مكسيم العراقي
كاتب وباحث واكاديمي
(Maxim Al-iraqi)
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 00:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
1. المليشياوي الجذور والأدوات والمسارات في مشروع الهيمنة الإيرانية
شهدت المنطقة العربية، ولا سيما المشرق، تحولات سياسية وأمنية حادة منذ أواخر القرن العشرين، أدت إلى بروز فاعلين غير دولتيين يتجاوزون حدود الدولة القومية، وفي مقدمتهم الميليشيات المسلحة المصنعة إيرانيًا. وفي قلب هذا المشروع، تقف ظاهرة "الميليشياوي المصنّع"، وهي صورة نمطية لا تُبنى عشوائيًا، بل تُنتج ضمن منظومة متكاملة من الدعاية الإعلامية والدعم اللوجستي والسيطرة الأيديولوجية، هدفها خلق نمط بشري وظيفي قادر على تنفيذ أجندات تتعارض مع المصلحة الوطنية.
تبدأ القصة من لبنان في سبعينيات القرن الماضي، حين تأسست حركة أمل على يد موسى الصدر كإطار سياسي وعسكري يعبر عن طائفة مهمشة، لكنها تحولت لاحقًا إلى أداة إيرانية بحتة بعد اختفاء الصدر الغامض وتراجع الخط المعتدل داخلها. تداخل النفوذ السوري والإيراني فيها لفترة، لكن طهران سرعان ما سحبت البساط لتنتج نسختها الخاصة والأشد تطرفًا، وهي حزب الله، الذي تأسس رسميًا عام 1982 في سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كما تشكل جيش المهدي بعد الاحتلال الامريكي! غير أن ما بدأ كشعار مقاومة تحوّل سريعًا إلى مشروع طويل الأمد لتصدير الثورة الإيرانية عبر نموذج ميليشياوي ممأسس يجمع بين البندقية والعقيدة والاقتصاد والولاء والدعاية والمخدرات والتضليل في منظومة فاشية محترفة.
اعتمد حزب الله على الدمج المتقن بين العنف الرمزي والشرعية الدينية، فاستحوذ على تمثيل الطائفة الشيعية في لبنان بالقوة والضغط، واحتكر السردية التاريخية والدينية حول المقاومة، وأعاد صياغة الوقائع بما يتماشى مع خطابات ولاية الفقيه. لم يكتفِ بالتموضع المحلي، بل تحوّل إلى ذراع خارجية تدير شبكات عسكرية في اليمن وسوريا والعراق، وكان حاضراً في بناء وتصميم المنظومة الميليشياوية العراقية والحوثية لاحقًا.
مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وجدت إيران فرصة ذهبية لإنشاء شبكة ميليشياوية موازية للدولة ومدمرة لها، مستفيدة من حالة الانهيار المؤسساتي والطائفي. فجاءت منظمة بدر، التي كانت جزءًا من فيلق القدس الإيراني خلال الحرب العراقية الإيرانية، لتدخل إلى العراق كقوة منظمة ومستعدة للانخراط في العمل السياسي والأمني، فتم دمجها داخل الجيش والشرطة وفق قانون بريمر لدمج المليشيات سيء الصيت، ثم انشطرت إلى خلايا جديدة صنعت فصائل أخرى تعمل على ذات النسق، وتحت ذات القيادة.
لكن لحظة التحول الأبرز جاءت مع تأسيس "جيش المهدي" على يد ايران عام 2003 وتحت قيادة شكلية لمقتدى الصدر، الذي ورث عن والده نفوذاً شعبياً ضخماً في اوساط المهمشين الجهلاء بسبب الحصار والحملة الايمانية لصدام واتجهيل والفقر والمرض لكنه بلا هيكل تنظيمي حقيقي ومنخور نخرا طولا وعرضا ويضم الساقطين والفاسدين والقتلة. إيران تدخلت حينها لتأطير الحركة وفق احتياجاتها الاستراتيجية، فدعمت تسليحها، وشكّلت لها خلايا خاصة داخل وزارة الداخلية والأمن الوطني بعد ذلك وغيرهما.
