أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي














المزيد.....

القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 11:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يُعد علم الكلام أحد أبرز تجليات العقل الإسلامي في سعيه لفهم العقيدة والدفاع عنها، وقد استلهم هذا العلم كثيرًا من جذوره التأسيسية من النص القرآني ذاته، لا بوصفه مجرد مرجع تعبّدي، بل كينونة ناطقة بالفكر والنقاش العقلي والجدل الحواري. فالقرآن الكريم، ومنذ بدايات نزوله، لم يكن خطابًا ميتافيزيقيًا مغلقًا، بل جاء منفتحًا على قضايا التوحيد والنبوة والمعاد، مخاطبًا العقول ومحفزًا على التأمل والنظر. لقد كان العقل في القرآن مقرونًا بالإيمان، والتفكر سبيلًا إلى اليقين، والبرهان أداة في مواجهة الشك والمجادلة. فالآيات التي تقول: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، و*"أفلا تعقلون"، و"أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"*، لم تكن عبارات بلاغية، بل دعائم تأسيسية لثقافة عقلية دينية تحفّز على التدبر والنظر العقلي في أصول الدين.

من هذا الأساس، لم يكن علم الكلام وليد الاحتكاك بالفلسفة اليونانية كما يروّج بعض الدارسين، بل هو امتداد طبيعي للروح الجدلية والنقدية التي بَثّها القرآن في الوجدان المسلم منذ اللحظة الأولى، والتي فرضت نفسها في وجه التحديات الفكرية والدينية التي واجهها المسلمون. ولما تعددت الأسئلة واشتدت المناظرات، انبثقت فرق كلامية حاولت كل منها أن تؤسس بنيانها العقدي اعتمادًا على قراءة مخصوصة للنص القرآني، توظفه لخدمة تصورها الخاص عن التوحيد، والعدل، والنبوة، والقدر، وصفات الله.

ومن أوائل هذه الفرق، برز المعتزلة، الذين جعلوا من العقل مرجعًا رئيسًا، ولكنهم لم يهملوا القرآن، بل استندوا إليه تأويليًا لإثبات أصول مذهبهم. فقد رأوا في آيات مثل "وما ربك بظلام للعبيد" و*"إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً"* تأسيسًا لعدالة الله ومبدأ الاختيار الإنساني، ورفضوا القول بالجبر، معتبرين أن تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله هو شرط ضروري للعدل الإلهي. كما أن آية "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" كانت لديهم دليلاً قاطعًا على نفي التجسيم والتشبيه في حق الله، مما قادهم إلى تأويل الصفات الخبرية بما يتفق مع التنزيه والعقل.

وفي المقابل، سلك الأشاعرة طريقًا وسطًا بين النقل والعقل، فجعلوا القرآن منطلقًا ثابتًا لعقيدتهم، مع تأويل النصوص التي توهم التشبيه دون نفي الصفات. فآيات مثل "الرحمن على العرش استوى"، و*"يد الله فوق أيديهم"*، فُسّرت لديهم بطريقة تنفي التجسيم مع إثبات المعنى اللائق بالله من غير تمثيل ولا تعطيل، أي على طريقة "الإثبات بلا كيف". أما في مسألة أفعال العباد، فاستندوا إلى قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" لإثبات أن الله خالق لكل شيء، بما في ذلك أفعال البشر، لكنهم لم ينفوا مسؤولية الإنسان، بل صاغوا نظرية "الكسب" التي تحاول التوفيق بين الخلق الإلهي والاختيار الإنساني. وهكذا وظّف الأشاعرة القرآن بأسلوب تأويلي يحفظ سلطة النص وحرمة التنزيه مع احترام الاعتبارات العقلية.

أما الشيعة الإمامية، فقد قرأوا النص القرآني من زاوية عقيدتهم في الإمامة، فكانت آيات مثل "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" دليلاً على ولاية الإمام علي، كما تمسكوا بآية التطهير: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" لإثبات عصمة أهل البيت. واعتمدوا كذلك على تأويل باطني للآيات يربط المعنى الظاهري بدلالة روحية أعمق تؤسس لفكرة الإمامة والعصمة كامتداد للنبوة. ومن هذا المنطلق، لم يكن التفسير عندهم مجرد شرح لغوي أو تاريخي، بل أداة لتأكيد معاني غيبية وسلطة دينية متصلة بالإمام.

يتضح من ذلك أن الفرق الإسلامية الكبرى، على اختلاف مناهجها وتباين مرجعياتها العقلية والنقلية، قد وجدت في القرآن الكريم منجمًا غنيًا بالمعاني العقدية، وانطلقت منه لتشييد بنائها الكلامي، وإن اختلفت مسالكها في التأويل والفهم. لم يكن القرآن مجرد نص مرجعي، بل كان حقلًا معرفيًا مفتوحًا استثمرته كل فرقة بحسب رؤيتها للوجود والإله والإنسان. وبين من فسّره بالعقل الخالص، ومن أحاطه بسياج التنزيه، ومن قرأه من بوابة الإمامة، ظل القرآن هو القاسم المشترك، والمصدر الجوهري الذي شكّل النواة الفكرية الأولى لعلم الكلام الإسلامي.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط
- صعود المؤثرين: قادة الرأي في زمن الخوارزميات


المزيد.....




- زيلينسكي يكشف عن مباحثات مع ترامب لعقد -صفقة ضخمة- تشمل طائر ...
- دبلوماسيون غربيون كانوا على مقربة من وزارة الدفاع السورية لح ...
- عشائر بدوية تشن هجوما بالسويداء واتهامات لمجموعات محلية بارت ...
- لماذا أصبح النوم عزيزا رغم توفر وسائل الراحة؟
- محللون: ما يجري بالمنطقة تفكير جنوني بطور التنفيذ وهذه خيارا ...
- محافظة السويداء.. معقل الموحدين الدروز في جنوب سوريا
- الرئاسة السورية: قطر والسعودية وتركيا أكدت للشرع دعم وحدة سو ...
- رئيس البرازيل لـCNN: ترامب -لم يُنتخب ليكون إمبراطور العالم- ...
- الولايات المتحدة: عارضنا الضربات الإسرائيلية في سوريا
- تنديد أممي بمقتل عشرات المدنيين في كردفان


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي