أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة ديكنز (الجزء الثاني): عبقريةٌ مزدوجة وظلالُ زوجةٍ منسيّة















المزيد.....

ومضات من حياة ديكنز (الجزء الثاني): عبقريةٌ مزدوجة وظلالُ زوجةٍ منسيّة


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 22:08
المحور: الادب والفن
    


“كالعيسِ في البيداءِ يَقتلُها الظمأُ
والماءُ فوقَ ظهورِها محمولُ”

بهذا البيت من الشعر العربي القديم للشاعر الفذ طرفة ابن العبد، يمكن اختزال مأساة كاثرين ديكنز، الزوجة التي شربت من كأس الحرمان في بيتٍ كُتبت فيه أعظم أدبيات العدالة الاجتماعية. هي التي حملت على كتفيها عبء الأسرة، وتحملت مسؤولية بيتٍ يفيض بالأنانية والصمت، بينما كان زوجها يُدين القسوة الاجتماعية في “أوليفر تويست”، و”دافيد كوبرفيلد”، و”قصة مدينتين”.

لكن ما لم تقله رواياته، قالته الحياة: العدالة التي كتبها ديكنز، لم تصل إلى فراشه ولا إلى مائدة طعامه.



من سيرة الظل: كاثرين ديكنز

ولدت كاثرين هوغارث في إدنبرة عام 1815، لأسرة متعلمة؛ فوالدها جورج هوغارث كان صحفيًا ومحررًا موسيقيًا. تزوجت من تشارلز ديكنز عام 1836، في لحظة كان فيها على مشارف الانفجار الأدبي، وأنجبا معًا عشرة أطفال.

في البداية، بدا الزواج متينًا. سافرت معه إلى الولايات المتحدة عام 1842، ورافقته في مشاريع أدبية، وعاشت في بيت لا يخلو من الاضطرابات النفسية. لكنها بمرور الزمن تحولت من شريكة حياة إلى خادمة غير مرئية، تُدير البيت، وتربي الأبناء، وتحافظ على صورة الكاتب أمام العالم، بينما كانت هي تُذوب نفسها بصمت.

في عام 1858، وبعد 22 عامًا من الزواج، انفصلا رسميًا. لكن الطعنة الأكبر لم تكن في الفراق، بل في حرمانها من أطفالها، وفي الصورة السلبية التي رسمها عنها ديكنز أمام المجتمع، وفي منعها حتى من توقيع رسائل عائلية بأمومتها.

قبل وفاتها، سلّمت كاثرين لابنتها رسائل ووصية قصيرة تقول فيها:

“لقد تركني دون أي خطأ مني.”

كانت كلماتها الأخيرة بمثابة شهادة دفاع متأخرة أمام محكمة التاريخ.



عدالة الورق وظلم الواقع

ما يُدهش قارئ ديكنز أنه كثيرًا ما احتفى بالمرأة الطيبة، الأم المتفانية، الفتاة النقية التي تعاني في صمت. بل جعل من الطفولة البائسة حجر الأساس لرواياته. رأيناه يكتب في “أوليفر تويست” عن أيتام لندن، وينتقد فساد المؤسسات الاجتماعية، ويقسو على أصحاب النفوذ والبرودة الأخلاقية.

كتب عن الظلم بضمير حي، وعن الفقر كجريمة أخلاقية، وعن النساء كقناديل نور في عالم بارد. قال يومًا:

“النساء أغلى من المجد، وأثمن من المال.”

لكن حين وقفت كاثرين أمامه، لم يرَ فيها إلا عبئًا. تخلى عنها من أجل إلين ترنان، الممثلة الشابة التي أغرته بجمالها وحيويتها، وكتب رسائل حب ملتهبة بينما زوجته تُطرد من قلبه ومن بيته.
وهكذا، انقلب سارد المهمشين إلى مهمِش لمن عاشت معه في الظل.



