُ يغذي نزعةَ الاستعلاءِ المقدسِ، كأنما الأمةَ سفينةٌ نوحٌ لا يُسمحُ بدخولِها إلا لمن يحملُ بطاقةَ طائفةٍ معينةٍ. هذهِ الاستراتيجيةُ لا تُذكي نارَ الفرقةِ فحسب، بل تحولُ الوطنَ إلى ساحةِ حربٍ هوياتيةٍ دائمةٍ، حيثُ الولاءُ للزعيمِ يصيرُ امتداداً للولاءِ للإلهِ.

أما أخطرُ وجوهِ هذهِ الاستمراريةِ المُقنعةِ فهو تحويلُ العنفِ إلى طقسٍ شرعيٍ. فبينما كان النظامُ البعثيُ يُغلفُ جرائمَه بلغةِ "حمايةِ الحدودِ"، يبررُ خلفاؤُه الجددُ القتلَ الجماعيَ بـ"غضبِ الشارعِ المؤمنِ"، وكأنما الدماءَ تُسفكُ بإرادةٍ شعبيةٍ لا بأوامرَ مخابراتيةٍ. إنها لعبةُ التنظيرِ للهمجيةِ، حيثُ تُلبسُ الفوضى المُنظمةُ ثوبَ "الثأرِ المقدسِ"، في مشهدٍ يُعيدُ إلى الأذهانِ محاكمَ التفتيشِ التي كانت تُحرقُ المُخالفينَ باسمِ الربِ.

في الختام، ليست سوريا الجديدةُ سوى مرآةٍ مشروخةٍ تعكسُ وجهَ الاستبدادِ القديمِ بمكياجٍ حديثٍ. النظامُ الذي يتنفسُ اليومَ برئةٍ دينيةٍ هو ذاكَ التنينُ البعثيُ الذي تعلمَ فنونَ التنكرِ. التغييرُ في القشرةِ لا في الجوهرِ، والتحولُ في الخطابِ لا في الممارسةِ. فكما قال ابن خلدون ذاتَ يوم: "الغلبةُ للبسِ الحديدِ"، لكنْ في دمشقَ اليومَ، يُستبدلُ الحديدُ بسياطٍ من حريرِ الخطابِ الدينيِ، بينما الجرحُ الوطنيُ ينزفُ نفسَ الدمِ القديمِ.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لعبة التوازن بين الحوار والقمع في الملف الكوردي التركي
- انفتاح الغرب... نافذة خلاص أم قيد ناعم؟
- شاطئ الخوف: تأملات في ظل صمت البنادق
- حين تتكلم الجبال ويسكت العالم
- على درب السلام، أين تقف الوعود؟
- رمادٌ لم يُدفن: كيف يُعاد تدوير الجريمة في ذاكرة الأمم؟
- تأمل في مشهدٍ يتدحرج من السلة إلى السلطة
- حين تتهامس الجغرافيا بالعقل: التأمل في مصير وطن تحكمه الأطيا ...
- تحت ظلال قامشلو: أنشودة الكورد في خريف العصور
- أغاني التراب: حين تسافر الأمم في ليلها الطويل
- المتاهة السورية: بين سراب السيادة وظلال الأطياف الإقليمية
- نسيج الأقطار: سيمفونية الصراع ورنين الأمل
- أردوغان في متاهة السياسة: بين سندان الداخل ومطرقة الخارج.. ه ...
- العاصفة الصامتة: كيف حوّلت الصين ساحة الحرب الاقتصادية إلى ر ...
- أطياف النفوذ وسراب القوة: إيران والعراق في متاهة التحولات ال ...
- لعبة المصالح: الدبلوماسية بين الوهم والواقع في ظل صراع الأجن ...
- تأملٌ في متاهات الهويّة وسراديب السلطة
- أحجية السلطة والدماء: سردية القمع في مرايا التاريخ التركي
- رقصة الموتى على أنقاض الضمير: سوريا وتأملات في انكسار المرآة ...
- بين لعنة الجغرافيا وخيانة الجيوسياسة: القضية الكوردية في مهب ...


المزيد.....




- السعودية تدين تعرض وفد دبلوماسي أجنبي لإطلاق نار من قبل الجي ...
- خلال لقائهما ـ ترامب يواجه رئيس جنوب أفريقيا بمقطع عنف سياسي ...
- -سابقة خطيرة تتطلب تحركا دوليا عاجلا-.. بيان عربي ضد إسرائيل ...
- هل تستهدف إسرائيل نووي إيران بمفردها؟
- ترامب لا يتوقع -أي نتيجة- من قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أم ...
- ترامب معلقا على زيارة زيلينسكي لجنوب إفريقيا: ماذا يفعل هناك ...
- المنفي يؤكد رغبة ليبيا في استئناف العمل مع شركات روسية في مج ...
- الخارجية البريطانية تدين وتدعو إلى التحقيق في إطلاق إسرائيل ...
- -أكسيوس-: سيناتور جمهوري يحقق في تعامل البيت الأبيض مع صحة ب ...
- الأشخاص الأكثر عرضة للدغات البعوض


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - أقنعة الاستبداد: سوريا بين مطرقة التقديس وسندان التماثل الخفي