أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-














المزيد.....

حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 13:56
المحور: قضايا ثقافية
    


كان الزمن العربي يومًا، ممهورًا بالأمل... زمنًا يتراشق فيه الشعراء بالقصائد، ويتغنى فيه الحالمون بوحدة الأرض والإنسان والمصير. كان الحلم العربي كبيرًا، أكبر من الجغرافيا، وأوسع من الأفق، حتى إذا ما دارت الأيام، وجدنا أنفسنا أمام مسرحٍ تراجيدي، نصبت عليه خيمة من الدجل، يجلس على عروشها تجار الشعارات، يبيعون الوهم على أرصفة القهر، بينما يموت الناس كل يوم، موتًا بطيئًا، لا يحمله إلا الصامتون، ولا يلتقط أنينه إلا من صدق أن في هذه الأرض عدلاً أو رحمة.
هذا هو زمن الدجل العربي، زمن نرفع فيه شعار فلسطين أولًا، وننسى أن الخراب قد أكل أطرافنا، وأن الدم الذي سال في بغداد، وفي دمشق، وفي صنعاء، وفي الخرطوم، هو دمنا، دم الإخوة، دم الأبناء، دم الأحلام التي وئدت قبل أن ترى النور. نرفع الشعارات لنغطي بها ثقوب قلوبنا، نصرخ من أجل فلسطين، وكأننا لا نسمع صرخات الأطفال في الموصل، ولا أنين الأمهات في حلب، ولا حشرجات الجوعى في صنعاء، ولا صدى المقابر الجماعية في ليبيا. نتباكى على القدس، وننسى أن مدننا صارت خرابًا، وأن بيوتنا هدمت، وأن أوطاننا تباع في أسواق الطوائف والمصالح.
لقد صار العالم العربي مسرحًا للدجل، يعتلي خشبته ممثلون بارعون، يلبسون أقنعة الدين حينًا، والوطن حينًا آخر، ثم ينزعونها حين تتقاطع المصالح، فلا يبقى في المشهد سوى جثة الوطن ملقاة على الأرض، بين أقدام الجلادين، وعيون الحالمين الذين يصفقون للوهم. إيران تقتفي أثر الخراب، تزحف بخطى بطيئة ولكن ثابتة، تُغذي الفتن، تُغرس الطائفية في قلب كل مدينة عربية، تمزق النسيج باسم المقاومة، وهي ذاتها التي تقتات على ضعفنا، وتُشعل النار في بيوتنا، ثم تبيعنا رمادنا في أكياس معبأة بالشعارات. في العراق، نبتت أذرعها في كل حيّ، وفي سوريا، صارت اليد التي توقّع على دماء الأبرياء، وفي اليمن، غذّت صراعات لم يكن لها أن توجد، حتى صار الأخ يقتل أخاه، ولا أحد يسأل لمَ وكيف؟
وفي لبنان، ذاك البلد الذي كان يومًا مشعلاً للثقافة والجمال، صار رهينة لحزبٍ يحمل البندقية في يد، وكتاب الطائفية في اليد الأخرى. كلما أراد الناس أن يخرجوا من دائرة الظلام، أعادتهم الطائفية إلى جحرها، وقالت لهم: "انتظروا، فلسطين أولًا!" كأن فلسطين وحدها هي التي تحتاج الحرية، وكأن الدم الذي يسيل في بيروت، في صنعاء، في بغداد، لا يستحق أن يُبكى عليه.
يا لهذا الدجل العظيم! فلسطين قضيتي، كما هي قضية كل عربي، ولكنها ليست وحدها، فلسطين جرحنا، لكنها ليست الجرح الوحيد. الجرح الأكبر هو أننا صرنا شعوبًا تعتاد القهر، تقبل الذل، تخاف من الحلم. الجرح الأكبر أن كل مدينة عربية صار لها قاتل، وكل بيت عربي صار له مأتم، وكل أم عربية صار لها ابن في قبر أو معتقل أو منفى. الجرح الأكبر أن الأطفال العرب صاروا يحفظون أسماء الموت أكثر من أسماء الشعراء، ويتعلمون صوت الرصاص قبل أن يتعلموا أغنيات الطفولة.
وحين تسألهم: لمَ كل هذا الموت؟ يجيبك الصوت المبحوح: فلسطين أولًا! نعم، فلسطين أولًا، ولكن بعد أن نعيد للإنسان العربي حقه في أن يعيش، بعد أن نحرر بغداد من الطائفية، ودمشق من السكاكين المسمومة، وصنعاء من المجاعة، وبيروت من رهائن السياسة، والخرطوم من الدماء التي تصبغ النيل. فلسطين أولًا، نعم، ولكننا لن نحررها ونحن مكبلون بأغلال الجهل، والطائفية، والفساد، والخوف. فلسطين أولًا، ولكن الوطن العربي كله يُحتل، يُنهب، يُباع ويُشترى، ولا أحد يلتفت إلا حين تأتي الكاميرا.