شخصية مزدوجة: العبقري والإنسان

كان ديكنز شخصية مركّبة.
• في الطفولة، عاش الفقر والخزي بعد سجن والده، وعمل في مصنع وهو في الثانية عشرة.
• في المراهقة، عشق القراءة والتمثيل، وتعلم الاختزال، وبدأ حياته المهنية ككاتب تقارير برلمانية.
• في الكتابة، كان عميقًا، شغوفًا، ناقدًا اجتماعيًا حادًا، ساخرًا من النفاق الأخلاقي.
• في حياته الخاصة، كان غريب الأطوار؛ يخرج ليلًا بلا هدف، يتثاءب بوقاحة، ويمشط ذقنه في حفلات التكريم.

في كل هذا، كان ديكنز يتأرجح بين العبقري الذي يُحيي شخصياته على الورق، والإنسان الذي يعجز عن احتضان شخص حقيقي بجانبه.



المرأة في أدبه.. والمرأة في حياته

من يقرأ ديكنز يظن أنه أحد حماة المرأة في الأدب الإنجليزي. ففي كل رواية، ثمة امرأة ضعيفة لكنها نبيلة، مطاردة لكنها طاهرة، مهمشة لكنها منقذة.
ولكن الواقع كان مرًّا.
فبينما كتب في إحدى عباراته الشهيرة:

“المرأة هي أساس المدينة والعمران، وإن لم يعترف بذلك الرجال.”
لم يعترف هو نفسه بمساحة هذه المرأة في حياته.

بل نفى عنها الأمومة، الحب، حتى الوجود. أصبحت كاثرين في حياته مثل “العِيس” في صحراء البيداء: تحمل ماء العدالة، ولكنها لا ترتوي منه.



سياق العصر ومشهد المأساة

نعيش مع ديكنز داخل العصر الفيكتوري (1837–1901)، وهو عصر تناقضات صارخة:
• ازدهار صناعي هائل يقابله فقر مدقع
• أخلاقيات صارمة تقابلها حياة مزدوجة ومنافقة
• بريق اجتماعي تقابله هشاشة أسرية

كان ديكنز نفسه ابنًا لهذا العصر؛ انتقد طبقته الأرستقراطية لكنه تأثر بها، قاوم الظلم الطبقي لكنه مارسه داخل بيته، أعطى لندن صوتها في الأدب، لكنه أفقد صوت زوجته أي صدى.

وقد وصفت الباحثة البريطانية سالي ليدج ذلك بوضوح في دراستها “ديكنز في سياق عصره”، قائلة:

“لقد كتب ديكنز للعدالة من خارجها، لكنه لم يجرؤ على ممارستها داخل جدران منزله.”



وهنا قبل أن أختتم مقالي لابد أن أسأل: هل نغفر أم نواجه؟

من السهل أن نُنزّه العباقرة. ومن الصعب أن نراهم بشرًا.
لكن التاريخ لا يكف عن طرح سؤال:

هل يمكن أن نثق بكاتب العدالة إذا خانه ضميره في أقرب اختبار شخصي؟
هل يجب أن نحاكم الأدب بمقاييس الحياة؟ أم نفصل بين العبقري وإنسانيته الممزقة؟

ديكنز سيظل أديبًا خالدًا بلا شك. لكن تاريخه العائلي يبقى جرحًا مفتوحًا في ضمير محبيه.

ولعل صمت كاثرين الطويل، ورسالتها اليتيمة، تظلّان أصدق ما كُتب في سيرته.

“دع الرجل يقول ما يشاء، ولتفعل المرأة ما تشاء.”
– تشارلز ديكنز

لكنه لم يدعها تفعل ما تشاء، ولا حتى أن تبقى مع أطفالها.



