أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بوتان زيباري - الرُّوح المُنهكة: حين يُصبح الوجودُ تمرّداً في أرضٍ فقدتَ حلمَها















المزيد.....

الرُّوح المُنهكة: حين يُصبح الوجودُ تمرّداً في أرضٍ فقدتَ حلمَها


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 17:33
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


في قلب الشرق الأوسط، حيث التراب لا يزال يحمل رائحة الدم والوحل، وحيث الأفق يختنق تحت ثقل الدخان والوهم، تسير الشعوب كأنها أشباحٌ في متاهةٍ لا مخرج لها. لم تعد الثورات التي اندلعت عام 2011 تُقرأ كبدايةٍ لعهدٍ جديد، بل كنهايةٍ لحلمٍ كان يُظن أنه ممكن. لم تكن تلك الانتفاضات مجرد هزات سياسية، بل كانت صرخة جماعية من شعبٍ تعب من الانتظار، من الاستبداد، من الفقر، من التهميش. لكن الصرخة لم تُسمع كما ينبغي، أو بالأحرى، سُمعت بآذانٍ لا تعرف سوى قمع الصوت.

لقد دخلت المنطقة منذ 2003، ثم اشتدّ المدّ عام 2011، في مسارٍ جديدٍ لم يكن فقط تحوّلاً في موازين القوى، بل تفكّكاً في نسيج المجتمعات نفسها. إيران، التي بدت وكأنها المستفيد من الزلزال العربي، وجدت نفسها اليوم محاصرة، مضغوطة بين عداء داخلي وضغط خارجي. وإسرائيل، التي كانت تراقب بعين المُتفرّج، انقضّت على المشهد بعنفٍ لا يُقدَّر، كأنها تستعجل زوال كل ما هو عربي، كل ما هو مقاوم، كل ما هو إنساني. أما العالم العربي، الذي كان ذات يوم مركزاً سياسياً وفكرياً، فقد تبدّد. مصر، التي كانت قلب الأمة النابض، صارت تنظر إلى شعبها كخطرٍ داخلي. السعودية، التي حاولت أن تملأ الفراغ، فشلت في تحويل اليمن إلى حديقةٍ خلفية، وصارت صامتةً أمام مأساة فلسطين، كأن القضية لم تعد لها صلةٌ بكرامتها.

كل ذلك يرسم مشهداً لا يشبه الثورات، بل يشبه الانهيار. لم تُنتج الانتفاضات ديمقراطية، بل أنتجت فراغاً. لم تُسقط الاستبداد، بل استبدلت شكلاً بآخر أكثر قسوة. في العراق، تحوّل التماسك الاجتماعي إلى هشاشة، وصار السُّنّة كأنهم لم يكونوا. في سوريا، لم تبدأ الطائفية مع الأسد الجديد، بل كانت متجذّرة منذ السبعينات، لكنها اليوم تسير نحو ما يشبه الإبادة الجماعية. لم تعد الثورات دعوة للحرية، بل صارت مادةً لتصنيع المزيد من العنف، المزيد من التشرذم.

ومن هنا، يبرز سؤالٌ مُحطم: لماذا لم تُثمر الانتفاضة عن شيء؟ لماذا لم تُنتج نُخباً جديدة، أفكاراً جديدة، حركاتٍ جديدة؟ لأن الشعوب لم تكن فقط تُقاوم الاستبداد، بل كانت تقاوم ثقافة الموت التي تسري في عروقها منذ عقود. ثقافة ترى في الحرب وسيلةً وحيدةً للهوية، في الشهادة نهايةً مُشرّفة، وفي الدمار تعبيراً عن الوجود. هذه الثقافة، التي يُمكن تسميتها "ثقافة التناطوس" – أي عبادة الموت – لم تُهزم بالثورة، بل استفادت منها. فحين ينهار النظام، لا يظهر البديل الديمقراطي، بل يظهر الميليشيا، والسلطة المسلحة، والتنظيم المتطرف.

