أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - ضفاف براءة وجسور محبة















المزيد.....

ضفاف براءة وجسور محبة


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 01:57
المحور: الادب والفن
    


في بلدة صغيرة هادئة، حيث ينساب نهر رقراق يقسمها إلى نصفين، كانت فتاة، بعمر الزهور، تقضي يومها بين أزقة الحارة القديمة. كانت تلعب بلا همّ تحت ظل الجسور التي امتدت كحكايات عتيقة تربط ضفتي البلدة. تلك الجسور لم تكن مجرد حجارة وأقواس بالنسبة لها؛ بل كانت رموزًا ومعاني.
كبرت الفتاة، ونمت أحلامها كما ينمو النهر في مواسم الأمطار. ظلت الجسور تسكن ذاكرتها، محفورة في روحها كرمز للعبور من ضفة إلى أخرى، من حلم إلى تحقيق، ومن تحدٍ إلى نجاح. في كل مرحلة من حياتها، رأت جسورًا جديدة تظهر: الجسر بين الخوف والشجاعة، الجسر بين الماضي والمستقبل، والجسر بين نفسها الحائرة ونفسها التي وجدت الطريق.
تحولت حياتها إلى سلسلة من العبور، كل جسر جديد يعكس درسًا تعلمته، وعلاقة بنتها، وحلمًا حققته. أدركت أن الجسور لا تبنى بالحجارة فقط، بل بالأمل، والإرادة، وبالخطوات الأولى الشجاعة التي تأخذها نحو الضفة الأخرى.
كبرت الفتاة وهي تحمل في قلبها صورة تلك الجسور، لا كمعالم حجرية فقط، بل كرموز للحياة ذاتها. كانت كل جسر تعبره في طفولتها يحمل طيفًا من الأحلام: الجسر الذي يربط بيتها بمدرستها، حيث خطت خطواتها الأولى نحو المعرفة، والجسر الذي عبرته مع أصدقائها، تتعالى ضحكاتهم كأغنية طفولية تتحدى صمت النهر.
ومع مرور السنوات، أصبحت الجسور أكثر من مجرد أماكن، بل أصبحت استعارة لحياتها. حينما وقفت أمام أول تحدٍ كبير، تذكرت تلك الجسور: كيف كانت ثابتة، قوية، صامدة أمام الرياح والمطر. أدركت أن النجاح يشبه بناء جسر، يحتاج إلى تخطيط وصبر، إلى دعائم قوية تؤسس الحلم، وأقواس من الشجاعة تمتد فوق وديان الخوف.
كانت الجسور أيضًا مرآة لعلاقاتها. في كل صداقة أو حب أو علاقة عمل، شعرت أن هناك جسرًا يُبنى، يربط روحها بروح أخرى. أحيانًا كانت الجسور تنهار، لكنها تعلمت كيف تعيد بناءها، أقوى مما كانت.
حينما حققت أول إنجاز كبير في حياتها، شعرت وكأنها تعبر أطول جسر رأته عينها، جسرًا كان يبدو مستحيلاً في يوم ما. أدركت حينها أن الحياة ليست في الوصول إلى الضفة الأخرى فحسب، بل في الرحلة التي نخوضها ونحن نعبر الجسر، في الخطوات الصغيرة التي نبني بها أنفسنا، وفي الثبات الذي يجعلنا نستمر رغم العواصف.
وفي كل مرة كانت تقف على أحد الجسور القديمة في بلدتها، كانت تتذكر: الأحلام، مثل الجسور، لا تُبنى وحدها. تحتاج إلى الإيمان، إلى الشجاعة، وإلى أن نخطو عليها بثقة، غير خائفين من السقوط، لأننا، كما كانت تعلم دائمًا، سننهض لنبدأ من جديد.
ومع الوقت، أدركت الفتاة أن ليس كل الجسور تؤدي إلى الضفة التي نحلم بها. بعضها يخفي خلفه متاهات تضيع فيها الخطى، وبعضها يمتد نحو المجهول، حيث لا نعرف إن كان العبور يستحق المخاطرة.
عبرت بعض تلك الجسور ذات مرة بفضول طفولي أو بحماسة لا تعترف بالخطر. لكنها سرعان ما وجدت نفسها تائهة، تسأل عن الطريق في عالم غريب، بعيد عن أحلامها. شعرت بالخذلان أحيانًا، وأحيانًا بالخوف. لكن تلك التجارب، رغم قسوتها، منحتها حكمتها. تعلمت أن كل جسر يعبره الإنسان لا يمكن أن يكون بلا معنى، حتى وإن قاد إلى الضياع. ففي كل متاهة، كانت تجد نفسها أعمق، وأقوى، وأكثر وعيًا بما تريده حقًا.
صارت أكثر حذرًا بعد ذلك، تتأنى قبل العبور، تفكر في دعائم الجسر، وفي ما ينتظرها على الجانب الآخر. لكنها لم تسمح للخوف بأن يمنعها من المخاطرة. أدركت أن الحياة نفسها جسر طويل بين اليقين والمجهول، وأن الخطأ لا يكمن في عبور جسر يقود إلى متاهة، بل في التوقف عن العبور خوفًا من الضياع.
كل جسر خاطئ جعلها تعرف قيمتها أكثر، وكل متاهة علمتها أن الخرائط لا تُرسم باليد، بل تُرسم بالقلب. هكذا، كانت تلك الجسور التي أفضت إلى المجهول جزءًا من الحكاية، صفحة لا غنى عنها في كتاب حياتها.
