أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - أمي ثم أمي














المزيد.....

أمي ثم أمي


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8399 - 2025 / 7 / 10 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


في قريةٍ صغيرة من قرى الجنوب، حيث تحيط النخيل البيوت الطينية، وتتصاعد روائح الخبز من تنانير الصباح، عاشت الحاجة سُكينة، امرأة جاوزت التسعين، كانت قد ربّت ولديها نواف وجابر بيدها، بعد أن رحل زوجها في وقت مبكر من العمر. لم تكن أمًا عادية، بل كانت أمًا صارمة في الحنان، عطوفة في التربية، جعلت من تعبها حبًا، ومن دموعها طريقًا ليكبر ابناها رجالًا يُشار إليهم بالبنان.

نواف، الابن الأكبر، رجل تجاوز السبعين من عمره، ظل في القرية بجوار أمه، لم يتزوج قط، كان يقول لمن يسأله: "زوجتي هي أمي، وخدمتي لها جنتي"، عاش معها كل تفاصيل حياتها، سهر على مرضها، غسل قدميها بيديه، كان يخرج فجراً ليجلب لها اللبن الطازج، ويعدّ طعامها كما تحب، يتفقدها ليلًا ليتأكد أن تنفّسها لا يزال منتظمًا، كان يعيش من أجلها فقط.

أما جابر، فكان الابن الأصغر، انتقل إلى المدينة منذ شبابه، تخرّج من الجامعة، تزوج، واستقر هناك. كان يزور أمه بين الحين والآخر، يحمل لها الهدايا، ويُقبل رأسها بحرارة، ويحدثها عن الحياة الحديثة التي لم تراها يومًا. لكنه لم يكن حاضرًا في لحظات المرض، أو الوحدة، أو الحاجة لمن يمسح العرق عن جبينها في أيام الصيف الحار.

مرت السنوات، واشتد المرض على الحاجة سُكينة، حتى أصبحت طريحة الفراش، عاجزة عن الحركة، بحاجة لمن يعتني بها ليلًا ونهارًا. وهنا بدأ الخلاف بين الأخوين... لكنه لم يكن خلافًا على مال أو أرض كما اعتاد الناس أن يسمعوا، بل كان خلافًا على رعاية الأم، على من ينال شرف البِرّ في أيامها الأخيرة.

قال جابر ذات صباح عندما زار القرية: "أمي في حالٍ لا يمكن أن تُترك فيه دون رعاية طبية. أنا قادر على توفير سرير طبي، ممرضة خاصة، وأجهزة أكسجين. في المدينة هناك مستشفى قريب، أطباء في خدمتها على مدار الساعة. هذا حقها."

نظر إليه نواف طويلًا، وقد ترقرقت دموعه، وقال بصوت متهدّج: "وأين كنت كل تلك السنين يا جابر؟ حين كانت ترتجف من الحمى وأنا أضع الماء على جبينها، حين كانت تصرخ من ألم ظهرها وأنا أرفعها بيدي؟ هل ستعالجها الأجهزة؟ أم تطمئنها القلوب؟ هي لا تريد مدينة، لا تريد سريرًا آليًا... هي تريد أن تسمع صوتي حين تنادي، أن ترى وجهي حين تستيقظ، أن أمسح عنها العرق بيدي، كما أفعل منذ ثلاثين عامًا."

حاول الأقارب التدخل، لكن الأمر تعقّد. لم يكن نواف يريد التملك، بل التمسك بما تبقى له من حياة؛ رعاية أمه. أما جابر، فلم يكن شريرًا، بل رأى أن الوقت قد حان ليُعوض غيابه، وليرد شيئًا من الجميل. ولأنهما لم يتوصلا إلى حل، ذهب جابر إلى المحكمة، طالبًا نقل رعاية أمه إليه لأسباب طبية.

في قاعة المحكمة، وقف نواف مستندًا على عكازه، بثياب بسيطة تفوح منها رائحة التراب والحنان، قال للقاضي: "سيدي، هذه أمي. لم أتركها يومًا. خدمتها في صغري وكبرها، أنا لا أطلب مالًا، ولا ميراثًا، فقط دعوني أظل خادمًا لها حتى أموت."

أما جابر، فقال: "أنا أحب أمي مثلما يحبها نواف، لكنني أستطيع أن أوفر لها حياةً أفضل، علاجًا أفضل، راحة أكثر. أنا لا أتنافس مع أخي، بل أريد ما فيه مصلحتها."

