أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - يبقى الوضع كما هو عليه














المزيد.....

يبقى الوضع كما هو عليه


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 08:50
المحور: الادب والفن
    


في ذلك المساء الماطر، جلس حاتم، الطبيب ذو السابعة والأربعين، إلى جوار المدفأة النفطية التي تنفث دفئها في أرجاء غرفة صغيرة، تحتوي سريرًا بسيطًا، كنبة باهتة، ودولابًا خشبيًا متهالكًا يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة من ثقل الكتب المتراكمة فوق رفوفه. سجادة قديمة افترشت ربع مساحة الغرفة، ونافذة صغيرة بزجاج متسخ فقد بريقه، بالكاد تسمح برؤية ما يجري في الخارج.
وضع حاتم إبريق الشاي على المدفأة، مستغرقًا في قراءة رواية من الأدب الإنجليزي. كان، كما اعتاد، يحمل قلمًا في يده اليمنى يدون به تحت العبارات التي تلامس مخيلته وتداعب روحه. تلتهم عيناه الكلمات بنهم، كأنما يبحث بين السطور عن ذاته الضائعة.
زفر الإبريق ببخار حار، معلنًا نضج الشاي، فمد حاتم يده بخفة نحو الكوب دون أن يرفع عينيه عن الرواية. انسكب الشاي في الكوب كجدول دافئ يتهادى في ليل بارد. ارتشفه على مهل، يتذوق دفء الشاي كما يتذوق المعاني التي تسكن النص، حتى قطع طرق الباب المتسارع سكون اللحظة. نهض مفزوعًا، وقد اعتاد مثل هذه الطرقات في بعض الليالي.
فتح الباب فوجد رجلاً رثَّ الهيئة، تظهر على ملامحه آثار صراع مع أوحال الطريق. تذكر حاتم أن هذا الرجل يسكن في إحدى القرى النائية، حيث نُقل هو مؤخرًا للإشراف على مركزها الصحي. تناثر التوسل من فم الرجل، راجيًا الطبيب أن يأتي معه على الفور.
في كوخ صغير، بداخل غرفة وحيدة، كانت امرأة ممددة فوق فراش واهن، متدثرة بغطاء سميك، وجهها يقطر عرقًا وألمًا. اقترب حاتم منها، أخذ يسبر حالتها بسماعة طبية ومحرار. سارع بطلب الماء من زوجها ليصنع كمادات تخفف حرارتها، ثم أدرك بسرعة أن الأمر خطير، وأنها مصابة بمرض فيروسي يستدعي النقل العاجل إلى المستشفى.
انطلق الرجل ليجلب عربة جاره القديمة. وفي طريق موحل يمتد لعدة كيلومترات، راحت العربة تتمايل بعجلاتها المنهكة، تكافح الانزلاقات، حتى كادت تنقلب على تل طيني. لكن السائق المتمرس أعادها للمسار بصعوبة، فيما ظل المطر يطرق الأرض بعناد، يزيد الطين طينًا، والقلق قلقًا في صدر حاتم.
كان زوج المريضة صامتًا، ملامحه قاسية كأرضه، لا يشكو ولا يئن، كأنما ألف وجه المصيبة، وتصادق مع وجع القدر. وصلوا أخيرًا إلى باب المستشفى، وسرعان ما هرع الرجل ليجلب عربة طبية. نقلت المرأة إلى الداخل، وقدم حاتم تقريره للطبيب الخفر الذي شرع بالفحص وسجّل العلاج على عجل. "علينا التأكد بالتحاليل، لكن الأعراض تشير إلى الكوليرا"، قالها الطبيب الخفر بجفاف، كمن اعتاد سماع الأنباء السيئة دون أن يهتز.
ودّع حاتم الزوج على أمل اللقاء صباحًا، ثم عاد مع السائق في ذات العربة. في الطريق، كان السائق يثرثر عن المرض، عن الموت الذي يقطف الناس واحدًا تلو الآخر، عن الكوليرا التي تزورهم كل عام ولا تجد من يصدّها. قالها بحرقة: "يمرّ المرض، يحصد الأرواح، وترحل العوائل كما رحلت تلك التي سكنها الصمت قبل أيام".
توقفا أمام "دار الحكومة"، الغرفة البسيطة التي يسكنها حاتم. ترجل من العربة، ألقى تحية الوداع، ودخل منزله كأنما عاد إلى غربة مألوفة. الغربة ذاتها التي شعر بها حين وطأ هذا المكان أول مرة، ولم تفارقه بعد.
في الصباح، أيقظه نحيب وطرقات عنيفة على الباب. نهض مثقل المشاعر، فقد عرف ما ينتظره خلف الباب. شاب لم يتجاوز العشرين، وجهه مرتجف من التأثر، قال بصوت متهدج: "أبي وأمي... يتقيآن، وحرارتهما مرتفعة". دون تردد، أمره حاتم بنقلهما إلى المستشفى على الفور، وركض الشاب يسبقه، غائصًا في الوحل، لا يبالي إلا بالنجاة.
في المستشفى، المشهد كان أشبه بكابوس. عشرات المرضى يفترشون الأسرة، وجوههم منهكة، أجسادهم موصولة بالمحاليل، والمرض قاسمهم المشترك. الأطباء والممرضون في سباق مع الموت، بين أمل مستنزف وواقع يزداد سوداوية.
كان قلب حاتم يعتصر وهو يرى المشهد يتكرر، ضحايا الكوليرا يتساقطون يومًا بعد آخر، دون تحرك جاد من الحكومة. فقط تقارير رسمية باردة، وإحصاءات جافة، دون خطط وقائية تليق بحجم الخطر. كأن الشعب اعتاد أن يقدّم قرابينه لأمراضه المتوطنة، وأن يتعايش مع الموت كما يتعايش مع الحياة. سجلها حاتم في دفتر ذكرياته وانهى فصلها بعبارة يبقى الوضع كما هو عليه . وختمها بتاريخ الواقعة .



