ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 14:13
المحور:
الادب والفن
يكشف فيلم حياة غير مكتملة عن أوجاع نفسية تخلفها الأحداث التي نخسر فيها أحد الأبناء، ونفارق بعدها الأحفاد، دون أن ندرك قيمة وجودهم في حيواتنا وجمالها. ففي زمن تهيمن فيه الصور على الإبهار البصري، والقصص المتشابكة، والنهايات الملتوية، يبرز فيلم حياة غير مكتملة (An Unfinished Life) كمفارقة صارخة عن تفاصيل قد تبدو للبعض تقليدية في دراما بسيطة، مكشوفة، لكنها وبشكل غريب تجعلك هادئاً، مترقباً، مقيّداً في قصة بين رجلين، أحدهما مقعد، والآخر يخدمه بعد أن خسر ابنه في حادث، ورحلت زوجة ابنه وحفيدته لمدينة أخرى، وتقع فريسة العنف من عشيق يضربها أمام ابنتها، فتقرّر بعدها العودة لوالد زوجها لحماية ابنتها من رجل لا يخجل من كونه معنّفاً للمرأة.فهل يصعب الغفران؟ أم أن الدم يفور عندما تتعرض حفيدته لقسوة حبيب أمها؟
فيلم للمخرج لاسي هالستروم، تلتقي فيه حياتان منفصلتان منذ وفاة غريفين مرة أخرى، في بلدة صغيرة بالقرب من ولاية وايومنغ. يتكشف العنف – سواء العاطفي أو الجسدي – على خلفية بصرية رائعة لجبال تلف البيوت. إينار جيلكيسون (روبرت ريدفورد)، يرتدي قمصان الفلانيل التقليدية لرعاة الجبال، وقد انسحب إلى داخله وترك مزرعته في حالة إهمال. إينار غاضب من العالم، وبشكل خاص من زوجة ابنه، جين (جينيفر لوبيز)، التي يلومها على وفاة ابنه. في الواقع، إينار غاضب جدًا لدرجة أنه يرفض كل ما يتعلق بها. كعدالة حياتية، يُجبر على رعاية صديقه القديم، العامل في المزرعة ميتش برادلي (مورغان فريمان)، الذي تعرض لهجوم دب منذ عام وأصبح الآن عاجزاً، لكنه لطيف وحكيم وذو بصيرة، ولديه القدرة على دفع الشخصيات إلى خلاصها الخاص.
من أول مشهد إلى آخر لقطة، كل شيء فيه متوقّع: رجل عجوز غاضب، امرأة هاربة، طفلة تبحث عن جد، صديق مخلص مقعد، ودب عاد من الماضي ليُذكّر الجميع بما لا يمكن نسيانه. لكن ما يجعل حياة غير مكتملة فيلماً يستحق النظر، ليس ما يقوله، بل كيف يقوله.
يأخذنا الفيلم إلى ريف وايومنغ القاسي، حيث يعيش إينار جيلكيسون (روبرت ريدفورد) حياة يابسة كالأرض من حوله، يرفض العالم، يرفض الغفران، ويعيش على بقايا ذكرى ابنه الذي فقده قبل 11 عاماً في حادث سيارة. الذنب، كما يرى، يقع كله على عاتق جين (جينيفر لوبيز)، زوجة ابنه، التي غفت أثناء القيادة. ثم تعود جين فجأة، ومعها غريف، حفيدة لم يعرف إينار بوجودها قط. لكن عودتها ليست بطولية، بل هاربة من عنف شريكها الجديد، من ماضٍ لم تتجاوزه، ومن صورة امرأة لا تزال تعتقد أنها لا تستحق أن تُحب.
إلى جانب هذا الثالوث العائلي المتصدّع، يقف ميتش (مورغان فريمان) رجل نجا من هجوم دب، لكنه لم ينجُ من آلامه. هو الضمير الحي في هذا المكان الميت، المُربك بحكمته، الهادئ رغم الجراح، والوفي في زمن الجفاء. العلاقة بينه وبين إينار هي القلب النابض للفيلم، حوار بين رجلين يعرفان بعضهما أكثر مما يعرفان أنفسهما، ومع ذلك لا يزال بينهما ما يُقال.
يترجم الفيلم غاياته، وهي: الغفران موجِع كالتئام العظام؛ حتى الحيوان يصعب عليه الغفران، في المشهد ما قبل النهاية، والدمع في عين الدب يترقرق. هو فيلم بطيء، نعم. ولكن هذا البطء ليس عيباً، بل جزء من التجربة. كما أن الحزن لا يزول في لحظة، والغفران لا يُمنح بجملة، فإن التغيير في حياة غير مكتملة يأتي كقطرات ماء تنحت في الصخر، لا كعاصفة تطهّر كل شيء دفعة واحدة.
الأداء التمثيلي لا تكلّف فيه ولا بذخ في المشاهد، وحتى الموسيقى تشعر أنها خرجت من المكان، وهذا مفتاح أساسي في هدوئه. ريدفورد، أخيراً، لا يحاول أن يكون وسيماً أو بطلاً. وجهه الغاضب والمليء بالندم يتحدث بصمت أكثر مما تقول كلماته. فريمان، كعادته، يقدّم أداءً عميقاً بلا استعراض. المفاجأة الحقيقية؟ جينيفر لوبيز، التي تخلّت في هذا الفيلم عن وهج النجومية وقدّمت دوراً متماسكاً، هادئاً، يليق بها ، بأسلوب المرأة المعنّفة التي ترفض الاستمرار في العيش مع رجل ترك آثار الضرب على جسدها.