الذين انتفضوا عام 2011 لم يكونوا فقط ضحايا الفقر والاستبداد، بل ضحايا تراكمٍ فكريٍّ واجتماعيٍّ عميق. لم يكن لديهم أدوات التنظيم، ولا مشروعٌ بديل، ولا حتى لغةً مشتركةً تجمعهم. كل ما كان لديهم هو الغضب. والغضب، مهما كان مشروعاً، لا يُبنى عليه وطن. وحين بدأت الحركات تتهاوى، وظهرت الجماعات المتطرفة، لم يكن ذلك مفاجأة، بل كان حتمية. ففي فراغ السلطة، لا يُملأ الفراغ بالديمقراطية، بل بالسلاح. كما قال ابن خلدون: حين تضعف الدولة، ينتقل الابتكار إلى الهوامش، إلى من يملكون السلاح، وإن كانوا أقل عدداً، وأقل شرعية.

تونس، التي كانت نموذجاً للربيع العربي، صارت اليوم مثالاً على تراجع الحلم. البرلمان يُنتخب بمشاركة 11% من الشعب، والنقابات والحقوق التي كُسبت تُستعاد ببطء. في العراق، سقطت مدنٌ بحجم الموصل دون مقاومة، ليس لأن الجيش ضعيف، بل لأن المجتمع قد تفكّك من الداخل. لم يعد هناك شعورٌ بالانتماء، ولا إرادةٌ جماعيةٌ للدفاع. وحين تنهار هذه الإرادة، يصير المئات من المسلحين قادرين على احتلال مدنٍ ملايينها. هذا ما حدث في مالي، وهذا ما يمكن أن يحدث في أي مكان.

ووسط هذا التصدّع، تظهر الجماعات الإسلامية، ليس كحلٍّ، بل كأعراضٍ للمرض. الإخوان المسلمون، الذين حاولوا الظهور كبديلٍ مدنيٍّ، فشلوا ليس فقط لأنهم لم يُعطوا لهم فرصة، بل لأنهم لم يفهموا أنفسهم، ولم يقرأوا مجتمعاتهم. اعتقدوا أنهم يستطيعون تغيير واقع مُعقّد بالدعوات والمساعدات، لكنهم لم يقدروا على بناء نموذج مستدام. وحين حاولوا اللجوء إلى القوة، فقدوا شرعيتهم. أما الجماعات الأكثر تطرّفاً، كالقاعدة وداعش، فلم تكن حركات دينية، بل كانت تعبيراً عن يأسٍ وجودي، عن رغبةٍ في التدمير كوسيلةٍ للهوية. داعش لم تُبنى على فكرةٍ، بل على فراغ. لم تكن قوةً عسكريةً فقط، بل كانت رمزاً لانهيار الدولة والمجتمع معاً.

لكن ما يثير القلق الأكبر هو أن هذه الجماعات لم تُهزم. الدولة الإسلامية قد سقطت، لكن ديناميكيات ولادتها لم تمت. ما زال هناك فقر، تهميش، تفكك اجتماعي، وغياب للهوية. طالما بقيت هذه العناصر، فستبقى الأرض خصبةً للإحياء. بل إن بعض القوى الدولية، التي كانت تُدين الإرهاب بالأمس، باتت اليوم تنظر إليه بعين التفاوض، بل والتحالف. في سوريا، هناك من يرى في الجماعات المتطرفة حلاً لوقف الفوضى، أو على الأقل أداةً للضغط. لكن هذا تفكير قصير النظر. فالفوضى لا تُوقف بالفوضى، بل تُغذيها.

وفي وسط هذا الكابوس، تظهر .كوردستان كظاهرةٍ مختلفة. ليس لأنها نجحت، بل لأنها تحاول. في روجآفا، في إقليم .كوردستان العراق، في مناطق التواجد ال.كوردي في إيران وتركيا، هناك حراكٌ يحاول أن يجمع بين الهوية والديمقراطية، بين التمرّد والتنظيم. هناك اعترافٌ بالتنوع، بالمرأة، بالمشاركة. هناك محاولة لبناء مجتمعٍ لا يقوم على الاستبداد، ولا على الطائفية، ولا على التهميش. لكن هذا الحلم لا يزال هشّاً. فما بين الأحزاب الكوردية من خلافات، وما بين الدول المحيطة من ضغوط، يُبقي المشروع في حالة ترقّب. لا أحد يعلم ما إذا كانت هذه اللحظة ستُبنى عليها دولة، أم ستُمحى ككل الحلم العربي.

