أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - الاستفتاء الكردي في العراق: قراءة في ضوء علم الاجتماع السياسي















المزيد.....

الاستفتاء الكردي في العراق: قراءة في ضوء علم الاجتماع السياسي


عبدالباقي عبدالجبار الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 03:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2017، أجرى إقليم كردستان العراق استفتاءً شعبيًا على الاستقلال عن الدولة العراقية، شارك فيه ما يقرب من 3.3 ملايين ناخب، صوّت أكثر من 92% منهم بـ"نعم" لصالح الاستقلال. لم يكن هذا الاستفتاء مجرد فعل سياسي في لحظة تاريخية، بل هو تتويج لمسار طويل من التوترات العرقية والسياسية، ومحطة تكشف أزمة الدولة العراقية في احتواء مكوناتها القومية. من منظور علم الاجتماع السياسي، يعدّ هذا الحدث مرآةً لكشف عمق الإخفاق البنيوي في مشروع الدولة-الأمة في العراق، بما يرافقه من فشل في بناء هوية وطنية جامعة، وعجز عن تجاوز الولاءات الأولية لصالح الولاء الجمعي.

أولًا: الخلفية السوسيولوجية – تاريخ من "اللااندماج"
تُعدّ تجربة الكرد في العراق مثالًا صارخًا لما يسميه علماء الاجتماع السياسي بـ"اللااندماج المستدام". فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بنيت مؤسسات الحكم على أساس مركزي عربيّ الهوى، مع تجاهل للخصوصيات القومية والدينية للمكونات الأخرى. ورغم أن الكرد شاركوا في الحكومات العراقية، وشغل بعضهم مناصب رفيعة، فإن هذه المشاركة لم تكن كافية لكسر حلقة الإقصاء الرمزي والفعلي.

مارست الدولة المركزية سياسات متكررة هدفت إلى "صهر" الكرد في قالب الدولة الموحدة، بدءًا من منع التعليم باللغة الكردية، ومرورًا بحملات التهجير القسري، وانتهاءً بمآسي حملة الأنفال في أواخر الثمانينيات، التي أُبيد فيها ما يقرب من 180 ألف مدني كردي. تراكمت من خلال هذه التجارب المريرة ذاكرة جمعية مضادة لدى المجتمع الكردي، تعزز منطق العزلة والانكفاء الذاتي، وترسم صورة للدولة العراقية كـ"آخر عدواني" لا كشريك وطني.

ثانيًا: الدولة والأمة – الفجوة البنيوية
يفرّق علم الاجتماع السياسي بين الدولة ككيان قانوني ومؤسسي، والأمة كتصور رمزي وهوية وجدانية مشتركة. بينما تُبنى الدولة على أجهزة السلطة والقانون، تُبنى الأمة على الخيال الجمعي والثقافة المشتركة. العراق – بحسب هذه الرؤية – هو دولة بلا أمة. الدولة قائمة ومهيمنة بمؤسساتها العسكرية والإدارية، لكنها لم تنجح في تشكيل هوية وطنية عراقية واحدة تتجاوز الانتماءات العرقية والدينية.

الكرد، في المقابل، يرون أنفسهم كأمة بلا دولة. لقد شكلوا عبر قرون من الكفاح والتمردات، هوية قومية متماسكة، تستند إلى لغة وتاريخ وجغرافيا متمايزة. هذا التوازي غير المتكافئ بين "الدولة" و"الأمة" يجعل من مفهوم المواطنة أمرًا هزيلًا ومجرّدًا. كلما اشتدت الأزمات، تنكشف هذه الفجوة البنيوية وتظهر الانتماءات الفرعية – الكردية أو الشيعية أو السنية – كقوى تفكك لا كعناصر تنوّع.

ثالثًا: تعبئة الهوية – من الوجدان إلى الفعل السياسي
منذ عام 2003، بعد سقوط النظام البعثي، دخلت الهوية الكردية مرحلة جديدة من التبلور والتفعيل السياسي. مكّنت الفيدرالية الدستورية إقليم كردستان من بناء مؤسسات سياسية واقتصادية وتعليمية خاصة به، معترف بها ضمن الدستور العراقي. وقد استثمرت النخب السياسية والثقافية الكردية هذه المساحة لصناعة سردية قومية محكمة.