لكن رغم كل هذا، لا يمكن إنكار أن الفيلم يقع أحياناً في فخ الرمزية السطحية، ويكاد لا يحتوي على مفاجأة سردية واحدة. كل تحوّل نراه قادمًا من بعيد، كما نرى غروب الشمس قبل أن يلامس الأفق. فـالطبيعة لا تُواسي الحزن الذي يجعلنا نستمر في الحياة بغصّة تجعلنا نعتزل ونبتعد، حتى عن تفاصيل قد تضيف إلينا وجوداً آخر، كالحفيدة التي منحته قوة عيش إضافية. لكن المناظر الطبيعية ، السماء الواسعة، الجبال، الريف ببيوته الخشبية، وبساطة العيش ، لا تأتي هنا كرموز للأمل، بل كمرآة لضعف الإنسان. لا تبعث هذه الطبيعة على الإلهام، بل تُشعر الشخصيات، مثلنا، بضآلتها. ومع ذلك، الكل يسعى لاستكمال الحياة كما يريدها، وضمن إمكانية المكان. وربما هذا هو جوهر الفيلم الحقيقي: أن الحياة غير المكتملة لا تُستكمَل بالحلول، بل بالاستعداد لقبول النقص، وبالمشي بجانب الألم بدلًا من محاولة تجاوزه.
حياة غير مكتملة ليس فيلماً لمن يبحث عن الحبكة المفاجئة، أو النهاية الكبرى، أو الإثارة، أو حتى الأحداث المعقّدة. بل هو فيلم لأولئك الذين يفهمون أن أعمق التغييرات تحدث بصمت، وأن الغفران لا يُنتزع، بل يُمنح ببطء، وتردّد، وأحياناً بعد سنوات من الإنكار. قد لا يكون هذا الفيلم عظيماً، لكنه صادق. وقد لا يُحدث ضجة، لكنه يترك أثراً. وفي عالم يزداد صخبه، ربما هذا وحده يكفي. فهل ينتصر العنف الجيد على العنف السيئ في كل مواجهة؟ وهل الأسماء الذكورية الناعمة التي أُعطيت للشخصيات الذكورية تبدو وكأنها تؤكد رسالة الفيلم المختلطة بين تأييد السلاح والدفاع عن النسوية؟
فيلم "حياة غير مكتملة" لا يكتفي بإظهار تعنيف المرأة كحدث عابر في الحبكة، بل يجعله محركاً جوهرياً للتغيير، ويستخدمه لطرح أسئلة عميقة عن الكرامة، والغفران، والحماية، والمجتمع الذي يصمت أحياناً أكثر مما يجب. فالعنف ضد جين (التي تلعب دورها جينيفر لوبيز) لا يُعرض فقط كضرب أو تهديد، بل يُقدّم على أنه امتداد لضعف بنية العلاقات، لغياب الدعم، لتهرب الجميع من المسؤولية. الفيلم لا يصوّر جين كضحية ضعيفة فقط، بل كامرأة تحاول التماسك وسط شعور داخلي بأنها لا تستحق الحب، وهذا يُبرز مدى عمق تأثير العنف على هوية المرأة وثقتها بنفسها.
الفيلم لا يقدّم إنقاذ المرأة بطريقة بطولية أو هوليودية نمطية، بل من خلال تطور بطيء، إنساني، يبدأ من الرفض والكره، وينتهي بالتفاهم والحماية. فإينار، الجد الغاضب، لا يحتضن جين فجأة، لكنه يواجه نفسه أولًا، ثم يقف في وجه العنف، ليس من باب الشرف أو السيطرة، بل من باب المسؤولية المتأخرة. هذه نقطة مهمة: الدفاع عن المرأة لا يُصوّر كفرض رجولي، بل كتحرر إنساني من الحقد.فهل الطفلة "غريف" هي صوت غير مباشر للدفاع؟
وجود الطفلة غريف يضع الجميع أمام مرآة المسؤولية. صمتها، أسئلتها، ترددها في تقبّل أمها، ثم انجذابها لجدّها ، كلها عناصر تُظهر أن العنف لا يصيب فرداً واحداً، بل يُنتج دوائر من الألم. الدفاع عن المرأة هنا يشمل الدفاع عن الطفولة، عن المستقبل، عن ما يمكن إنقاذه قبل أن يتحطم بالكامل.في العمق، يُمكن قراءة الفيلم كرسالة ضد المجتمعات التي تعطي أسماءً "ناعمة" لرجال قساة، أو التي تغفر للرجل العنيف بسرعة بينما تُحمّل المرأة المسؤولية الأبدية عن الأخطاء. إينار نفسه مثال على هذا فهو غاضب من جين لأكثر من عقد، بينما لا يُحاسب نفسه على قسوته، حتى يواجه ذلك في النهاية.
الفيلم يدين تعنيف المرأة بهدوء لكنه بعمق، لا من خلال خطب أو مشاهد صادمة، بل من خلال كشف الأثر الطويل المدى لهذا العنف، وكيف أن النجاة منه ليست فقط بالهرب، بل بالحماية، وبالاعتراف، وبالمصالحة مع الذات. الدفاع عن المرأة في هذا الفيلم ليس مجرد فعل إنقاذ، بل فعل اعتراف بإنسانيتها، وبأنها تستحق أن تُرى وتُصان وتُحب.
الثلاثاء 24 حزيران الساعة 12 ظهرا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