جيش المهدي، الذي نشأ كمقاومة للاحتلال الأمريكي، تورط لاحقًا في صراعات طائفية واعمال اجرامية ضد موسسات الدولة وعناصرها لمنع تشكل دولة قوية، وتحوّل إلى بيئة حاضنة لإنتاج ميليشيات ايرانية فرعية لا تعد ولا تحصى، بعضها انفصل عنه تنظيميًا لكن بقي مرتبطًا عقائديًا وماليًا بطهران.
بعد صدامات البصرة في 2008 وتفكيك جيش المهدي رسميًا، تم إطلاق عملية إعادة تنظيم تحت مسمى "لواء اليوم الموعود"، الذي لم يكن سوى غطاء مرحلي لإعادة هيكلة المشروع الميليشياوي. وبحلول 2014، مع فتوى "الجهاد الكفائي"، ظهرت قوات الحشد الشعبي التي جمعت تحت مظلتها معظم التشكيلات الشيعية المسلحة، وكان أغلبها امتدادًا لجيش المهدي أو بدر – من خزان جيش المهدي- وبادارة الحرس الثوري بشكل مباشر. هذه التكوينات لم تكن تلقائية أو عفوية، بل هي نتائج هندسة إيرانية دقيقة تستفيد من كل انقسام سياسي، وكل فراغ أمني، وكل لحظة ضعف في الدولة.
الميليشياوي المصنّع في هذا السياق ليس مجرد فرد مسلح، بل هو منتج نهائي لمعامل متكاملة تضم وسائل الإعلام الموجهة، والفضائيات الدينية والسياسية، والمنابر الطائفية، والشركات الاقتصادية التي تمول وتغسل الأموال، والمؤسسات الأمنية التي تجنّد وتحمي وتغض الطرف.
المليشياوي يُظهر في الصورة المصطنعة على أنه بطل مقاوم، مفتول العضلات، عظيم اللحية مع ملابس عسكرية وبيريات حمر او عمائم او كاسكيتات ويتحدث بلغة التضحية والفداء والدين والمذهب والحق والعدل والمقاومة ، لكنه في جوهره وكيل لمشروع أجنبي، متورط في جرائم منظمة، يرتبط بسوق الدعارة، وتجارة السلاح والمخدرات وتقويض الاقتصاد والامن والمجتمع، وتزييف الانتخابات، وبيع بطاقات الناخبين، والعمل كوسيط صفقات بين الدولة العميقة والاحتلال الناعم.
لا يتكاثر هذا النموذج إلا في بيئة يغيب فيها العقل ويهيمن فيها الجهل، حيث تصبح منابر الكذب والدجل، التي تزيف التاريخ وتدّعي احتكار الحقيقة، هي المرجعية الوحيدة. وحين تُسقط مدينة كالموصل، يخرج الإعلام الايراني ليصنع اكبر كذبة في تاريخه ليقول إن إيران أنقذت العراق، متجاهلاً المعطيات العسكرية والفساد والخيانات، ومن ثم الدور الامريكي والفرنسي الحاسم ودور القوات المسلحة العراقية الابرز والدعم الخارجي للحكومة العراقية ليعيد تدوير كذبة جديدة عبر شعارٍ آخر، في حلقة لا تنتهي من التزييف المنهجي.
عرضت دول كثيرة المشاركة في الحرب ولكن ايران رفضت وهي التي تامر حكومات العاهات العراقية ونشروا دجلا عن فتح مخازن ايران للقوات العراقية ولكن الحقيقة ان ايران باعت سلاحها وعتادها القديم للعراق باغلى الاثمان وبعضه لايتسق مع السلاح العراقي مثل مدافع الهاون كما ان ايران وبرزان قد نهبوا معدات وعتاد ومصانع الجيش تحت انظار الامريكان عام 2003 وبعده ولم تكن هناك اي ميزانية في عام 2014 ولاحسابات ختامية بعد ان فرهدها ابطال الرهبر في العراق وعلى راسهم المالكي الضرورة.
هكذا تتحول الميليشيا إلى دولة داخل الدولة، والدولة إلى واجهة فارغة يديرها مدير عام عند الاطار وايران مثل المختل الكذوب شياع صبار السوداني ، ويصبح الميليشياوي هو "المواطن النموذجي" في خطاب الطغيان والاستهتار والدجل، بينما الحقيقة أن من يحكم هو نظام كذب منسق، يتحدث باسم الدين، ويقتل باسمه، ويخدع الجمهور بشعارات المقاومة بينما هو يبيع الوطن والكرامة والسيادة في سوق السياسة الدولية.
