ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 16:14
المحور:
الادب والفن
حين نمعن النظر في بعض الألعاب الشعبية التي مارسها الأطفال في الأزقة والفراغات بين البيوت، سنكتشف أنها لم تكن ارتجالات بريئة تحت شمس ما بعد الظهيرة، بل نظُماً رمزية تُعيد إنتاج المجتمع في صورته المصغّرة. من بين هذه الألعاب، تبرز "العفريتة" بوصفها أكثر من مجرد تسلية حركية، وأكثر من قفزات متتالية بحجر يُدفَع على الأرض. إنها لعبة تنتمي إلى المجال الثقافي قبل أن تنتمي إلى الطفولة، وإلى الحقل الرمزي قبل أن تُصنّف كفعل جسدي بسيط. فهل تُعتبر هذه اللعبة المولودة في الأزقة نظاماً لا فوضى؟
يرتبط اللعب في التصور الشعبي الساذج بالانفلات والتحرر من القواعد، غير أن لعبة "العفريتة" تُقوّض هذا التصور تماماً. فكل شيء فيها محكوم بقانون رسم المربعات، رمي الحجر، القفز على رجل واحدة، تجنّب الخطوط بدقة. لا مجال للعشوائية، ولا وجود للارتجال. إن مسّ الخط يُعد خطأ، وإن سقط الحجر على الحدّ يُعاد الدور. الطفل هنا ليس حُرًّا، بل خاضع لنظام صارم، يُمارس الانضباط أكثر مما يُمارس اللهو.بهذا المعنى، تصبح "العفريتة" صورة أولى لاحتكاك الذات بالقانون، واختباراً مبكراً لمفاهيم مثل العقوبة، الإعادة، والنجاح القائم على الجهد لا على الحظ. فهل يمكن اعتبار المكان نصاً مفتوحاً؟ بمعنى آخر هل يحق لي تشبيهه بالنقد بشكل عام وصرامة قوانينه؟
في لعبة العفريتة، لا يُستخدم المكان كخلفية، بل كبطل رئيس. يُرسم على الأرض، ويُقسم إلى خانات، ويُحوّل إلى فضاء دلالي مشحون بالحدود والمعاني. هذه الخطوط ليست مجرد تقسيمات هندسية، بل هي "حدود رمزية" تفصل بين المسموح والممنوع. بين الداخل والخارج. هي خطوط قانونية بامتياز، والخطأ في تجاوزها يُعيد اللاعب إلى نقطة البداية. إننا هنا أمام تحويل جغرافي لسلطة القانون، حيث يتحول التراب أو الإسفلت إلى مساحة مُشرعة، لا تُخترق إلا بشروط دقيقة، وتُعاد إن انتهكتها دعسة خاطئة أو ارتباك في دفع الحجر. فماذا عن التوازن بين الثقل والرمز؟
لا تُمارس اللعبة بجسد حر، بل بجسد مقيد عبر رجل واحدة، يد ثابتة، تركيز بصري مشدود. والحجر هو تلك القطعة الصغيرة من الواقع يتحول إلى ما يشبه الرسالة التي يجب إيصالها دون أن تضل الطريق. كل فعل جسدي هنا محكوم بوعي دقيق بالاتجاه، بالوزن، بالتوقيت. هذه التفاصيل ليست شكلية، بل تؤسس لمدرسة حركية صامتة، تُدرّب الطفل على الانضباط الجسدي، وعلى إدراك العلاقة بين الحركة والمسؤولية، بين الخطأ والنتيجة. ولعل أجمل ما في اللعبة أنها تعلّم كل هذا دون أن تُنطق بكلمة واحدة. فماذا عن الدخول والخروج والطقوس العابرة داخل اللعبة؟
من المفاهيم المحورية في اللعبة مصطلحا "الدخول" و"الخروج"، وهما لحظتان رمزيتان يُعبّران عن عبور من فضاء إلى آخر. "الدخول" هو الدخول الشرعي إلى الحلبة، عبر الخط الصحيح وبالطريقة المقبولة. "الخروج" هو نهاية الجولة بنجاح. وبينهما رحلة مليئة بالمجازفة والانضباط.هذا الشكل من الطقس العابر يُشبه كثيراً الطقوس الانتقالية في المجتمعات التقليدية، حيث يمر الفرد بمراحل تحول ليكتسب شرعية جديدة. هكذا تُقدّم العفريتة نفسها كتمرين رمزي على العبور، على الانتقال، على اكتساب الدور من خلال الاجتهاد والانضباط. فماذا عن توزيع الأدوار ؟
