أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - فن تخطيط المدن في فكر روبير أوزيل: من الفلسفة إلى التطبيق














المزيد.....

فن تخطيط المدن في فكر روبير أوزيل: من الفلسفة إلى التطبيق


عبدالباقي عبدالجبار الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 00:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


فن تخطيط المدن ليس مجرد خرائط ومخططات، بل هو انعكاس للرؤية الفلسفية والاجتماعية للعمران. وفي هذا الإطار، يحتل روبير أوزيل (Robert Auzelle) مكانة خاصة بين منظري التخطيط الحضري في القرن العشرين، حيث قدّم تصورًا متوازنًا، إنسانيًا، وواقعيًا للمدينة، ينأى عن النماذج الجامدة ويمنح الإنسان دورًا محوريًا في تشكيل الفضاء الحضري.

تهدف هذه المقالة إلى استكشاف فلسفة أوزيل، ومبادئه الأساسية في التخطيط، وموقعه بين كبار المخططين، مع دراسة إمكانات تطبيق فكره في المدن العربية.

أولًا: المدينة ككائن حي في فكر أوزيل
كان أوزيل يرى أن المدينة ليست آلة هندسية جامدة كما تصورها بعض المعماريين الحداثيين، بل هي كائن حي يتطور مع الزمن، يحمل ذاكرة المجتمع، ويُشكل الفضاء الذي تتفاعل فيه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لذلك، لم يكن يهتم فقط بكيفية توزيع الشوارع والمباني، بل بكيفية خلق بيئة حضرية حية تحفظ هوية الإنسان وتعزز الشعور بالانتماء.

ثانيًا: المبادئ التخطيطية في فكر أوزيل
يُؤمن أوزيل أن التخطيط الحضري الناجح لا يعتمد فقط على التنظيم التقني، بل على فهم عميق للحاجات البشرية. من أبرز مبادئه:

وحدة الفضاء الحضري: المدينة يجب أن تُبنى كوحدة متكاملة، لا كمجموعة جزر وظيفية منفصلة.

التدرج المكاني: من الفضاءات الخاصة إلى العامة، بما يخلق شعورًا بالراحة والتسلسل البصري.

احترام الطبوغرافيا: التخطيط يجب أن يستجيب للطبيعة، لا أن يفرض نفسه عليها.

الإنسان هو مركز المدينة: يجب تصميم المدينة لتكون صالحة للعيش والمشي والتفاعل.

المشاركة الشعبية: دعا مبكرًا إلى إشراك السكان في قرارات التخطيط الحضري، معتبرًا ذلك شرطًا للعدالة والاستدامة.

الهوية الثقافية: ضرورة دمج المعمار الحديث مع التراث المعماري المحلي، وعدم طمس ذاكرة المكان.

ثالثًا: المدينة بوصفها نسيجًا ثقافيًا واجتماعيًا
لم يكن أوزيل يهتم بالمباني بقدر ما كان يهتم بالمساحات التي تحدث فيها الحياة اليومية: الساحات، الأرصفة، الأسواق، الحدائق. كان يرى أن هذه العناصر هي التي تصنع الروح المدنية، وأن غيابها يُفرغ المدينة من معناها.

وهو ما يجعله يرفض الاستنساخ المعماري، ويدعو بدلًا من ذلك إلى إحياء العمارة المحلية، وتكييفها مع الحاجات الحديثة. كما كان يرى أن المدينة لا يمكن أن تكون جميلة إذا كانت مجزأة اجتماعيًا، لذلك طالب دائمًا بتخطيط يضمن العدالة في توزيع الخدمات والفرص.

رابعًا: موقع أوزيل بين مفكري التخطيط الحضري
يقف روبير أوزيل في موقع فكري مميز بين عدد من كبار منظّري المدينة الحديثة.
فهو يختلف جذريًا عن لوكوربوزييه الذي نظر إلى المدينة كآلة منظمة بإحكام، ذات وظائف مفصولة بدقة. بينما يرى أوزيل أن هذا التصور يُقصي البعد الإنساني، ويخلق مدنًا جامدة تفتقر إلى الحياة الاجتماعية.

من ناحية أخرى، يلتقي مع إبنيزر هاوارد، رائد فكرة "المدينة الحدائقية"، في رغبته ببناء مدن متوازنة تحترم البيئة والطبيعة. إلا أن أوزيل يُعارض النزعة الطوباوية لدى هاوارد، ويُصر على العمل ضمن المدن القائمة بدل السعي لبناء مدن مثالية من الصفر.

كما نجد تقاطعات واضحة بينه وبين جان غيل، المفكر الدنماركي الذي ركّز على جعل المدن صالحة للمشاة ومريحة للحياة اليومية. كلاهما يتفقان في أن الشارع ليس مجرد ممر، بل فضاء للحياة الاجتماعية.

ويُشبهه أيضًا كيفن لينش في اهتمامه بالصورة الذهنية للمدينة، حيث يرى كلاهما أن المدينة يجب أن تكون مفهومة وسهلة التوجيه، لكن دون أن تفقد طابعها المحلي وهويتها الثقافية.

هكذا يتضح أن أوزيل يمثل فكرًا توافقيًا يجمع بين الحداثة والإنسانية، بين التنظيم العلمي والانتماء الثقافي.

