ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 23:59
المحور:
الادب والفن
تحتلّ الكتابة الاعترافية في الأدب العربي المعاصر مساحة متنامية، تُمثل تزاوجاً بين السرد الذاتي والتأمل الفلسفي، وغالباً ما تكشف عن هشاشة الكائن واندفاعه إلى الإضاءة الداخلية في ظلّ واقع خارجي مضطرب. فالاعتراف السردي المفتوح في رواية "الهروب إلى الظل" للروائي المصري "فريد عبدالعظيم"، مبني على خطاب مباشر موجه إلى امرأة تُدعى "حياة"، في تقاطع رمزي دقيق بين الاسم والمفهوم. فهو لا يحكي قصة حب، بل يُعيد تركيب سيرة ذاتية تُعاد كتابتها من منظور الخسارة والانتصار، من داخل الألم والخوف. فقبلة لم تحدث، هي تعبير مجازي عن نقص التواصل والصراحة بين بهيج وحياة، المرأة الجريئة التي تميل إلى الصدق المباشر، وربما تخاف من الالتزام العاطفي. ترى أن عدم التقبيل هو مؤشر على خوف من الحب الحقيقي. تمثّل جانب الحذر والرفض، وربما عدم الرغبة في علاقة عاطفية تقليدية. أما بهيج، فهو رجل في منتصف العمر أو أكثر (مع ذلك لا يمكن وصف الرواية بأدب الشيخوخة). بهيج، الكاتب المهمل، المتروك في زاوية النسيان، هو الوجه الآخر لفريد حداد. أحدهما قُتل في السجن، والآخر بالمجتمع والنسيان. نعيش معه أزمة الشيخوخة، وتلاشي المكانة، والتهميش في الثقافة والسياسة، وهو ما يعكس فكرة الإنسان المهمَّش في المدينة المعاصرة. فماذا عن الحب المتأخر والخيبة العاطفية؟ وماذا عن فريد الذي كان طبيباً ثم أصبح رقماً في تقرير وفاة؟ وهل كان بهيج كاتباً ثم صار طيفاً على فيسبوك؟
في هذه الرواية، يتقاطع الحنين العاطفي مع الحنين السياسي. فالرغبة في الحب ليست فقط حنيناً للجسد أو للحميمية، بل بحث يائس عن تعويض المعنى الضائع. لكن هذه العلاقة لا تكتمل، تماماً كما لم تكتمل أحلام الرفاق، ولا كتابة الرواية، ولا عودة فريد. كأن الراوي يقول: حتى الحب لا ينجو في ظل واقع منهار. فالرجل الذي أنهكه الزمن وجد في الكتابة خلاصاً من الوحدة، من السعال، من خواء الصحافة، ومن ثقل الذاكرة. كأن الراوي يكتب وهو يضع قلبه على الورق. يحاور "حياة" لا بوصفها امرأة فقط، بل بوصفها ملاذاً، خلاصاً من عالم لم يعد يفهمه ولا ينتمي إليه. فالجملة الافتتاحية «اليأس عادة، والأمل ابتكار» مفتاحٌ لفهم الرواية. هي وعد بمغادرة السكون، والهروب من عادات القبول بالقبح إلى مواجهة الواقع بجرأة الكتابة.
ما يستحق تأملاً جيداً في هذه الرواية هو ثنائية حياة ونهى؛ فـ"حياة" هي الحب المُتأخر الحميم، الواقعي، فيما "نهى" كانت الحلم الثوري الذي اصطدم بجدار الواقع. كلاهما منحاه دفقة من الأمل، كلٌّ بطريقتها، وحين رحلتا -ولو لفترة- صار كمن تُرك وحيداً وسط العاصفة. فالمشاعر التي يحملها الراوي لا تقل عمقاً عن مشاعر شاب، بل تتجاوزها نضجاً وصدقاً. هو رجل في أواخر العمر، لكنه يحب بصدق طفل. "للأسف عدت للتفلسف"؛ وهي جملة تلخص صراعه بين عقل ناقد وقلب هش. فهل السرد صادق بلا تزييف؟ ولا يحاول الراوي أن يجمل نفسه؟ بل يعترف بجبنه وحنينه وضعفه؟
ما بين البساطة والعمق، وضعنا الروائي "فريد عبدالعظيم" أمام خلفية اجتماعية واضحة تتحدث عن تغيّرات المجتمع، الهجرات الداخلية، وأثر ذلك على الفرد والعائلة. فوصفه لتحول الحي القديم إلى مبانٍ حديثة فاقدة للروح يعكس واقعاً مألوفاً في كثير من المدن، ويضيف عمقاً للتجربة الشخصية. فالعلاقة بـ"حياة" تمثل مساحة للمقاومة الشخصية ضد الانطفاء. لكن حتى هذه المقاومة تنهزم. نرى الحب كعاطفة حالمة، بل كملاذ أخير لإنقاذ ما تبقى من الذات. الحب لا يكتمل، لأنه مشروط بالخوف، والتاريخ، والعجز الجسدي، والمجتمع. كما يتردد سؤال الوجود بأشكال مختلفة: من أنا؟ أين ذهب زملائي؟ من يذكر فريد؟ هل يتذكرني أحد؟ وكأن السارد أصبح مجرد صورة على فيسبوك، يلهث وراء تعليق أو مشاركة، وكأن الهوية نفسها مرهونة بعدّادات رقمية.