كانت تقف عند ذلك الجسر الذي ربط قلبها بإنسان خرج من صفحات الماضي البعيد، إنسان كان ذات يوم جزءًا من أحلامها وأيامها، لكنه رحل، تاركًا وراءه صمتًا يشبه أصداء خطوات غائبة على حجارة الجسر.
كلما اقتربت من ذلك الجسر، شعرت بثقل الذكريات يعيق خطاها. كان الجسر يبدو وكأنه يمتد إلى زمن لم تعد تعرف كيف تواجهه، زمن يحمل في طياته فرحًا مؤلمًا وحزنًا جميلًا، مزيجًا متناقضًا يجعلها تتردد، تخشى العبور وكأنها تخشى أن تواجه نفسها.
كان الجسر شاهداً صامتاً على ما كان بينهما، يحمل أثقال الكلمات التي لم تُقل، والوعود التي لم تتحقق. في كل مرة تنظر إلى الجسر، كانت تشعر بارتباك قلبها، بارتداد مشاعرها بين الشوق والخوف، بين الأمل والندم. أدركت أنها ليست عاجزة عن عبور الجسر لأن الطريق صعب، بل لأنها لم تكن مستعدة للتصالح مع الماضي الذي يمثله.
ذلك الإنسان كان حاضرًا في ذاكرتها كأنما لم يرحل، يعيش في تفاصيل أيامها دون أن تراه، يختبئ في الأغاني، في الأمكنة، في عبير الأيام القديمة. لكنها كانت تعلم، في أعماقها، أن عبور هذا الجسر لا يعني العودة إليه، بل يعني التحرر منه، أن تسمح لنفسها بأن تتصالح مع ما كان، دون أن تبقى أسيرة له.
ورغم ذلك، كانت تخشى أن العبور قد يمحو بعضًا من هذا الماضي الذي، رغم ألمه، كان جزءًا منها، من قصتها. وهكذا، كانت تقف على حافة الجسر، تتأمل النهر الجاري تحته، تتساءل إن كان الوقت سيمنحها الشجاعة لتخطو تلك الخطوة الحاسمة، أم أن الجسر سيظل شاهدًا أبديًا على ما كان ولم يعد.
كانت الحيرة تمزقها، تقف في منتصف الطريق بين ماضٍ انتهى مع الأيام وحاضرٍ يتجسد أمامها بكل تفاصيله. الماضي كان يطل عليها من خلال ظلال الذكريات، مليئًا بصورٍ وأصواتٍ لا تزال تتردد في أعماقها، وكأنها تدعوها للعودة إلى حيث لم يعد بالإمكان العودة. كان ذلك الماضي، رغم انتهائه، يأبى الرحيل، وكأنه يصر على البقاء جزءًا من حاضرها، يُلقي بظلاله على كل خطوة تخطوها.
أما الحاضر، فكان أكثر واقعية، ملموسًا، لكنه في كثير من الأحيان كان يبدو خاليًا من الدفء الذي شعرت به في ذكريات الماضي. كانت تشعر وكأنها تعيش في عالمين: أحدهما انطفأ لكنه لا يزال مشتعلًا في قلبها، والآخر يحيط بها لكنه لا يملأ فراغ تلك الأيام التي ولّت.
كان الألم يكمن في هذا التناقض. هل تنظر إلى الماضي كحكاية انتهت وتتركه حيث ينتمي؟ أم تبقيه حيًا، تتأرجح بين ألمه وجماله، حتى وإن كان يسرق منها لحظات الحاضر؟ كانت تسأل نفسها: كيف يمكن للقلب أن يحب حاضرًا كاملًا، بينما لا يزال يحمل شيئًا من الماضي؟ وكيف يمكن للروح أن تتحرر من ذكرى لا تريد لها أن تزول؟
أحيانًا، كانت تشعر بأن الحاضر يطلب منها أن تقطع الجسر تمامًا، أن تتخلى عن تلك الذكريات كي تستطيع أن تعيشه بصدق. لكن شيئًا في داخلها كان يقاوم، يخشى أن التخلي عن الماضي يعني التخلي عن جزء من نفسها. كانت عالقة بين ضفتين: إحداهما مليئة بما كان، والأخرى مليئة بما هو كائن، ولا تعرف أيهما أحق بأن تعطيها قلبها.
مع الوقت، بدأت تدرك أن الحيرة نفسها درس، وأنها قد لا تحتاج إلى اختيار ضفة واحدة. فالماضي، بكل ثقله وجماله وألمه، يمكن أن يكون جزءًا من الحاضر دون أن يسيطر عليه. وشيئًا فشيئًا، بدأت تتعلم أن الجسر الذي تخشاه ليس للعبور فقط، بل للتصالح. التصالح مع الماضي، والتصالح مع الحاضر، والأهم، التصالح مع نفسها.
حلم الماضي وألم الحاضر كانا يقذفانها في دوامة لا تنتهي، دوامة من التناقضات والاضطرابات التي لا تهدأ. كان الحلم بالماضي، بكل ما حمله من براءة وأمل وحب، يستمر في الظهور كأنما يحاول استعادتها، ليهمس في أذنيها بأن هناك شيئًا قد ضاع، وأن الحياة التي كانت تعيشها، بكل بساطتها وتفاصيلها، كانت أكثر اكتمالًا من واقعها الحالي.
أما ألم الحاضر، فكان يثقل قلبها ويشوش ذهنها، يجعلها تتسائل إن كانت قد اختارت الطريق الصحيح، أم أنها ضلت السبيل وسط صخب الحياة وواقعها المليء بالمشاغل والواجبات. كانت الأيام تمر كأنها دهر، وكل يوم يمر يزيد من شعورها بالتيه، وكأنها تغرق في بحر من الأسئلة التي لا إجابات لها. من كتاب ( دموع ... وأمل ) .