ساهم الإعلام الكردي، والمناهج الدراسية، والجامعات، والفعاليات الثقافية، في تأطير الوعي القومي الكردي حول فكرة الدولة الموعودة. لم تعد الهوية مجرد شعور داخلي بالتميّز، بل تحوّلت إلى مشروع سياسي له أبعاده المؤسسية وخطابه العام، ما مهّد الطريق لفكرة الاستفتاء كذروة للتعبئة القومية، وكمطلب سياسي مشروع، لا مجرد طموح رومانسي.

رابعًا: الاستفتاء – بين الطموح القومي وحدود الجغرافيا السياسية
جاء استفتاء 2017 تتويجًا لهذا المسار التصاعدي، لكنه اصطدم بجدار صلب من الجغرافيا السياسية. الدول الإقليمية المحيطة – تركيا، إيران، وسوريا – رأت في الاستقلال الكردي تهديدًا مباشرًا لوحدتها الوطنية، حيث توجد فيها أقليات كردية نشطة تطالب بحقوق مشابهة. أما الحكومة العراقية، فقد اعتبرت الاستفتاء خروجًا على الدستور وتهديدًا لوحدة البلاد.

رفضت الولايات المتحدة وأوروبا الاستفتاء، رغم ما يُعرف عن دعمهم المعلن لـ"حق تقرير المصير". هذه الازدواجية كشفت حدود الواقعية السياسية الدولية، فغابت الحماية السياسية والدبلوماسية للمشروع الكردي. كما برزت انقسامات داخل البيت الكردي نفسه، بين من رأى الاستفتاء خطوة ضرورية، ومن حذّر من توقيته وسوء حساباته. النتيجة كانت مواجهة مباشرة بين الطموح القومي والواقع الجيوسياسي القاسي.

خامسًا: ما بعد الاستفتاء – صدمة الهوية والانكفاء السياسي
أعقب الاستفتاء تدهور كبير في موقع الإقليم سياسيًا واقتصاديًا. في أكتوبر 2017، استعادت القوات العراقية السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها، وفرضت الحكومة المركزية قيودًا على الطيران والموازنات المالية. لم تكن هذه الإجراءات مجرد عقاب سياسي، بل جاءت كمحاولة لإعادة ضبط موازين القوى بين المركز والإقليم.

لكن الأثر الأعمق كان على المستوى النفسي والاجتماعي، خصوصًا لدى الجيل الكردي الجديد الذي نشأ على فكرة الدولة الكردية بوصفها حلمًا قريب المنال. فشلت النخب السياسية في استثمار نتائج الاستفتاء، وتراجع الخطاب القومي الحماسي لصالح خطاب الانكفاء والانتظار. نشأ نوع من "الكمون القومي"، أشبه بما يسميه بيير بورديو بـ"الطاقة الرمزية المؤجلة"، التي تنتظر شرطًا تاريخيًا مواتيًا لتنفجر من جديد.

سادسًا: الموقف الدولي – ازدواجية المعايير ومأزق الحق
من أبرز ملامح استفتاء كردستان 2017 هو غياب الدعم الدولي التام. لم تعترف أي دولة، بما فيها الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، بنتائج الاستفتاء. المفارقة أن هذه القوى نفسها غالبًا ما ترفع شعارات حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير، لكنها اصطفت ضد هذا الحق حين اصطدم بمصالحها السياسية والاستراتيجية.

هذا التناقض يفضح الطبيعة البراغماتية للسياسة الدولية. فالقوى الكبرى تتعامل مع الشعوب والقوميات بوصفها أدوات لا فاعلين. لا مكان للعدالة في ظل مصالح الطاقة والنفوذ الإقليمي. وفي هذا السياق، يبدو أن المشروع الكردي للاستقلال لا يعاني فقط من عقبات داخلية، بل من انسداد في البنية الأخلاقية للنظام الدولي نفسه.

سابعًا: الخلاصة النظرية – الدولة كمفهوم اجتماعي
يُعيدنا هذا المشهد برمّته إلى سؤال جوهري في علم الاجتماع السياسي: هل الدولة العراقية دولة مواطنة فعلية، أم مجرد كيان مركزي فوقي هش؟ كل المؤشرات التاريخية والسوسيولوجية تدل على أن العراق – رغم ما مر به من تحولات – لم يُنتج انتماءً جمعيًا، بل أنتج نظامًا من الولاءات الفرعية الطاغية: القبلية، الطائفية، القومية.