✦ هوامش وتوضيحات:

1. العِيس: جمع “عَيْسَى”، وهي نوع من الجِمال البيضاء تُستخدم في الشعر العربي كرمز للصبر والحرمان.
2. الحقبة الفيكتورية: عهد الملكة فيكتوريا في بريطانيا، تميز بالازدهار الاقتصادي والتشدد الأخلاقي والفوارق الطبقية الحادة.
3. كاثرين هوغارث: زوجة ديكنز وأم أولاده، عاشت في ظل شهرته ثم طُردت من حياته، وظلت منسية في التاريخ حتى أعادت بعض الدراسات اعتبارها.
4. إلين ترنان (Nelly Ternan): ممثلة بريطانية شابة، أقام ديكنز معها علاقة سرية أثارت جدلًا واسعًا بعد وفاته.
5. سالي ليدج (Sally Ledger): أستاذة جامعية بريطانية وباحثة مختصة في أدب العصر الفيكتوري، لها دراسة نقدية بعنوان “ديكنز في سياق عصره”.
6. “دع الرجل يقول…”: اقتباس يُنسب إلى ديكنز، ويعبّر عن دفاعه الظاهري عن حرية المرأة، لكنه يتناقض مع ممارسته الشخصية.
7. الكتابة المتسلسلة (Serial fiction): أسلوب شائع في القرن التاسع عشر، حيث تُنشر الروايات في حلقات، وهو ما اشتهر به ديكنز وزاد من شعبيته.
8. رسالة كاثرين الأخيرة: وثيقة حقيقية أعطتها لابنتها بعد سنوات من الصمت، تُعد شهادة صامتة على الظلم الذي لحق بها



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إبادة غزة تسقط الهولوكوست من كافة المعايير الانسانية ومن الا ...
- السيخية بين الروح والتاريخ: تأملات رحّالة بين المعابد
- عندما يضيء عقلك عتمة حياتك: أربعون درسًا من قلب الطريق
- الابتسامة التي تُبنى عليها الإمبراطوريات
- ملفات إبستين: التستر الكبير، الانقسام المؤسسي، وامتحان الشفا ...
- لوران ديكريك… عندما تصبح الأسئلة التاريخية جريمة أخلاقية
- أسماك القرش: ضحايا وهم التوحش
- صرير العجلات ومعنى أن نُقاد بدل أن نقود
- من نباح الامان الى عواء الحرية
- من فولتير إلى بيل غيتس: رحلةُ الوعي بين التنوير والكلاشينكوف
- المتقاعدون: ثروة وخبرة تُستثمر لا تُهمَّش – نحو سياسات مستني ...
- رؤية خضراء لإحياء الصحراء: مقترح بيئي شامل لإعادة تأهيل الصح ...
- الصهيونية والعقيدة اليهودية: تفكيك خرافة دينية وخيانة أخلاقي ...
- معاهدة الماء: حين يصبح الصمت ديانة
- فلسفة وابي سابي: حين تصبح الشقوق ذهبًا — دع النور يتسرّب من ...
- العالم على مائدة واحدة: حين تتحوّل الشهية إلى مرآة للهوية
- أحبّهم… لكنهم يُطفئونني: الشخصيات السامّة بعيون الوعي
- الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظا ...
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...


المزيد.....




- العلاج بالسينما.. الفيلم الوثائقي أبو زعبل 89
- تدهور الحالة الصحية للنجم بروس ويليس .. أصبح لا يتذكر تاريخه ...
- نقابة الفنانين في ذي قار تحتج على تجاهل رأيها في مشروع النصب ...
- بعد أحداث السويداء.. ما حقيقة فيديو -سوق السبايا- ومن يقف خل ...
- -ما بعد الحقيقة-.. تشريح معمق لأزمات المعرفة والتضليل في عصر ...
- وداع مؤثر من فرقة Black Sabbath ونجوم الموسيقى لأسطورة الروك ...
- مهرجان -ثويزا- بطنجة ينطلق الخميس -نحو الغد الذي يسمى الإنسا ...
- راغب علامة يتلقى الدعم من نقابة -محترفي الموسيقى والغناء- في ...
- الشاعرة السعودية ميسون أبو بكر تُسحر الريفييرا الفرنسية بنبض ...
- صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة ديكنز (الجزء الثاني): عبقريةٌ مزدوجة وظلالُ زوجةٍ منسيّة