أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - بوتان زيباري - الهوية التي تكسر حدود الاستعمار: الكورد وقضية الأرض















المزيد.....

الهوية التي تكسر حدود الاستعمار: الكورد وقضية الأرض


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 11:12
المحور: القضية الكردية
    


قبل أن تُرسم الحدود، كانت الجبال تتكلم كوردية. قبل أن تُختلق أسماء جديدة للأنهار، كانت تُسمّى بأسماء أجداد لا يعرفون غير التلال موطنًا، ولا السماء سقفًا. لكن الاستعمار لم يكن يهتم بالجذور، بل بالجغرافيا. لم يسأل عن من عاش هنا قبل آلاف السنين، بل من يمكن أن يُستخدم هنا اليوم لخدمة مصالح لا علاقة لها بالعدالة، ولا بالانتماء، ولا بالتاريخ. فجأة، صار كل شيء مقلوبًا: الأرض ليست لأهلها، والهوية ليست لمن يحملها، واللغة صارت جريمة، والانتماء صار خيانة.

في ليلة سايكس-بيكو، لم تُقسم فقط أراضٍ، بل قُسمت أرواح. قُطعت كوردستان من جسد التاريخ، ووزّعت كقطع أثاث بين كيانات لم تكن موجودة قبل ذلك إلا في خرائط بريطانية فرنسية ملونة. لم يُدعَ أحد من الكورد إلى تلك الطاولة التي قُرّر فيها مصيرهم، كما لو أنهم لم يكونوا هنا، كما لو أن "هالدي" و"گري مرازان" و"كري سبي" و"آميدا" و"كرميان" ليست حضارات عمرها أكثر من خمسة عشر ألف سنة، بل مجرد تلال فارغة يُمكن استغلالها. وهكذا، صار الشمال تركيًا، والجنوب عراقيًا، والغرب سوريًا، والشرق إيرانيًا، مع أن الكوردي في كل هذه الأجزاء يُنادي أمّه بلغة واحدة، ويُغني المدح على قبر والده بلحن واحد، ويُسمّي الجبل باسمه القديم، رغم كل محاولات التزوير.

لكن الاستعمار لم يكتفِ بتقسيم الأرض، بل أراد أن يُقسم الوعي أيضًا. فصنع هويات بديلة، مصطنعة، مُضخّمة، مُزيّفة. صنع "القومية العربية" وكأنها نبتت من رحم الصحراء، بينما الحقيقة أن من صاغها، وروّج لها، ووزّعها على الحكام، لم يكونوا عربًا من قريش أو تميم، بل بريطانيون وأمريكان ونصارى ويهود. لورنس العرب كان مجرد مُخرِج مسرحي، يُحرّك القبائل كما يُحرّك الدمى. الشريف حسين كان بطلًا في فيلم لا يعرف أن كاميرته مُوجّهة من لندن. ثم جاء عبد الناصر، فجاءته "الاشتراكية العربية" مُغلفة بورقة قومية، والهدايا من مايلز كوبلاند وكيرميت روزفلت، ضباط المخابرات الأمريكية الذين صنعوا من "الوحدة" شعارًا، ومن "الحرية" دعاية، ومن "الاشتراكية" ستارًا لمشاريع تدمير الأمة من الداخل. وتحت هذا الشعار، تهاوت الدول، وانكسرت الجيوش، وضاعت الأوطان، بينما بقيت المصالح الغربية تزدهر.

ومن المفارقة أن منظري هذه القومية العربية الحديثة، الذين يُقدّسهم البعض اليوم، لم يكونوا من أبناء القبائل العربية الأصيلة، بل من ميشيل عفلق، النصيري، وقسطنطين زريق، النصراني، وقيصر فرح، النصراني، وشكيب أرسلان، الدرزي، وذكي الأرسوزي، العلوي. هؤلاء هم "آباء" القومية العربية، كما لو أن الهوية يمكن أن تُبنى على نقيض من يحملها. وكأن من يدعو إلى وحدة العرب لا ينتمي إليهم، ومن يرفع شعار "العروبة" لا ينطق العربية بلغة الجذور، بل بلغة الاستعمار الجديد.

وفي تركيا، لم تكن "التركوية" أو "التورانية" حركة شعبية، بل مشروعًا صُنِع في مختبرات سياسية، وصاغه رجل يهودي يُدعى مؤيز كوهين، المعروف بـ"كوك ألب"، الذي صاغ نظرية القومية التركية من وراء الستار. فأتاتورك، الذي يُقدّس اليوم كرمز للقومية، كان يمشي على خطوط رسمها رجل لا ينتمي إلى تلك الهوية التي يُطالب غيره بالانتماء إليها. فهل كانت القومية التركية أكثر من وهم مُموّل؟ وهل كانت "العروبة" أكثر من شعار مُستورد؟

أما الفارسية، فقد تُستخدم في إيران كأداة لطمس التنوّع، وقمع الأقليات، بما فيها الكورد، الذين يُمنَعون من تعليم لغتهم، ويُجرّمون إن تحدثوا بها في المدارس، ويُحرمون من تسمية أبنائهم بأسماء كوردية، بينما تُسمّى مدنهم بألقاب فارسية مُختلقة، وتُنسب رقصاتهم وأغانيهم إلى "التراث الإيراني"، كما لو أن الكورد لم يكونوا هنا قبل أن تُبنى طهران.