السؤال الأكبر اليوم ليس عن البديل، بل عن إمكانية البديل. هل يمكن لشعوب منهكة، متعبة، مُذلّة، أن تُنتج فكرةً جديدة؟ أن تُعيد تخيّل ذاتها؟ أن تُعيد بناء عالمها من الداخل؟ الجواب ليس في النخب، ولا في الزعماء، ولا في القوى الخارجية. الجواب في الشارع، في المدرسة، في الحي، في المرأة التي ترفض الصمت، في الشاب الذي يرفض الهجرة، في الفنان الذي يرفض الكذب. لأن الديمقراطية لا تُستورد، ولا تُفرض، بل تُبنى يوماً بعد يوم، في العادات، في العلاقات، في طريقة النظر إلى الآخر.

العالم العربي اليوم ليس في حاجة إلى ثورات جديدة، بل إلى إحياءٍ داخلي. إلى اعترافٍ بالتنوع، بالهشاشة، بالألم. إلى لغةٍ جديدة تُخرج الإنسان من حالة التمرد الوجودي إلى حالة البناء. إلى مشروعٍ يُعيد للحياة معناها، لا أن يجعل من الموت مهنة. قد يبدو هذا بعيد المنال، لكنه ليس مستحيلاً. فحتى في أشد الأزمات، تبقى هناك بصيصات. في فيلم، في أغنية، في احتجاج صغير، في لقاء بين شابين من طائفتين مختلفتين. هذه هي البذور. ليست قوية، لكنها حية.

وإذا كان المستقبل لا يُبنى على التفاؤل، فإنه لا يُبنى على اليأس. فاليأس هو أخطر سلاحٍ في يد الاستبداد. أما الأمل، فليس وهمًا، بل عمل. عمل يومي، متواضع، لكنه مستمر. لأن الشعوب لا تموت، حتى حين تُدفن. تظلّ تحت الرماد، تنتظر لحظةً تُشعِل فيها النار من جديد. ربما ليست هذه اللحظة، لكنها قد تكون الطريق إليها.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الريح لا تُمسك بالأسوار، والشعب لا يُهزم بالصمت
- حين تبكي الجبال وتحتضر الرمال
- الهوية التي تكسر حدود الاستعمار: الكورد وقضية الأرض
- صدى العهد والتفويض الثائر: صوت كوردي في رحلة دستور وأرض
- في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات ال ...
- أطياف الخراب وصهيل الأوهام: سوريا بين سندان التاريخ ومطرقة ا ...
- حين تُكتب الخيانة بخطٍّ كوردي
- سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض
- السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية
- سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب


المزيد.....




- المحكمة للمتظاهرين ضد تجويع غزة: -لماذا لا تحملون لافتات بال ...
- اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة بإسرائيل وسط بحث نتنياهو إعا ...
- في ذكرى هيروشيما وناغازاكي- تحذير مستخلص من التاريخ: ”هذا م ...
- من أجل تجاوز مغرب بسرعتين: مغرب الرأسماليين ومغرب الكادحين- ...
- إجلاء موظفي سفارة کيان الاحتلال في اليونان بسبب الاحتجاجات ا ...
- بعد «الربيع العربي»… صيف الاحترار الأقصى
- حزب النهج الديمقراطي العمالي يدعو إلى تصعيد وتوحيد النضال لم ...
- «الديمقراطية» تحذر من خطورة قرار اجتياح كل القطاع وإحتلاله ع ...
- -أوديسة- كريستوفر نولان تُغضب البوليساريو بعد التصوير في الد ...
- تسقط حكومة قطع الأرزاق.. متضامنون مع هشام البنا


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - بوتان زيباري - الرُّوح المُنهكة: حين يُصبح الوجودُ تمرّداً في أرضٍ فقدتَ حلمَها