إنها مأساة، مأساة أمة تسير في جنازتها ولا تدري. مأساة أن نرفع رايات فلسطين، بينما كل مدينة عربية تحمل راية أخرى: راية الفقر، راية الموت، راية الانقسام، راية الخذلان. مأساة أن ننسى أن القضية المصيرية ليست مكانًا وحده، بل الإنسان العربي أينما كان، أن ننسى أن المعركة الحقيقية ليست مع المحتل وحده، بل مع الطاغية، مع الجهل، مع الفقر، مع الطائفية، مع الذين يبيعون دمنا على موائد السياسة.
هذه الأرض، كل شبر فيها، فلسطين وبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وطرابلس وعدن والخرطوم، هي الأرض ذاتها التي تُبتلع أبناءها كل يوم، تبتلعهم تحت الأنقاض، في السجون، في المنافي، في مقابر بلا أسماء، في خيام اللجوء، في ظلال الحلم المكسور. هذه الأرض التي كنا نراها يومًا أمًا حانية، صارت اليوم سجّانة، تتزين بأعلامها، لكنها تئن تحت وطأة الدم، ولا أحد يسمع أنينها.
لكن، رغم كل هذا الظلام، يبقى في القلب ضوء صغير، ضوء لا يُطفأ، لأن الأرض التي أنجبت الثائرين يومًا، قادرة على أن تُنبت جيلًا جديدًا، لا يخدع بالشعارات، لا يرفع راية إلا راية الإنسان. سيأتي يوم، ربما بعيد، لكنه قادم، تنهض فيه العواصم من تحت الركام، تفتح النوافذ للريح، وتقول للظلم: ارحل، فلن نبقى عبيدًا لأحد، لا لإيران، ولا للطائفية، ولا للدجل، ولا للشعارات الكاذبة. حينها، ستعود فلسطين، لا لأننا بكيناها، بل لأننا صرنا أقوياء بما يكفي لنحميها، ولأننا حررنا أنفسنا أولًا من كل ما كان يكبلنا.
في النهاية، لا يُبنى وطنٌ على الدموع وحدها، بل على الفعل، على الوعي، على الشجاعة في قول الحقيقة، حتى لو كانت موجعة... وما أشد الحقيقة وجعًا في هذا الزمن العربي المليء بالدجل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -اللص الشريف... عضو البرلمان الموقّر-
- كهنة الخراب: حين يتوضأ النفاق بدموع الفقراء
- ذي قار… نشيد الزقورة، ملحمة الرجولة، ووهج الأهوار
- العباءة السوداء التي تخنق النيل: التغلغل الصفوي في مصر وخطره ...
- صرخة لوط في ليل الضياع: عبرة لمن غابت رجولته وتنكرت فطرته.
- العراق بين قبضة الطغاة ووهج الثورة: صحوة الوعي وميلاد الغضب ...
- -فضائيات بلا أفق... مذيعون من كوكب التملق... وبرامج للبيع في ...
- -حين يقاتل الحالمون: كيف يغيّر الإبداع مصير العالم رغم الثعا ...
- وجعٌ يشبهك
- في زمن العري والسفاهة... حين صار العرض بضاعة في سوق النخاسة ...
- البصرة: قصيدة الجنوب التي لا تنتهي
- سيرة -رجل من خيال الزمان... في دروب الحرف ومرافئ الروح-
- -أمل دنقل... نايُ الجنوب الذي عزف للكرامة على وتر الوجع-
- رحلة في جحيم -1984- حيث الحبر دم والحرية وهم.
- حين يتعطر الوجع بالورد
- -حين أكل الأمير لحم جسده.. أكل الملوك كرامتهم: صرخة في زمن ا ...


المزيد.....




- ترامب يشعل ضجة بتصريح -أوكرانيا أعطت بوتين ذريعة- وروسيا تضر ...
- -جهزوا الفشار-.. شاهد كيف علق مذيع CNN فريد زكريا على السجال ...
- خليط بين المهر والحمار الوحشي.. شاهد كيف تبدو أندر أنواع الخ ...
- -بعملية عسكرية-.. الجيش الإسرائيلي يعثر على جثة رهينة تايلان ...
- مصر.. الشرطة تحبط مخططا لعصابات المخدرات وتقتل مطلوبين خطرين ...
- بوتين يوقع قانونا يقيّد بيع مشروبات لغير البالغين
- والد إيلون ماسك يعلق على خلاف ابنه مع ترامب: صراع الزعماء ال ...
- السوريون يطوون صفحة مخيم الركبان: متى يعود آخر لاجئ؟
- ألمانيا تخطط لتوسيع شبكة الملاجئ العامة تحسبا للطوارئ
- منتجات تساعد على نمو الشعر


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-