فالزمن السردي غير خطيّ، يتحرك بين الحاضر الآني "جلست على طرف السرير"، واسترجاعات ماضية "كنتُ خائفاً من أن نُحب بعضنا ونموت"، واستشراقات مستقبلية مرتبكة "عندما يأتي سيكون قد فات الأوان". هذه الحركية الزمنية تخلق إيقاعاً سردياً داخلياً يوائم بين الفقد والاستعادة. فهل يمكن للحب أن يكون خلاصاً في لحظة يهددها المرض والموت؟
مزيج من السرد التأملي والنثر الشعري، بلغة رصينة، لا تتعالى على القارئ، ولكنها لا تفرط في التبسيط. يوجد توازن بين التفصيل السردي والحس اللغوي الرقيق، خصوصاً في مشاهد الحب، السجن، أو التأملات الذاتية. أما تقنية التقديم والتأخير فقد استُخدمت بمهارة. تبدأ القصة من منتصفها تقريباً، وتُكشف التفاصيل لاحقاً، ما يخلق تشويقاً ويدفع القارئ للاستمرار.
التدرج في كشف شخصية فريد، وزواجه، ثم الاعتقال، ثم خيبات الحياة اللاحقة، صنع نسقاً سردياً متماسكاً. كما أن صوت الراوي حاضر بقوة، بصراحته وتردده وتقلباته، ما يمنحه عمقاً إنسانياً، ويخلق علاقة حميمية مع القارئ. كما أن هناك حضوراً للأصوات الأخرى (ولاء، هادي، الشباب في المقهى)، مما يمنح النص تعددية بصرية وصوتية.لكن ماذا عن الرموز والدلالات؟
"فريد" و"فؤاد": شخصيتان محوريتان، الأولى تنتمي إلى الطب والعلم، والثانية إلى الشعر والفكر، وكأنهما يجسدان الجناحين اللذين يحاول بهما المجتمع التحليق — الرعاية والفكر. "إيدا": ليست فقط الحبيبة، بل رمز للحبّ البريء الذي اصطدم بجدران السياسة والمآسي. زواجها المبكر، ولادتها لطفل في غياب الأب، وانهيار الحياة المشتركة، كل ذلك يمثل تمزق الحلم الشخصي أمام طاحونة الواقع. "فيلا سليم بيك": تمثل السلطة العائلية والتراتبية الاجتماعية، لكنها أيضًا الحاضنة الأولى للوعي والمعرفة والتمرد ، وهي مكان يجمع النقيضين: الاحتواء والطرد. كما أن المقهى والصالون الثقافي هما رمزان لمشهد الثقافة المعاصرة: التقليد، الاستغلال، تسليع الإبداع، وفقدان الأساتذة الحقيقيين. مقهى "عنبة" مقابل "خليفة" و"الوردة" يوحي بحالة انتقال جيل شاب يحاول أن يصنع صوته الخاص.
لغة محمّلة بإرث ثقافي هائل (من فؤاد حداد إلى هيكسلي)، لكنها ليست استعراضية. قد يشعر الناقد، وليس القارئ، بالاقتصاد اللغوي في بعض المقاطع، يقابله إسراف تأملي في مقاطع أخرى. هذا التفاوت يعكس تشظي الشخصية أو الراوي، ويجعل من السرد فعل كتابة عن الكتابة وتأملاً في جدواها.كما أن الحوارات، وإن بدت عفوية، تحمل تناصاً داخلياً مع خطاب الهزيمة الثقافية المعروف في الرواية العربية. كما أن اللغة أيضاً تمزج بين العذوبة الشعرية والحدة التقريرية، وتتّكئ على الجمل الطويلة المحملة بالتوتر الداخلي، وأحياناً تتعمد المراوغة والانكسار الدلالي، لتعكس شعور الراوي المتردد والمأزوم: "لا أعرف يقيناً يا حبيبتي هل فشلت في كتابة روايتي".
"لم أستطع لفترة مصارحتك بالأمر بسبب الصورة، ذلك البرواز الصغير". إذ تتجلى اللغة ككائن حي، يئن ويتهدج ويتلوى، مما يمنح السرد صدقه الفني وعمقه الإنساني، وسلاسة عفوية، فالكتابة كأنها نهر داخلي، كلها توثق مشاعر بصرية قوية: "قلبه يخفق كالصاروخ". هذه الجدلية تمنح الرواية صدقها وتضع القارئ في موضع المشاركة لا المراقبة.