2. من الشاه مرورا بخميني إلى خامنئي: جغرافيا الميليشيا ومقتل القادة من موسى الصدر إلى الصدر الاول والثاني
قبل الثورة الإيرانية عام 1979، لم تكن طهران معنية بتصدير المذهب أو دعم الفصائل المسلحة الطائفية في المشرق، بل كانت دولة ملكية موالية للغرب تبحث عن الاستقرار على حدودها او مابعد ذلك. مع ذلك، فإن الشاه محمد رضا بهلوي استثمر سياسيًا في زعامة الإمام موسى الصدر داخل الطائفة الشيعية اللبنانية، خاصة أن الأخير مثّل نموذجًا معتدلًا، حركيًا، ويحمل مشروعا اجتماعيًا واضحًا. كانت حركة "الحرمان" التي أسسها الصدر، وتحوّلت لاحقًا إلى "حركة أمل"، بمثابة مظلة شعبية للطائفة الشيعية في لبنان. لم تكن ذات طابع مسلّح في بداياتها، بل تمحورت حول التنمية والتعليم وتأكيد الهوية، ضمن إطار وطني لبناني، الأمر الذي لم يُرضِ صُنّاع الثورة الإيرانية لاحقًا.
اكلت تلك الحركات من جرف اليسار اللبناني واليسار العربي لصالح قوى الاستعمار العالمي الجديد.
مع نجاح الثورة الإيرانية بقيادة الخميني، دخلت إيران في مرحلة جديدة تمامًا. أصبحت "الهوية الشيعية" أداة سياسية عابرة للحدود. موسى الصدر، رغم كونه رمزًا شيعيًا، لم يكن تابعًا لمشروع ولاية الفقيه، بل كان ناقدًا صريحًا للتشيّع السياسي الإيراني، ومعارضًا بشكل ما لتحويل الشيعة العرب إلى وكلاء لطهران. حين زار ليبيا عام 1978، بدعوة من معمر القذافي، دخل في خلاف سياسي وفكري حاد معه، وتقاطعت إرادة القذافي مع مصلحة الخميني في التخلص من رجل يُمثل مشروعًا بديلاً للثورة الإسلامية الإيرانية داخل البيئة الشيعية العربية. وهكذا اختفى الصدر في ليبيا في ظروف غامضة، وسط تقارير واسعة تفيد بتواطؤ بين مخابرات القذافي والثورة الإيرانية الناشئة، بهدف "تفريغ الساحة" لحركة أصولية بديلة: حزب الله.
وفي العراق، شكّل المرجع محمد باقر الصدر خطرًا من نوع خاص على الخميني. لم يكن خصمًا فكريًا فقط، بل كان زعيمًا كاريزميًا واسع النفوذ، يملك امتدادًا شعبيًا في العراق وربما الخليج، وكان يؤمن بولاية الأمة بشكل ما لا ولاية الفقيه، ما جعله في تناقض جوهري مع العقيدة السياسية للثورة الإيرانية.
وقد طردت ايران مرجعية الصدر في ايران وباشرت حرب اعلامية ضده باعتباره عميلا لصدام!
ان ايران كما سيثبت التاريخ هي من قتلت الصدر الثاني كما قتلت الصدر الاول لزيادة حدود الدم حيث قام الخميني بارسل برقية عبر البريد الرسمي العراقي المراقب, بان على الصدر الاول ان يبقى في العراق لقيادة الثورة! مما ادى بصدام لاعتقاله واعدامه!
عقب سقوط بغداد في 2003، ورث مقتدى الصدر زعامة تيار أبيه في النجف، دون مؤهلات علمية أو مؤسساتية. وشكل "جيش المهدي" بتدبير ايراني من اجل الاستيلاء على السلطة وارسال سفراء للخارج كما قال, وكرد فعل على الاحتلال الأمريكي، وكمظلّة شعبية للفقراء والمهمشين. إيران سارعت إلى اختراقه، إذ رأت فيه فرصة لبناء "خزان ميليشياوي" يمكن استخدامه في العراق لاحقًا، كما فعلت مع استخدام حركة امل كخزان لحزب الله بتدابير جهنية مخابارتية مافيوية!
