رانية مرجية
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 10:02
المحور:
الادب والفن
في زاويةٍ منسية من الجليل، حيث تعانق الجبال السماء وتصمت الأشجار بخشوعٍ أبدي، كان هناك دير صغير يلوذ به الحزانى. وفي ذلك الدير عاش راهبٌ طيب اسمه الأب إيليّا، رجل هادئ كالماء، نقي كالصلاة، تجاوز الثمانين لكنه لم يشيخ أبدًا في عيني من عرفوه.
لم يكن الأب إيليّا صانع معجزات كما يتخيلها الناس. لم يُشْفِ العميان، ولم يمشِ على الماء، لكنه كان يصنع الأعجوبة الأصدق: أن يُعيد للإنسان إنسانيته، أن يربت على وجع الروح بكفٍّ من نور.
كان يستقبل الغرباء، لا يسألهم عن دينهم أو ماضيهم أو جنونهم، فقط يسأل:
"هل أتيت جائعًا؟ هل قلبك مكسور؟ هل روحك مرهقة؟"
وذات صباحٍ بارد، طرق باب الدير طفلٌ مجهول، حافي القدمين، صامت العينين، جسده هزيل وروحه خافتة. لم يتكلّم، فقط أشار إلى صدره، وكأنه يقول: "هنا... حيث يؤلمني كل شيء".
أخذه الأب إيليّا بذراعيه النحيلتين، وقال له:
"هنا ستشفى... دون دواء، فقط بالمحبة."
سمّاه "نور"، وكان كلما رآه يبتسم، يقول للزائرين:
"أحيانًا لا نحتاج إلى معرفة الأسماء التي أعطتنا إياها الحياة، بل إلى الأسماء التي تُولدنا من جديد."
كان نور يصمت كثيرًا، لكنه تعلّم من الراهب كيف يتهجّى لغة الصمت: أن يصغي إلى طقطقة الحطب، وأن يقرأ الصلوات في حفيف الأشجار، وأن يبتسم عندما تبكي السماء.
وذات يوم سألته امرأة:
– ما الذي فعله لك الأب إيليّا حتى شُفيت؟
فأجاب:
– لم يفعل شيئًا... فقط رآني.
**
حين اجتاحت الفيضانات القرى المجاورة، فتح الراهب الطيب أبواب ديره لكل لاجئ، صنع الحساء، قسم الخبز، ونام على الأرض. لم يكن يفعل ذلك ليُقال عنه "قديس"، بل لأنه كان يؤمن أن من يملك محبةً صافية، يملك الله.
وعندما سأله أحدهم في ليلةٍ باردة:
– هل تعتقد أن الله يراك؟
ابتسم، ثم قال:
– لا أعرف... لكنني أحاول أن أراه في كلّ واحدٍ منكم.
**
رحل الأب إيليّا ذات مساءٍ شفيف، كما ترحل النسائم من غير وداع. وجدوه جالسًا قرب الشمعة، عيناه مغمضتان، وابتسامة سلامٍ على شفتيه. لم يخلف وراءه ثروات، بل أثرًا شفيفًا في قلوب من عرفوه، وأعجوبة صغيرة اسمها: نور.
واليوم، ما زال الأطفال يأتون إلى الدير، يزرعون الأعشاب، يقرأون الصلوات على الجدران، ويهمسون أمام قبره:
"هنا يرقد الراهب الطيب... الذي لم يصنع إلا معجزة واحدة: أنه أحبّنا كما نحن."
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