وهكذا، صار الكوردي في كل مكان "غريبًا" في وطنه. في تركيا، يُعتبر "تركيًا" رغم أنه لا ينطق التركية، وفي العراق، يُسمّى "عربيًا" رغم أنه لا يفهم لهجة البصرة، وفي سوريا، يُصادر اسمه، ويُحال إلى "سوري" بلا جذور، وفي إيران، يُصادر تاريخه ويُحوّل إلى "فارسي" بلا رغبة. لكن الحقيقة لا تُمحى بالقوانين. فالمكتشفات الأثرية الحديثة، من بحيرة وان إلى عفرين، من ديار بكر إلى أورفا، تُثبت أن هذه الأرض ليست ملكًا لمن احتلها، بل لمن عاش عليها قبل أن تُبنى الإمبراطوريات، قبل أن تُكتب الكتب، قبل أن تُرسم الخرائط.

ومع ذلك، يُطلب من الكورد اليوم أن يصوتوا على دساتير لا تعترف بهم، أن يشاركوا في انتخابات تُكرّس احتلالهم، أن يقولوا "نعم" أو "لا" في استفتاءات لا تمنحهم حق تقرير المصير، بل تسلّمهم إلى سلطة لا تعترف بوجودهم. في غرب كوردستان، يُحذّر البعض من أن المشاركة، حتى برفض الدستور، هي اعتراف بشرعيته. لأن مجرد الوقوف أمام صندوق الاقتراع، في أرض مُحتلّة، هو تنازل عن المبدأ. فالاستعمار لا ينتهي بالتصويت، بل بالتحرر. ولا يُهزم بالمشاركة في لعبته، بل بالانسحاب من ملعبه.

الكيانات التي خُلقت بعد سقوط العثمانيين لم تكن وليدة شعب، ولا نتاج تطور، بل كانت أدوات مفروضة، مُصطنعة، لقِطة، لا روح فيها سوى روح المُستعمر. لم تُبنى على الانتماء، بل على التفتيت. لم تُنشأ لخدمة الشعوب، بل لقمعها. وها هي اليوم تتهاوى، ليس لأنها ضعيفة، بل لأنها كاذبة. لأنها بُنيت على أنقاض الحقيقة، وعلى ركام الهويات المسروقة.

لكن الكورد ما زالوا هنا. لا كأقلية، ولا كضيوف، ولا كمواطنين من الدرجة الثانية، بل كأصحاب أرض، كأبناء جبال، كأحفاد حضارة لا تُمحى. وقضيتهم ليست مطالبة بحقوق مدنية، بل بتحرير وطني كامل. ليست إصلاحًا في دولة مُصطنعة، بل إنهاء للاحتلال، وبناء دولة حقيقية، على أرض حقيقية، باسم شعب حقيقي.

آن الأوان أن نقول: كفى. كفى تزييفًا. كفى تلاعبًا بالتاريخ. كفى مشاركة في مسرحيات لا تُعيد لنا أرضنا، ولا تُعيد لغتنا إلى مدارسنا، ولا تُعيد أسماء مدننا إلى خرائطنا. لا نريد دساتير تُكرّس تجزئتنا، ولا انتخابات تُوهمنا بالمشاركة، ولا وعودًا بالحقوق في كيانات لا تعترف بوجودنا.

نريد الاستقلال. نريد العودة إلى الجذور. نريد أن نُسمّى بأسمائنا، وأن نُعلّم أبناءنا بلغتنا، وأن نُدفن في أرضنا دون أن يُقال إنها "أرض أخرى". لأن كوردستان ليست جزءًا من دولة، بل الدولة هي التي اقتطعت جزءًا من كوردستان.

والحقيقة، مهما طال الكتم، ستنفجر من بين الحجارة. لأن الجبال لا تنام، والأنهار لا تنسى، والشعوب التي عاشت خمسة عشر ألف سنة لا تُمحى بقانون، ولا تُختزل ببطاقة هوية، ولا تُباع بصفقة سياسية.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صدى العهد والتفويض الثائر: صوت كوردي في رحلة دستور وأرض
- في حضرة الجغرافيا المنسيّة: الكورد بين جذور الأرض وخرافات ال ...
- أطياف الخراب وصهيل الأوهام: سوريا بين سندان التاريخ ومطرقة ا ...
- حين تُكتب الخيانة بخطٍّ كوردي
- سوريا.. بين جثةٍ تُقسَّم وقلبٍ لا يزال ينبض
- السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية
- سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب
- أطياف الصراع: قراءة فلسفية في تداعيات الضربة الإيرانية والرد ...
- ملحمة الصراع الإيراني-الإسرائيلي وتصدعات الشرق المكسور
- صراع الوجود وأسئلة المصير: الهجوم الإسرائيلي على إيران بين ا ...


المزيد.....




- تواصل أعمال مؤتمر الأمم المتحدة لتسوية القضية الفلسطينية وتن ...
- الأونروا: أسوأ سيناريو للمجاعة يحدث الآن في قطاع غزة
- الأمم المتحدة تدعو لوقف هجمات المسيرات ودعم حل خلافات أربيل ...
- -حتى من لديه مال لا يجد ما يشتريه-.. مسؤولة إغاثية تصف الوضع ...
- ديمقراطيون يطالبون ترمب بقطع التمويل عن منظمة إغاثة غزة GHF ...
- حكم غيابي بالإعدام على مدان بقتل جندي إيرلندي من -يونيفيل-
- العضوية المؤجّلة: ما الذي يقف بين الفلسطينيين ومقعد الأمم ال ...
- الأونروا تؤكد تجاوز قطاع غزة عتبة الجوع
- -التمساح ألكاتراز-.. سجن أنشأه ترامب لاحتجاز المهاجرين غير ا ...
- المديرة العامة لليونيسف: يجب ضمان إيصال الغذاء والدواء بشكل ...


المزيد.....

- “رحلة الكورد: من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر”. / أزاد فتحي خليل
- رحلة الكورد : من جذور التاريخ إلى نضال الحاضر / أزاد خليل
- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - بوتان زيباري - الهوية التي تكسر حدود الاستعمار: الكورد وقضية الأرض