كما تم استخدام حزب الله في لبنان عبر وكلائها داخل العراق،وقامت طهران ايضا بإدخال عناصر من فيلق القدس في بنية التنظيم، ودربت المقاتلين في معسكرات إيرانية وسورية، كما سلّحت التنظيم بأسلحة متطورة، وهو ما جعله يتمدد بسرعة بعد تنفيذه حملات قتل وخطف شملت الجميع.
ولكن بعد اشتباكات النجف والبصرة، أُضعف التنظيم، وأُجبر على تجميد عملياته، فتدخّلت إيران لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأسست "لواء اليوم الموعود" كبديل هيكلي مؤقت، ثم تمّت تصفية الجناح العسكري غير المنضبط، ودمج العناصر الولائية في فصائل أخرى مثل عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، سرايا الخراساني، وغيرها، لتنشأ لاحقًا الميليشيات الولائية التي أصبحت تُشكّل أغلب الحشد الشعبي اليوم.
وعاد ايضا جيش المهدي مرة اخرى تارة يجمده مقتدى وتارة يسخنه بالشخاطة كما قال!
وبعد أن تمكّنت إيران من تثبيت حزب الله كقوة سياسية وعسكرية في لبنان، تم تكليفه بمهمات خارج الحدود. في اليمن، حيث كانت جماعة الحوثي تعاني من الحصار والعزلة، تدخّل حزب الله كـ"مهندس عسكري – عقائدي"، فتم نقل الخبرات من جنوب لبنان إلى صعدة. أُنشئت خلايا اتصالات ومراكز تدريب بإشراف لبناني وتمويل إيراني، وتم فتح خطوط تهريب عبر البحر الأحمر. حزب الله لم يكن وحده فاعلًا، بل استفاد من الأموال العراقية المنهوبة، التي تم تحويل جزء منها عبر شبكات غسل الأموال المرتبطة بميليشيات الحشد الشعبي ومصارف عراقية وشركات واجهة. تلك الأموال استخدمت لتمويل المجهود العسكري الحوثي، ضمن استراتيجية إيرانية تسعى لمحاصرة السعودية وتوسيع نفوذها الإقليمي.
ومنذ 2003، نُهبت مئات المليارات من خزينة العراق عبر صفقات وهمية، ومشاريع فاشلة، وفساد منظم، شاركت فيه أحزاب وميليشيات مدعومة من إيران. قسم كبير من هذه الأموال لم يُستخدم لأغراض محلية، بل جرى تدويره عبر مصارف إيرانية ولبنانية وسورية، لتمويل شبكة "المقاومة الولائية"، من العراق إلى اليمن، مرورًا بسوريا ولبنان. شركات التحويل المالي، ومكاتب الحوالات، والعقود الحكومية، كلها كانت أدوات في منظومة تمويل واسعة تُديرها طهران بمشاركة عناصر من الحرس الثوري، وفروع الاستخبارات الإيرانية.
وفي عهج شياع السوداني تم تصفية شركات الدولة الناجحة لاسباب تسمياته الطائفية مثل الفاروق والمعتصم وتم تشكيل شركات الحشد الشعبي مثل المهندس والقابضة لقيس الخزعلي ليعم النهب ويتضخم!
مصادر
1. Knights, M. (2019). Iran s expanding militia army in Iraq: The New Special Groups. Washington Institute.
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/irans-expanding-militia-army-iraq-new-special-groups
2. Levitt, M. (2013). Hezbollah: The Global Foot-print- of Lebanon s Party of God. Georgetown University Press.
Hezbollah: The Global Foot-print- of Lebanon s Party of God on JSTOR
https://www.jstor.org/stable/j.ctt1657v8z
3. International Crisis Group. (2018). Iraq’s Paramilitary Groups: The Challenge of Rebuilding a -function-ing State.
https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/gulf-and-arabian-peninsula/iraq/188-iraqs-paramilitary-groups-challenge-rebuilding--function-ing-state
4. Al-Ali, Z. (2014). The Struggle for Iraq s Future: How Corruption, Incompetence and Sectarianism have Undermined Democracy. Yale University Press.
https://www.jstor.org/stable/j.ctt5vksw1
#مكسيم_العراقي (هاشتاغ)
Maxim_Al-iraqi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