عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 08:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، بدت أوروبا متماهية تمامًا مع الرواية الإسرائيلية. تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي، بدءًا من أورسولا فون دير لاين إلى ماكرون وشولتس، انحازت بشكل واضح للعدوان الإسرائيلي على غزة، متجاهلةً مئات آلاف الضحايا من المدنيين.
بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض، اتخذ إجراءات قاسية ضد أوروبا وكندا، مما جعل هذه الدول تشعر بالإذلال والتهميش:
قلل ترمب من أهمية العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي وكندا، معتمداً سياسة "أمريكا أولاً"، مما أدى إلى تقليص التنسيق والتشاور معهم في ملفات إقليمية ودولية مهمة.
أعاد فرض الرسوم الجمركية على واردات من الاتحاد الأوروبي وكندا، بل وزاد فيها على نحو شامت، مما أضر بعلاقات التجارة وخلق توترات اقتصادية.
وقد سبق وأعلن انسحاب بلاده من اتفاقيات دولية مثل اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية إيران النووية، دون التنسيق مع الشركاء الأوروبيين.
رفض دفع مساهمات الولايات المتحدة للاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع والأمن، متهمًا الحلفاء بعدم تحمل حصتهم، ما أدى إلى توتر في العلاقات العسكرية.
استغل الملف الأوكراني لممارسة ضغوط على أوروبا، متهمًا إياها بعدم تقديم الدعم الكافي، مما عزز شعور الأوروبيين بالإذلال والتهميش في قضايا أمنية استراتيجية.
أعطى الأولوية للصفقات الثنائية مع الدول العربية وإسرائيل، مع استبعاد الأدوار الأوروبية التقليدية في الشرق الأوسط، مما جعل أوروبا تشعر بأنها خارج المعادلة.
هذه السياسات والمواقف أدت إلى شعور الاتحاد الأوروبي وكندا بعدم التقدير والإهمال. اندلعت موجة من الغضب في الأوساط السياسية الأروبية. وتناوب قادة أوروبا على البيت الأبيض مُهنّئين مستفسرين ومحتجين، كل بطريقته، وباءت كل محاولات ثني ترمب عن قراراته بالفشل... واستمرت المحاولات إلى غاية زيارته الأولى المُهينة للأوروبيين. فالأصل العرفي منذ الحرب العالمية الثانية كانت الزيارة الأولى للرئيس الأمريكيةالمنتخب نحو بريطانيا باعتبار "العلاقة الخاصة" بين لندن وواشنطن. هكذا فعل روزفلت، ترومان، آيزنهاور، كينيدي، نيكسون، ريغان، وبوش الأب.. ومنذ تولى الرئيس كلنتون تبدلت الوجهة نحو كندا. إلى أن جاء التاجر ترمب وكسر القاعدة.
كانت زياراتهم الرسمية الأولى إلى لندن، وهذا لأسباب استراتيجية. منها الإرث الاستعماري المشترك. والحلف الاستخباراتي. والتعاون في حلف الناتو. ثم صارت كندا في العقود الأخيرة محطة تقليدية للزيارات الودية المرتبطة بالحدود والطاقة، أكثر منها زيارات استراتيجية.
أما بالنسبة لـترمب فإن زيارته للرياض كانت اختراقًا كبيرًا للأعراف الغربية… وأثارت سخطًا صامتًا في بروكسيل ولندن وباريس، لأنها أعطت إشارة على إعادة تعريف الأولويات الأمريكية:
استبدال الحلف الأطلسي بتحالف أمني مع إسرائيل والسعودية. إبعاد أوروبا من دوائر القرار في الشرق الأوسط. تكريس علاقة واشنطن مع الخليج على قاعدة الصفقات.
واليوم، المسألة صارت أكثر وقاحة بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إذ أعلن ترمب عن قمّة أمريكية-خليجية-روسية بدون الأوروبيين. وتزامن ذلك مع تجميده للعمل بتفاهمات أمنية مع الناتو في شرق المتوسط وأفريقيا. وتعليق المحادثات التجارية مع الاتحاد الأوروبي. وتهديده بتقليص القوات الأمريكية من قواعد ألمانيا وإيطاليا.
هذا التهميش لم يعد مجرّد اختلاف في السياسات، بل بات يُنظر له على أنه إذلال استراتيجي لأوروبا، دفع بروكسيل وباريس ولندن وأوتاوا للتحرّك بطريقة غير اعتيادية.
خلال الأيام الأخيرة شهدنا تحولًا ملحوظًا في مواقف دول غربية كبرى تجاه القضية الفلسطينية، حيث أصدرت بريطانيا وفرنسا وكندا بيانًا مشتركًا في 19 ماي 2025، هددت فيه باتخاذ "إجراءات ملموسة" ضد إسرائيل إذا لم توقف عملياتها العسكرية في غزة وترفع القيود عن المساعدات الإنسانية. كما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن إمكانية اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية خلال مؤتمر دولي يُعقد في سبتمبر 2025، بالتعاون مع السعودية، بهدف تعزيز حل الدولتين. وهكذا انهمرت البيانات والتصريحات والتلويح الجماعي بالاعتراف بدولة فلسطينية.
هذا الموقف الأروبي الجديد لا هو استجابة لرأي عام ولا لشوارع ضاغطة ولا مبادئ ولا صحوة ضمير كما تُسوّق لذلك وسائل إعلام عربية وأجنبية، بل هو صراع على الدور والمكانة، يعكس تحولات سياسية مرتبطة بموقع أوروبا المهتز دوليًا، وبصراع الإرادات داخل المعسكر الغربي، وبحسابات معقدة تتعلق بالسعودية، والولايات المتحدة، وبسياسة ترمب تحديدًا.