ارتبطت لعبة العفريتة تقليدياً بالبنات، وهو ارتباط لا يخلو من دلالة ثقافية، ففي تصوّر المجتمع، إن اللعبة بما تتطلبه من توازن وأناقة جسدية وخفة حركة تُلائم الصفات الأنثوية النمطية. لكن هذه النظرة تنمّ عن تصنيف جندري تقليدي، لا عن تحليل واقعي لقدرات اللعبة أو لاعبيها.الواقع أن العفريتة لعبة دقيقة ومكثفة، لا تقل تطلباً عن ألعاب الذكور من حيث التركيز الجسدي والعقلي. وإعادة قراءتها اليوم تفرض تجاوز هذا الفصل الجندري، نحو فهمها كتمرين إنساني، لا كهوية اجتماعية مفروضة. فماذا عن هذه اللعبة باعتبارها خطاباً ثقافياً شبيهاً بالنقد الصارم الدقيق المرتبط بالقوانين النقدية؟
في الظاهر، لا يبدو أن لعبة "العفريتة" الشعبية والنقد الأدبي الأكاديمي يشتركان في شيء. الأولى تمارس في فضاء اللعب الطفولي، والثاني يُنتَج داخل المؤسسات الأكاديمية ومجالات التخصص. غير أن المقارنة الثقافية الدقيقة تكشف عن تشابه عميق في البنية، الصرامة، والوظيفة الرمزية بينهما. فكلاهما نظام منضبط، يُقصي العفوية، ويُنتج المعنى من خلال قواعد محكمة وخطوط لا يجوز تجاوزها. هذا المقال الذي نتج عن محادثة بيني وبين ناقد سيصدر له كتاباً نقدياً أكاديمياً قد يثير جدلية لكنه أعادني إلى قراءة "العفريتة" التي كنا نلعبها أطفالا ونلتزم بقوانينها والنقد الأكاديمي الصارم كـ نموذجين للانضباط الرمزي، ينظّمان الجسد (في حالة اللعب) والعقل (في حالة النقد)، ويؤديان إلى إنتاج المعنى من داخل القيد لا من خارجه. فهل بنية القواعد النقدية من الخط إلى الإحالة المرجعية هي نفسها؟ وإذا كانت كذلك لماذا يفرّ القارىء العادي من قراءة النقد رغم أنه يجعله أقرب لفهم العمل الأدبي أو الفني بشكل أفضل؟
تقوم لعبة العفريتة على مجموعة دقيقة من القواعد رسم المربعات بخطوط واضحة. القفز على رجل واحدة.عدم ملامسة الخط. إعادة الدور عند أي خطأ.أما النقد الأكاديمي الصارم، فيخضع لقواعد موازية الدقة في المصطلحات. الإحالة إلى المراجع الموثوقة. اتباع مناهج محددة (بنيوية، تفكيكية، سردية...). الحذر من التعميم أو الانفعال أو الانطباعية.في الحالتين، كل تجاوز يُعد خطأً منهجياً. في العفريتة: يعاد اللعب. في النقد يُرفَض البحث أو يُعاد النظر فيه. فهل الخطأ يمكن وصفه عنصراً تكوينياً؟
في "العفريتة"، الخطأ جزء من بنية اللعب. هو ما يمنح النظام معناه أي الخطوة الخاطئة تُعيد اللاعب إلى نقطة الصفر. في النقد الأكاديمي، الخطأ المنهجي كالتعميم غير المؤسس أو المقارنة غير المضبوطة يُفقد النص شرعيته العلمية.كلا النظامين لا يعمل دون وجود معيار للخطأ، ما يعني أن اللعبة والنقد ليسا ساحتين للفوضى أو الحرية المطلقة، بل مجالان تُمارَس فيهما الصرامة كشرط للشرعية.فهل الجسد والعقل يشبهان انضباط الأداء واللغة؟
في العفريتة، ينضبط الجسد تحت سلطة قوانين دقيقة. لا يُسمح له بالحركة الحرة، بل عليه أن يوازن نفسه، يقفز في المربع الصحيح، يدفع الحجر بدقة.في النقد، ينضبط العقل أي لا مجال للخواطر، ولا للذوق، ولا لآراء غير مدعومة. النقد الجاد يشبه القفز المتزن في المربعات أي خطوة، وقفة، إحالة، تحليل، تقدم. كلا النظامين يُعيد تشكيل الذات، في اللعب تُشكَّل المهارة عبر تكرار الجسد المُنضبط. في النقد تُشكَّل الموضوعية عبر التمرين على الحياد والصرامة. في العفريتة، اللاعب تحت رقابة صارمة من باقي المشاركين. الجميع يراقب إن كانت القدم على الخط، أو إن سقط الحجر خارج المربع. في النقد الأكاديمي، الباحث تحت رقابة "المحكِّمين" أو "لجنة القراءة"، التي تفحص كل سطر، كل استشهاد، كل نتيجة.في الحالتين، لا يُقيَّم الأداء بالانطباع، بل وفق معايير تقنية بمعنى هل احترمت القواعد؟ هل التزمت بالبنية؟هل تحرّكت ضمن حدود اللعبة/المنهج؟ فماذا عن روح العفوية الغائبة في كليهما؟