فهل لقاء بهيج داوود مع الجيل الجديد يجمع بين الحنين والتجديد الثقافي؟ وهل تفتح الرواية نافذة معقدة حول التفاعل بين الأجيال، والتحديات التي تواجه الثقافة والأدب في عصر الإنترنت، إلى جانب واقع النضال السياسي والاجتماعي؟ أم هي تحمل صدى تحولات المجتمع المصري ما بعد 2011؟
أحد المحاور الأساسية في الرواية هو الصراع أو التوتر بين الأجيال، حيث يمثل بهيج داوود حالة المثقف القديم المنغمس في تاريخ طويل من النضال الثقافي والسياسي، في حين يجسد الشباب حالة التغيير والمواجهة الجديدة.هذا التوتر لا يقتصر فقط على اختلاف الأفكار، بل يشمل أيضاً مواقفهم من القراءة، الأدب، والواقع السياسي. فالشباب في الرواية يظهرون متحمسين وجرئيين، لكنهم في بعض الأحيان يبدون سطحيين في فهمهم العميق للتاريخ الثقافي والسياسي، وهو ما يعكس فجوة معرفية تتطلب جسراً ثقافياً.
فهو لا يهاجم الشباب، لكنه يعبر عن مخاوفه من ضياع الميراث الثقافي والتاريخي، وفي ذات الوقت يلمّح إلى أمل في إمكانية التفاهم والتكامل. كما أنه يتناول تأثير التكنولوجيا على الأدب والثقافة، حيث يعبر بهيج داوود عن حالة تضارب بين القراءة التقليدية وحالة الانتشار السريع للمحتوى الرقمي، الذي يعدّه أحياناً سطحياً، لكنه لا ينكر وجود حركة ثقافية جديدة نشطة.
هذا يعكس سؤالاً معاصراً مهماً حول كيف يمكن للأدب أن يتكيف مع المتغيرات الرقمية دون فقدان عمقه. وماذا عن النضال السياسي وأثره على المثقف؟ وهل من تشكيك عميق في قدرة الثقافة والفن على تغيير الواقع الشعبي؟ وهل جملة "لم يغنِ الفلاحون في قراهم تلك الأشعار" تبرهن على ذلك؟
يمتدّ النقاش في جزء من الرواية ليشمل المشهد السياسي المصري، حيث يواجه المثقف تحديات كبيرة في ظلّ الأوضاع القمعية، والظاهرات ضد التوريث السياسي، مما يؤثر على أدوار المثقفين ويضعهم في مواقف معقدة بين الخطر والاستسلام.فشخصية "نهى" وزوجها يُبرزان هذا التوتر بشكل واضح؛ إذ تمثل نهى التضحيات التي تُضطر إليها المرأة المثقفة، وزوجها مثالاً على الاستمرارية في النضال رغم الخيبات. فالفهم العميق لتعقيدات الواقع السياسي وتأثيره على المشهد الثقافي يجعلنا نكتشف كيف أن المثقف يعيش حالة اغتراب بين رغبة التغيير وخوف الفشل.
إذ يستعرض في هذه الرواية النفسية تفاصيل دقيقة لحالة بهيج النفسية، مشاعره، تأملاته الداخلية، تناقضاته كرجل كبير في السن، قوي وضعيف في آن. وتبدأ كرسالة حميمية حوارية، تُخاطب "حياة" بصيغة المتكلم، وتشبه مذكرات اعترافية غير منظمة، ليتحوّل السرد إلى مآسٍ كاعتقال الكاتب، عزله، ثم الابتعاد الاختياري، ثم الانطلاقة نحو الحرية الداخلية. هذا الانسجام العاطفي يختبر توتراً داخلياً قوياً يدفع بالقارئ نحو البُعد الدرامي المكثّف. كما أن الاعتقال ليس عابراً، بل حدثٌ فاصل في بنية الراوي النفسية. هو امتحان للضمير والهوية، يقول: "أخرجتُ من السجن أكثر قوة، وأقل غضباً، وأقل استعداداً للمهادنة".
هذا التحول يعكس نضوجاً أخلاقياً لا سياسياً فقط، ويمنح النص بُعداً تأملياً بعيداً عن الخطابة. فالرواية لا ساخرة ولا حتى غاضبة، بل أشبه بندبة على جسد ذاكرة وطن. وفي لحظات في النهاية تصبح نشيداً جنائزياً لكثير من القيم المنسية كالشجاعة، والحب النقي، والتضحية، والعدالة. كما أن الجانب الإنساني والحميمي المتمثل بين الكاتب ومنصورة في صورة الحنان والاهتمام، وكأنها الابنة التي لم يمتلكها الكاتب.
فالرواية ليست مجرد سرد لحكاية فريد حداد أو بهيج أو حياة، بل هي تفكيك سردي لمرحلة من الخسارات الجماعية والفردية. إنها تنتمي إلى أدب "ما بعد الهزيمة"، حيث لم تعد البطولة ممكنة، ولا حتى السرد المنتظم. فكل شيء متشظٍ ومكسور وبتحدٍ نقدي. إذ كيف يمكن للأدب أن يُكتب في زمن اللامعنى؟ وكيف للذاكرة أن تكتب نفسها إن كان الماضي نفسه متهماً؟
طرابلس - لبنان يوم الجمعة في 4 حزيران الساعة العاشرة مساءا
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