أوروبا الحليف المهمش. أوروبا التي لم تعد فاعلًا حقيقيًا في الشرق الأوسط منذ سنوات. أروبا التي تم إقصاؤها من الاتفاق النووي الإيراني الجديد. وتمّ صفعها بعنف بالقفز عليها والذهاب في تفاوض ثنائي أمريكي-روسي، بعد أن فُرضت عليها التبعية الكاملة للولايات المتحدة في حرب أوكرانيا. أروبا التي حُيّدت عن اتفاقيات التطبيع (أبراهام).
هذه الدول وجدت نفسها بلا أوراق حقيقية في أي تسوية مقبلة للمنطقة، خصوصا وأنه منذ اندلعت الحرب على غزة، بدا أن واشنطن وتل أبيب تتصرفان وفق أولوياتهما، مع تجاهل كامل للمصالح الأوروبية، سواء المرتبطة بالطاقة أو الاستقرار المتوسطي.
نفس هذه الدول التي تبنت الحرب على غزة وشاركت فيها بكل الجهود، انقلبت اليوم في محاولة لِتعطيل أي تفاهم سعودي- إسرائيلي- أمريكي عبر خلق مناخ دولي محرِج للرياض. فلا شك أن هذا التطور سيضع السعودية في موقف دقيق، حيث أن أي خطوة تطبيعية مع إسرائيل في ظل "تأهّب" أروبي للاعتراف بالدولة الفلسطينية سيُفسّر على أنها تجاهل للحقوق الفلسطينية.
صحيح أن الحرب فجّرت احتجاجات كبرى في الشارع الاروبي لا سابق لها منذ حرب فيتنام. وصحيح أن هنالك تزايد للضغط الداخلي على الحكومات الأوروبية من الأحزاب اليسارية، والنقابات، والجالية العربية والمسلمة، واليهودية وحتى الكنائس. ولكن الشارع لم يهدأ منذ عشرين شهرا، ولم ينجح في تبديل القرار الأوروبي. وصحيح أن المأزق السياسي والعسكري الإسرائيلي، وفشل مخططات التهجير جعلا من استمرار الدعم الأعمى لتل أبيب مكلِفًا سياسيًا. ومع ذلك فالمحرّك الحقيقي لهذا الموقف الجديد هو مصالح الدول الأروبية واستبعادها من أي هندسة سياسية للمنطقة بعد الحرب. ولن تتحمّل استمرار الولايات المتحدة في التفاوض مع الرياض وتل أبيب في ملف التطبيع والتفاهمات الكبرى بعيدًا عن بروكسل وباريس.
هذا هو السرّ الذي دفع الأوروبيين للبحث عن ورقة ضغط، فكان التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية.
وحتى لا نبالغ في التفاؤل، علينا أن ندرك أن "الاعتراف" بالدولة الفلسطينية ليس قرارًا حاسمًا حتى الآن. ومازال في معنى الرسالة لواشنطن وتل أبيب بأن أوروبا قادرة على تعطيل مشاريعهم. وهو كمين للسعودية، سيضعها أمام خيانة فجة، أمام الرأي العام العربي والمسلم.
بالتأكيد يجب وضع الحسابات الداخلية الأوروبية في ميزان تحليلنا. فأوروبا اليوم تتخوف من موجات لجوء فلسطيني جديدة. واحتمال تهجير سكان غزة إلى مصر أو الضفة، ما قد يفجّر المنطقة ويدفع نحو موجات نزوح نحو شواطئها. وهنالك خشية من تصاعد التوتر بين الجاليات المسلمة والسلطات والذي بلغ مستويات خطيرة، خاصة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا. من هنا، تسعى الحكومات الأوروبية إلى تهدئة المنطقة دبلوماسيًا، وتحسين صورتها أمام الرأي العام، وتجنب عزلتها عن الشارع الأوروبي المتعاطف مع غزة.
مع أهمية كل هذه العوامل، يبقى السبب الأعمق للتحول في الموقف الأوروبي هو الصراع غير المعلن مع التيار الترامبي داخل الولايات المتحدة، الذي يريد إنهاء حرب غزة عبر صفقة كبرى مع الرياض، تشمل التطبيع وصفقة إقليمية موسعة على حساب مصالح أوروبا وأمنها. فجاء التلويح بالاعتراف بفلسطين كمينا سياسيا لترامب يعقّد عليه إقناع السعودية بالمضي في التطبيع. ويخلط الأوراق قبل الانتخابات الأمريكية. ويجبر تل أبيب على التعامل مع واقع دبلوماسي دولي متشظٍّ.
في المحصلة، ما غيّر الموقف الأوروبي ليس تحوّلًا أخلاقيًا، بل هو موقف له علاقة بمواجهة تهميشها الاستراتيجي. وله علاقة بتصدع التحالف الغربي. وبالصراع الخفي مع ترامب. وبالخوف من الفوضى والهجرة. ولا يجب أن نراهن على ما يبدو من تعاطف أوروبي مع القضية الفلسطينية، لأنّنا خبرنا هؤلاء الناس. وصرنا نفهم أن ما يخفونه أهمّ ممّا يُصرّحون به. وسيبقى موقفهم وظيفيًا مصلحيًا، يهدف إلى انتزاع مكان في ترتيبات ما بعد الحرب.
أما الرهان الحقيقي ففي يد الشعوب وقوى المقاومة التي ستولد من داخل مأساة هذه المشهدية المحزنة التي نعيشها. وهي وحدها القادرة على فرض معادلة جديدة، تُخرج بها القضية من منطق الاستخدام الأوروبي والابتزاز الأمريكي، نحو استحقاق سياسي وطني تحرّري
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