خامسًا: تطبيقات فكر أوزيل في المدن العربية
رغم أن أوزيل لم يُمارس التخطيط بشكل مباشر في المدن العربية، إلا أن أفكاره أثّرت في بعض المشاريع، خصوصًا في شمال أفريقيا (الجزائر وتونس) بعد الاستقلال. وقد طُبّقت مبادئه جزئيًا في إعادة تنظيم الأحياء القديمة وتطوير البنية التحتية بما يحترم الطابع المحلي.

في العالم العربي الأوسع، لم يُستفد بشكل كافٍ من فكر أوزيل، خاصة في ظل الاتجاه نحو النسخ الأعمى للنماذج الغربية. ومع ذلك، يُمكن القول إن الحاجة اليوم تزداد إلى تبني فلسفة أوزيل في مواجهة تحديات:

- العشوائيات

- التدهور العمراني

- فقدان الهوية المحلية

- الاستبعاد الاجتماعي

فلسفة أوزيل تُقدم حلولًا عملية وفكرية لهذه الإشكالات، لأنها تجمع بين العدالة الاجتماعية، والهوية الثقافية، والكفاءة التخطيطية.

سادسًا: المدن في عصر الأزمات... وصلاحية فكر أوزيل
تواجه المدن اليوم تحديات غير مسبوقة: تغيّر المناخ، التوسع العشوائي، أزمات النقل، تفكك النسيج الاجتماعي. في هذا السياق، يبدو أن فكر أوزيل أكثر واقعية وقابلية للتطبيق من الطروحات التقنية البحتة.

فهو يُعلّمنا أن المدينة لا تُبنى بالحاسبات فقط، بل بالفكر، والخيال، والحوار مع السكان، والتواصل مع الماضي.
وأن التخطيط لا ينجح إن لم يضع الإنسان في قلبه، لا على هامشه.
إن فن تخطيط المدن عند روبير أوزيل ليس مجرد مهنة تقنية، بل هو مشروع إنساني وثقافي شامل. يدعونا أوزيل إلى إعادة التفكير في مدننا باعتبارها أماكن للحياة، لا فقط للإنتاج، ويحذّر من الانسياق وراء مخططات تقتل روح المكان.
لقد آن الأوان لأن تُعيد المدن العربية اكتشاف هذا الفكر، وتُعيد للمدينة وظيفتها الأصلية: أن تكون مكانًا للانتماء، والتلاقي، والكرامة الإنسانية.



#عبدالباقي_عبدالجبار_الحيدري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكيان الصهيوني بين حماية الدروز وإبادة الفلسطينيين: ازدواجي ...
- خارطة طريق لإنقاذ كردستان: إصلاح من الداخل لا مغامرة نحو الم ...
- الشرق الأوسط الجديد: سيناريو تفكك المحور الإيراني وهيمنة أمر ...
- ترامب بين جنون العظمة واضطراب الشخصية: قراءة في السلوك النفس ...
- حين تنشب الحرب بأدوات أمريكا وأموال العرب: إيران تقاتل وحدها ...
- مدينة أربيل بعيون الرحالة: مرآة الزمان وتحوّلات المكان
- الاستفتاء الكردي في العراق: قراءة في ضوء علم الاجتماع السياس ...
- أسرار تحت قلعة أربيل: ماذا تخبئ «أم المدن» تحت أقدامها عبر ا ...
- غزة تُذبح على الهواء مباشرةً... نحن نُكبّر للعيد… وهم يُكبّر ...
- الاتفاقات الغازية بين كردستان والشركات الأميركية: بين الطموح ...
- اتفاقية الغاز بين أربيل والشركات الأمريكية: خطوة استراتيجية ...
- طيف سامي محمد في الميزان: ميزانية انتقائية وأضرار ممنهجة بحق ...
- قمة عربية ب600 مليون دولار... يا حسرة على وطن يُبدد أحلامه ب ...
- ما الذي يُطبخ على الطاولة المستديرة لزعماء العرب في بغداد؟ ا ...
- زمن التفاهة: قمة الخليج مع ترامب بين المليارات والمهانة
- خريف الثورات الكردية: من اتفاق الجزائر 1975 إلى تخلي حزب الع ...
- صرخة المرضى في إقليم كردستان: عندما تُباع الرحمة وتُشترى الك ...
- عمليات التجميل في مجتمعنا الكردي: بين وهم الجمال وضياع القيم ...
- سورة يوسف تحت عدسة علم الاجتماع
- الرواتب المعلقة.. أزمة مزمنة بين بغداد وأربيل: إلى أين؟


المزيد.....




- فرنسا والسعودية تؤكدان ضرورة حل الدولتين وسط انتقادات إسرائي ...
- بعد خمسة أيام من القتال.. تايلاند وكمبوديا تتفقان في ماليزيا ...
- بسبب الوضع الكارثي في غزة.. المفوضية الأوروبية تقترح تعليق ت ...
- تمهيدًا للقاء محتمل بين ترامب وشي..أميركا والصين تستأنفان مح ...
- ما علاقة حزب البديل باستقالة سياسي ألماني رسم صليبا نازيا؟
- عبد المنعم الجمل: كلمة الرئيس السيسي صفعة على وجه الصمت الدو ...
- أخطاء شائعة في التعامل مع نوبات غضب الأطفال
- 92 شهيدا والاحتلال يعرض خطة للسيطرة على كامل قطاع غزة
- ليبراسيون: هذه حكاية محتال انتحل صفة وزير دفاع دولة نووية وس ...
- شهيدان بهجمات مستوطنين بالضفة


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - فن تخطيط المدن في فكر روبير أوزيل: من الفلسفة إلى التطبيق