رانية مرجية
الحوار المتمدن-العدد: 8416 - 2025 / 7 / 27 - 13:09
المحور:
الادب والفن
لم يكن صباحًا عاديًا في الضفة الغربية.
كان الهواء مشبعًا برائحة التوت البريّ المندثر على حجارة الطرقات القديمة، ومعه امتزجت رائحة البارود والقلق. على الحاجز رقم ٣١، حيث ينقسم الوقت بين انتظارٍ قاتلٍ ونظراتٍ مشككة، التقت عيناها بعينيه.
هي كانت تعبر كل يوم من بيت لحم إلى القدس للعمل في مدرسة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، حاملة ملفات ورسومات وسندويشات ملفوفة بورق الجرائد، وفي قلبها طنينٌ دائمٌ:
هل سأعود اليوم؟
أما هو، فكان جنديًا، ببدلة لا تشبه قلبه، يقف هناك منذ ثلاثة أشهر، لا يعرف لماذا، ولا لمن. عيناه خضراوان بلون شجرة زيتون قديمة، ويده تلامس بندقية أطول منه عمرًا. لم يكن يشبه الصورة التي ترسمها الرواية، ولا السيناريوهات الجاهزة. كان ضائعًا مثلها، وإن بدا مسيطرًا.
البداية كانت عادية. نظرة. عبور. تفتيش.
لكن شيئًا ما حدث، شيئًا لم تتعلّمه في كتب التربية، ولا هو في كتيبات الأمن.
في اليوم الأول، طلب منها بطاقة الهوية بلهجة غليظة.
في اليوم الثاني، لاحظ أن إصبعها ملفوف بشاش أبيض وسألها: “هل تؤلمك؟”
في اليوم الخامس، قالت له: “إن كنت تبحث عن متفجرات، ففتش قلبي… فيه ما قد يزلزل دولتك.”
ابتسم.
ثم كره ابتسامته.
كان الحاجز يتآكل ببطء.
لم تعد الحجارة فقط ما يفصل بينهما، بل كل ما مثّله كلٌ منهما.
هي الوطن المسلوب،
وهو، ربما، الروح المسلوبة.
في الليل، كانت تفكر فيه: كيف لجندي أن يسأل عن إصبعها؟
وفي الليل، كان يفكر فيها: كيف لمعلمة أن تبتسم وهي تمشي وسط البنادق؟
لم يكن حبًا كما في الأفلام.
كان سؤالًا.
جراحًا في العقل، لا في الجسد.
صرخةً وجودية تقول: من أنا؟
ولمن أنتمي؟
هل يمكن للإنسان أن يحب عدوه؟
وهل يمكن للعدو أن يبكي إن فُجّرت ضحكتك؟
في اليوم الستين، لم تأتِ.
وقف عند الحاجز.
سأل باقي الجنود: هل رآها أحد؟
ضحكوا منه.
لكنه لم يضحك.
مرّت الأيام، ولم تأتِ.
وفي ليلةٍ ممطرة، جاءه طفل صغير، يحمل ظرفًا.
فتح الظرف وقرأ:
“أيها الغريب،
كنتُ أعبر الحاجز،
لكنني فيك، كنتُ أبحث عن طريق.
لم أعد.
لا لأنني خائفة، بل لأنني وجدتك…
ولم أعد أحتاج إلى الجهة الأخرى.”
مضى عام.
لم يعد جنديًا.
ترك البندقية في الزاوية، واشترى دفترًا.
كتب فيه: “أحيانًا…
يقف الحب على الحاجز،
بين خوفين، بين وطنين،
فيختار أن لا ينتمي، إلا للدهشة.”
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