الاستفتاء لم يكن خروجًا على العراق بقدر ما كان تعبيرًا عن حقيقة أن الكرد لم يدخلوا فيه أصلًا – لا وجدانيًا ولا مؤسساتيًا. لقد جاء الاستفتاء كصرخة قومية محمّلة بموروثات القمع، وفشل الاندماج، وتشوّه مفاهيم المواطنة. وبين الواقع والرمز، يبقى الحلم الكردي بالاستقلال قائمًا، مؤجلًا، لكنه غير ميت. هو أشبه بنهر تحت الأرض، لا يُرى، لكنه مستمر في الجريان.

إن استفتاء كردستان 2017 لم يكن نهاية مرحلة، بل بداية لأسئلة مفتوحة حول معنى الدولة، ومشروعية الحدود، وأزمة الهوية في العراق. من خلال عدسة علم الاجتماع السياسي، يمكننا القول إن هذا الحدث سلّط الضوء على التصدعات العميقة في بنية الدولة العراقية، وكشف فشلها في تأسيس تعاقد وطني جامع. وإذا لم تُعالج هذه الجذور، فإن التوترات القومية ستبقى قابلة للانفجار في كل لحظة أزمة.



#عبدالباقي_عبدالجبار_الحيدري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسرار تحت قلعة أربيل: ماذا تخبئ «أم المدن» تحت أقدامها عبر ا ...
- غزة تُذبح على الهواء مباشرةً... نحن نُكبّر للعيد… وهم يُكبّر ...
- الاتفاقات الغازية بين كردستان والشركات الأميركية: بين الطموح ...
- اتفاقية الغاز بين أربيل والشركات الأمريكية: خطوة استراتيجية ...
- طيف سامي محمد في الميزان: ميزانية انتقائية وأضرار ممنهجة بحق ...
- قمة عربية ب600 مليون دولار... يا حسرة على وطن يُبدد أحلامه ب ...
- ما الذي يُطبخ على الطاولة المستديرة لزعماء العرب في بغداد؟ ا ...
- زمن التفاهة: قمة الخليج مع ترامب بين المليارات والمهانة
- خريف الثورات الكردية: من اتفاق الجزائر 1975 إلى تخلي حزب الع ...
- صرخة المرضى في إقليم كردستان: عندما تُباع الرحمة وتُشترى الك ...
- عمليات التجميل في مجتمعنا الكردي: بين وهم الجمال وضياع القيم ...
- سورة يوسف تحت عدسة علم الاجتماع
- الرواتب المعلقة.. أزمة مزمنة بين بغداد وأربيل: إلى أين؟
- الأحزاب التركمانية في الميزان: أزمة القيادة والهوية في إقليم ...
- نحو قلعة نابضة بالحياة: مشاريع استراتيجية لتحويل قلعة أربيل ...
- في عصر الغابة: لماذا يجب على الدول الإسلامية أن تمتلك القوة ...
- تراث كردستان في الميزان: تقرير حول التغييرات الإدارية الكارث ...
- الغش في المجتمع: آفة تهدد القيم والأخلاق
- تحليل نقدي لسوق نشتيمان(بازار نشتيمان) في أربيل من منظور الت ...
- لا حياة لمن تنادي: واقع العراق وإقليم كردستان بين التحديات و ...


المزيد.....




- القوات الروسية تواصل تقدمها بنطاق مدينة رئيسية في شمالي أوكر ...
- -أوقِفوا الجرافات! بدو إسرائيل ليسوا مشكلة تخطيط- - هآرتس
- السودان: هجوم على قافلة أممية في دارفور وسط تحذيرات من -أسوأ ...
- -كمين جباليا-.. الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل مقتل جنوده الثل ...
- المستشار الألماني: حكم قضائي واحد لن يوقف حملتنا على الهجرة ...
- الإمارات.. إطلاق سراح مئات السجناء لمناسبة الأضحى
- بسبب تشيلسي وأوكرانيا.. بريطانيا تهدد بمقاضاة أبراموفيتش
- مشروع عقوبات جديدة على النفط الروسي قد تعرض الاتحاد الأوروبي ...
- هل تتعرض مصر لزلزال عنيف؟.. رئيس قسم الزلازل يعلق لـRT
- لجنة التحقيق الروسية تصنف حادثة الجسرين في مقاطعتي بريانسك و ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - الاستفتاء الكردي في العراق: قراءة في ضوء علم الاجتماع السياسي