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كليات ميتة... أزمة التعليم العالي بين الواقع وسوق العمل
- النسق الشعري في ديوان -محُتلة القلب- للشاعر فاضل كاظم البكري
- منى الطريحي ثنائية الحب والالم
- نخلة عراقية .. سعاد البياتي صحفية الزمن الجميل
- مشاعر بائسة
- مأتم الذاكرة والجسد
- سوء فهم عاطفي
- عندما ينطق الجرح
- غائم جزئي
- ايمان كاظم .. فصاحة المعنى وغربة النص
- تسميم البئر
- الى صديقي .. علي حسن كريم
- سجل العراق في الابداع يعاني الاهمال
- اِلا اَنتِ ..
- قانون الاضافة البسيطة
- وردة من البستان
- اغنية عاشق
- تهجير
- فاتورة الزمان
- ورقة التوت الاخيرة


المزيد.....




- المبادرة المصرية تطالب بإخلاء سبيل المخرج -عبد الرحمن الأنصا ...
- رحيل الكاتب الفلسطيني علي بدوان أحد أبرز مؤرخي الشتات في سور ...
- مخطط متنزه إسرائيلي يطرد سكان سبسطية من قريتهم التاريخية
- -إيروفلوت- الروسية تفوز بجائزة مرموقة في مجال التصميم والفن ...
- تكريم ليلى علوي في الدورة الـ 25 من مهرجان -روتردام للفيلم ا ...
- مصير حفلات مغني الراب السويدي ياسين لهذا الصيف مجهول
- روسيا.. افتتاح معرض لصور المراسلين الحربيين لوكالة -نوفوستي- ...
- -قلعة- بفاس.. سيرة مغربية في -أرض الحب والأيديولوجيا-
- -عائشة لا تستطيع الطيران- لمراد مصطفى في قسم نظرة ما في مهرج ...
- مهندس صيني يفك شيفرة -اللغة الفضائية-!


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد الطيب - يبقى الوضع كما هو عليه