حكم القاضي، بعد مراجعة التقارير الطبية، لصالح جابر، معتبرًا أن صحة الحاجة سُكينة تتطلب نقلاً عاجلاً إلى المدينة، وأن بيئة نواف الريفية، مع عمره المتقدّم، لا تُناسب حالة الأم.

خرج نواف من المحكمة مطأطئ الرأس، ودمعة حارة تسيل على وجنته، لم ينظر إلى أحد، لم يتحدث، فقط سار ببطء وكأن قلبه قد كُسِر. وقال هامسًا لمن تبعه ليواسيه: "ما أردت إلا أن أموت وأنا بجوارها."

تم نقل الحاجة سُكينة إلى بيت جابر في المدينة، حيث تم تجهيز غرفة خاصة، ووضع سرير طبي، وممرضة بقيت بجانبها ليل نهار. لم تكن تشكو، لكنها لم تبتسم بعدها كثيرًا. كانت تنظر من النافذة كأنها تبحث عن شيءٍ مفقود... أو عن وجه نواف.

أما نواف، فعاد إلى بيته الفارغ. لم يكن صوت أمه يملأ الأرجاء، ولا عبير القهوة التي كان يصنعها لها كل صباح. كان يستيقظ قبل الفجر، يجلس أمام باب الدار، ينظر في الطريق الطويل المؤدي إلى المدينة، ويتمتم: "يمكن اليوم يرجعونها... يمكن تعود."

وبعد شهر واحد فقط، في صباح رمادي، وجده جيرانه جالسًا على كرسيه الخشبي القديم، رأسه مائل، وابتسامة باهتة على وجهه، لكن جسده كان قد فارق الحياة. رحل نواف، لا مرضًا، بل قهرًا، وبكاءً مكتومًا لم يُفهم إلا حين فُقد.

حين علمت الحاجة سُكينة بوفاة نواف، لم تنطق بكلمة. فقط رفعت يدها المرتجفة إلى السماء، وبكت بلا صوت، كأنها فقدت الحياة مرتين. قالت أخيرًا: "راح اللي كان يسمع همستي، قبل صرختي... راح اللي ما نام إلا وأنا مرتاحة."

لم يكن نواف قد أنجب أولادًا، لكنه خلّف أثرًا لا يُنسى في قلوب من عرفوه. صار الناس يروون قصته في المجالس، ويقولون لأولادهم: "إن أردتم تعلم البر، فتعلموه من نواف... الرجل الذي بكى لأنهم أخذوا منه أمه."

وهكذا، بقيت القصة، حيةً في وجدان القرية، لا تروى كحكاية حزن، بل كأنشودة حب لا يموت، لأن بعض القلوب تُولد فقط لتخدم، وتموت حين تُمنع من ذلك.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بريكس والدولار
- الشرق الأوسط بين المطرقة والسندان
- العقيدة الشخصية. بين الحرية الفردية وأحترام الأخرين والمجتمع
- الضابطة التي ودعت الحلم على الأسفلت
- هل تتخلى إيران عن اذرعها في العراق ضمن صفقة مع أمريكا؟
- هل تتخلى إيران عن أذرعها في العراق مقابل صفقة مع أمريكا؟
- ترامب والحرب الإسرائيلية الإيرانية: حرب إعلامية بغطاء ناري و ...
- أزدواجية المصالح عند ترامب
- أيران تكشر عن أنيابها عندما ضربت في الصميم وتفرجت عندما قتل ...
- -ما بعد الصواريخ: الشرق الأوسط بين نار الحرب وصمت الهزيمة-
- بين العناد الفارسي والخبث الأسرائلي كيف تنتهي الحرب بينهما؟
- بين الشراكة والخذلان الموقف الروسي أتجاه ايران
- أيران بين المعارضة والدعم الشعبي في ظل العدوان الإسرائيلي
- الشرق الأوسط بين ركام تحطيم أيران وطاولة التطبيع
- أمريكا والملف النووي الإيراني. سلطة القانون ام سلطة القوة
- صوت الشارع الأمريكي من المشاركة في الحرب الإسرائيلية الأيران ...
- هل نجحت اسرائیل في هجومها على أيران؟
- الأنحياز الأمريكي من حل الدولتين
- برد الشمال ....والدفئ المؤجل
- ماذا لو كنت انت غيرك؟


المزيد.....




- -خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
- لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا ...
- حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة ...
- التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...
- الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
- أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين ...
- 75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا ...
- قوى الرعب لجوليا كريستيفا.. الأدب السردي على أريكة التحليل ا ...
- نتنياهو يتوقع صفقة قريبة لوقف الحرب في غزة وسط ضغوط في الائت ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رحيم حمادي غضبان - أمي ثم أمي