صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 09:41
المحور:
الادب والفن
مقامة دين ابن عربي :
تظل كلمات العارف الأكبر محي الدين بن عربي , (( الحب ديني )) منارة تضيء دروب البحث عن المعنى والوحدة , ليست هذه المقولة مجرد عبارة شعرية عابرة , بل هي جوهر فلسفة وجودية عميقة تدعو إلى تجاوز الاختلافات الظاهرية والوصول إلى حقيقة أسمى تجمع كل الكائنات تحت مظلة الحب الإلهي اللامتناهي , ففي عالم يزداد فيه التشرذم , وتتصارع فيه الهويات , فأن مقولة الحب ديني , رحلة في فضاء الوحدة الإلهية , وأعلانا لأستخدام الحب كمنهج حياة , إن قول ابن عربي بأن الحب دينه ليس ادعاءً بسيطًا بالانتماء إلى عاطفة بشرية مجردة , وعن رؤية كونية ترى في الحب الطريق الأوحد للوصول إلى الله , فالدين بمفهومه الواسع , ليس طقوسًا جامدة أو عقائدًا محددة بقدر ما هو سلوك وموقف قلبي , وعندما يكون الحب هو هذا الدين , فإنه يشمل كل صور الإحسان والرحمة والعطاء , ويتجلى في تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان ومع الكون بأسره , الحب هنا يصبح تجليًا للأسماء الحسنى , ومصدرًا للإلهام الذي يدفع المؤمن إلى التوحد مع الخالق عبر محبة خلقه.
لعلَّ من أشهر ما جرى على ألسنة الناس من شعر الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي , قوله : (( أَدينُ بدينِ الحُبِّ أَنّى تَوجَّهَتْ ركائِبُهُ فالحُبُّ ديني وَإِيماني)) , وقد وردت فيما نشر من النسخ المخطوطة (( فالدينُ ديني وإيماني)) , ولا يقصد في هذه المقامة الكلام عن معنى البيت أو الأبيات المشهورة من هذه القصيدة , ولكنَّ وجد بعض من استنكر وصفه الإسلام بدين الحب , وتكلَّم ذلك المُنكِرُ بكلامٍ يرى فيه أن ذلك الوصف لا يليق بدين الله , وأنه يعلم أن أمر الحب مشهور عند الصوفية , وأنه من انعدام الغيرة على الشرع الشريف , حيث يبدو انه لم ينتبه إلى أن الأكابر من أهل الله مِن أمثال ابن العربي لا ينطقون كلمةً إلا وهي من فيض القرآن , وما من عملٍ أو قولٍ اشتهر عنهم إلا وهو مؤيَّدٌ بالكتاب والسنة , مما يدعو للعجب من انفعال ذلك الشخص وكأنه لم ير إلى قول الله تعالى للكافرين: (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) المائدة 54 , بل لم ينظر إلى ما خاطب به الله رسوله حين قال : (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) آل عمران 31 , أن دعوى المؤمن محبته لله , وأن غايته حصول محبة الله له .
يدعو ابن عربي إلى تجاوز الأطر الضيقة للعقائد الظاهرية التي قد تفرق بين الناس , فإذا كان الله هو الحب المطلق الذي لا يحده زمان ولا مكان ولا شكل , فإن تجلياته تتنوع في كل مظاهر الوجود , وبالتالي , فإن محبة هذه التجليات , على اختلاف صورها , هي عين محبة الأصل , هذا يعني أن كل قلب ينبض بالحب , وكل يد تمتد بالخير, وكل روح تسعى للسلام , هي في جوهرها تسير على طريق (( دين الحب )) الذي تحدث عنه ابن عربي , لا فرق بين مسجد وكنيسة ومعبد إذا كان القصد الأسمى هو التعبير عن الإجلال والإقبال على الحقائق الكبرى التي يوحدها الحب , وفكرة (( الحب ديني )) تتصل اتصالاً وثيقًا بمفهوم وحدة الوجود , فالعالم بأسره , بكل ما فيه من تنوع , هو مرآة تتجلى فيها الذات الإلهية , وعندما يرى العارف الجمال في كل شيء , ويلمس الكمال في كل مظهر, فإنه لا يرى إلا تجليات المحبوب الأزلي , ومن هذا المنطلق , يصبح حب الآخر, أيًا كان , هو حب جزء من تجليات الحقيقة الإلهية , هذا الحب لا يقصي , بل يحتضن , ولا يفرق , بل يجمع , لأنه ينبع من إدراك عميق بأن كل شيء في الوجود هو مظهر من مظاهر الجمال الإلهي .