كل من يقترب من العفريتة لأول مرة قد يظن أنها لعبة فوضوية، لكنها في الواقع خالية من العفوية. القفز محسوب، الحجر مضبوط، كل خطوة لها وزنها.النقد الأكاديمي كذلك يبدو في ظاهره "قراءة للنص"، لكنه لا يسمح للقارئ بعفويته. إنه قراءة ضمن شروط، داخل نظام معرفي دقيق.النتيجة بمعنى اللعب ليس حرية، والنقد ليس انطباعاً مئة بالمئة باللاوعي مرتبط بقوانين. كلاهما بنية انضباط تُنتج الشرعية.في العفريتة النهاية الناجحة تتمثل في الوصول إلى آخر المربعات دون خطأ، وهي لحظة تتويج رمزية داخل الجماعة. في النقد النجاح يتمثل في قبول النص للنشر، أو اعتماده مرجعاً، وهو شكل من الشرعية الأكاديمية الرمزية. كلا النظامين ينتجان رموزاً للقيمة داخل جماعتهما.اللاعب الماهر في الحي، كالباحث الدقيق في الجامعة. الخطأ يكلّف الدور، كما يكلّف المقال. اللعب والنقد بوصفهما بنيتين ثقافيتين متوازيتين تُظهر هذه المقارنة أن لعبة "العفريتة" والنقد الأكاديمي الصارم يتقاطعان لا في طبيعة النشاط، بل في بنية الانضباط، التقنين، وإنتاج المعنى من داخل القيد. كلاهما يُعيد تشكيل الذات (الجسدية أو الذهنية) من خلال تدريب مستمر على احترام النظام، وتفادي الخطأ، والسعي نحو التقدم التدريجي المشروع.بهذا المعنى، لا تعود العفريتة مجرد لعبة، ولا يعود النقد الأكاديمي مجرد ممارسة عقلية. إنهما شكلان من أشكال "الانضباط الرمزي"، وممارستان للمعرفة داخل حدود صارمة تمنح الفعل شرعيته.فماذا عن النقد الانطباعي الحر؟
إذا كُتب النقد الانطباعي الحر بذكاء وشعور عميق، لا يقل أهمية عن النقد الأكاديمي، بل يتصل أكثر بالقارىء العادي، ويُمثل روح الذائقة الشعبية والتفاعل الفوري مع النصوص والحياة واللعب .
قد يستغرب البعض كلامي وقد يرفضه وربما يخلق جدلية لا تنتهي لكن في الصحافة لا نمارس النقد بوصفه تحليلاً جامداً بل ككتابة شعورية حية. ولا نُحمّل النصوص أطراً نظرية مسبقة، بل نسمح لها بأن تُحس وتُعاش وتُقرأ كما هي . كما أننا ننطلق من اللغة اليومية، والخيال والدهشة، والحنين، والحس الإنساني، بدلاً من المصطلحات والتقنيات الجافة وهذا يشبه تماماُ ما تمثله العفريتة لعبة نخبوية رغم أنها شعبية ، عفوية، مرئية، جسدية، وتمارس بفعل مباشر. لا تحتاج لقواعد مدرسية، بل تُلعب كما تُحس، وتُعيدنا للطفولة والحي والضحك والحذر والانتصار بمعنى آخر يمكن فهمها ، وتذكرها ، والكتابة عنها من القلب، لا من النظرية لهذا أقول المعادلة النهائية لكل هذا أو الجدلية إن حق لي قول ذلك ؟
النقد الأكاديمي بقوانينه لا يخطو خارج الخط (كأنك تلعب العفريتة بحساب صارم). أما النقد الصحفي أو الانطباعي الحر يقفز من خانة إلى خانة بحرية (كأنك تمارس "عفريتة" أخرى، لكنها شعورية نقدية !). لكن السؤال الأهم ماذا لو فقد اللاعب الشعور باللعبة ولم يحقق الخفة والحركة والتنقل السريع ووصل إلى خط النهاية ببطء شديد وملل ممن يشاهدونه؟
طرابلس- لبنان الجمعة في 11تموز 2025الساعة الواحدة والنصف ظهراً
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