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القطيعة بين الروح والجسد
- ياحاضرة الغياب ..
- سعد مبارك.. فنان العصور وبوصلة الذاكرة الجمالية
- حين يبكي الجبل ..!!
- مؤتمرات
- لماذا احبك ِ
- حين أقول أحبك
- عبث البقاء
- أين أنت ...؟!!
- صوتك اغنية عشقية
- سطر على هامش التاريخ
- أيها المسافر... ارجع
- حين اُحب ... !!!
- قدري أن لا أراكِ
- تجلى هلال العيد ووجهك غائب عني
- السينما العالمية .. بين العنف والرسالة الإنسانية
- يبقى الوضع كما هو عليه
- كليات ميتة... أزمة التعليم العالي بين الواقع وسوق العمل
- النسق الشعري في ديوان -محُتلة القلب- للشاعر فاضل كاظم البكري
- منى الطريحي ثنائية الحب والالم


المزيد.....




- وفاة الممثلة الأميركية لوني أندرسون عن عمر ناهز 79 عاما
- الدراما العراقية توّدع المخرج مهدي طالب 
- جامعة البصرة تمنح شهادة الماجستير في اللغة الانكليزية لإحدى ...
- الجوع كخط درامي.. كيف صورت السينما الفلسطينية المجاعة؟
- الجوع كخط درامي.. كيف صورت السينما الفلسطينية المجاعة؟
- صدر حديثا : -سحاب وقصائد - ديوان شعر للشاعر الدكتور صالح عبو ...
- تناقض واضح في الرواية الإسرائيلية حول الأسرى والمجاعة بغزة+ ...
- تضامنا مع القضية الفلسطينية.. مجموعة الصايغ تدعم إنتاج الفيل ...
- الخبز يصبح حلما بعيد المنال للفلسطينيين في غزة
- صوت الأمعاء الخاوية أعلى من ضجيج الحرب.. يوميات التجويع في غ ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - ضفاف براءة وجسور محبة