في زمننا الحاضر, حيث تتزايد الانقسامات والصراعات , تحمل مقولة ((الحب ديني )) رسالة عميقة للسلام والتسامح , فإذا استطعنا أن نرى في كل إنسان أخًا لنا في الإنسانية , وأن ندرك أن الحب هو القوة الأسمى التي تربطنا جميعًا , فإن الكثير من حواجز الكراهية والعداوة ستتهاوى , إنها دعوة إلى ثورة روحية تبدأ من القلب , ليعم أثرها العالم كله , أن ندرك أن الحب هو ديننا يعني أننا نلتزم بأن نعيش حياتنا وفقًا لمبادئه السامية : الرحمة , والتفهم , والعطاء , والسلام , إن مقولة محي الدين بن عربي ليست مجرد مقولة صوفية عابرة , بل هي فلسفة حياة متكاملة تدعو إلى التسامح , والوحدة , وإدراك الجمال الإلهي في كل شيء , إنها دعوة للبحث عن الألفة في زمن التباعد , وإلى إعلاء قيم المحبة فوق كل اعتبار.
محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي , أحد أشهر المتصوفين , لقبه أتباعه وغيرهم من الصوفية (( بالشيخ الأكبر)) , ولذا ينسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية , ولد في مرسية في الأندلس عام 558 هـ الموافق 1164م , وتوفي في دمشق عام 638هـ الموافق 1240م , ودفن في سفح جبل قاسيون , ومن ألقابه أيضاً : الشيخ الأكبر, رئيس المكاشفين , البحر الزاخر , بحر الحقائق , إمام المحققين , سلطان العارفين , ويقول الروائي الدكتور يوسف زيدان : (( لم يحمل محيى الدين ابن عربى لقب الشيخ الأكبر مصادفةً واتفاقًا , وإنما حمله استحقاقًا لمرتبةٍ عالية فى الطريق الصوفىِّ , ومكانةٍ لا يكاد يبلغها صوفىٌّ آخر فى تاريخ الإسلام سواء فى القرون الخالية أو الأيام الحالية , وسواء فى ديار المسلمين أو فى العالم أجمع فهو أكبر مؤلِّفٍ صوفىٍّ فى تاريخ الإسلام وهو صاحبُ أكبر موسوعةٍ صوفية : الفتوحات المكية , وهو أخيرًا : أكبر الذين صاغوا التصوُّف فى عصره صياغةً تامة , بعد قرونٍ من تطوُّر الرؤية واللغة الصوفية )) .
ذكر أنه مرض في شبابه مرضًا شديدًا وفي أثناء شدة الحمي رأى في المنام أنه محوط بعدد ضخم من قوى الشر, مسلحين يريدون الفتك به , وبغتة رأى شخصًا جميلًا قويًا مشرق الوجه , حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرقها ولم يبق منها أي أثر فيسأله محيي الدين من أنت ؟ فقال له أنا سورة يس , وعلى أثر هذا استيقظ فرأى والده جالسا إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس , ثم لم يلبث أن برئ من مرضه , وألقي في روعه أنه معد للحياة الروحية وآمن بوجوب سيره فيها إلى نهايتها ففعل , وتزوج بفتاة تعتبر مثالا في الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخلق , فساهمت معه في تصفية حياته الروحية , بل كانت أحد دوافعه الي الإمعان فيها , وفي هذه الأثناء كان يتردد على إحدى مدارس الأندلس التي تعلم سرا مذهب الأمبيذوقلية المحدثة المفعمة بالرموز والتأويلات والموروثة عن الفيثاغورية والاورفيوسية والفطرية الهندية , وكان أشهر أساتذة تلك المدرسة في ذلك القرن ابن العريف المتوفي سنة 1141م.
يعد ابن عربي شخصية بارزة في عالم الفكر الديني وشهرته لا تنحصر في حدود العالم الإسلامي فحتى الغربيين والآسيويين بلغهم صيت هذا الرجل , بل وساهموا في دراسته واستلهامه , ومن أقواله : (( من قال بالحلول فدينه معلول , وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد )) , (( من أحبه الحق فقد جذبه , ومن جذبه فقد قرّبه , ومن قرّبه أفناه عن وجوده , وأبقاه بشهوده , ومنحه كمال مشهوده , وأطلعه على حقائق جوده )) , (( الطاعة للعبد , والمسارعة إليها للمحب , والتلذذ فيها للعارف , والفناء فيها للمحققين )) , و(( مقدارُ كُلَّ امرئٍ حديثُ قلبه )) , و (( لاتكن لعانا ولاسبابا ولاسخابا , اياك أن تسأل الناس تكثرا وعندك مايغنيك في حال سؤالك فان المسألة خموش في وجهك يوم القيامة )) , ويعتبره البعض شخصية مثيرة للجدل فلا يكاد يتفق عليه اثنان , حتى أن تحديد مذهبه الفقهي أو الكلامي من خلال كلماته يكاد يكون ضربا من التعسف والمجازفة , و يعزو البعض ذلك إلى أنه فوق المذاهب وأعلى من أن يتمذهب بها .
صباح الزهيري .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