أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر إلى نيتشه














المزيد.....

جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر إلى نيتشه


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 11:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يُعدّ كتاب "الفكر الألماني من لوثر إلى نيتشه" للمفكر الفرنسي جان إدوار سبنله من الأعمال الفلسفية التاريخية التي سعت إلى تقديم قراءة بانورامية متعمقة لمسار الفكر الألماني منذ فجر الإصلاح الديني وحتى أعتاب الفلسفة الحديثة مع نيتشه، الذي يمثل، في تصور المؤلف، ذروة هذا التيار الفكري وأزمته في آنٍ معًا. لا يتعامل سبنله مع الفكر الألماني بوصفه مجموعة من الأسماء أو الأفكار المعزولة، بل كمسار عضوي متصل، تغذيه الروح القومية، والقلق الوجودي، والصراع الدائم بين المطلق والنسبي، بين العقل والإيمان، بين الذات والكلّ.

يبدأ الكتاب بقراءة تأسيسية لفكر مارتن لوثر، لا بوصفه مجرد مصلح ديني، بل بوصفه نقطة انعطاف جوهرية في الروح الألمانية. فلوثر، من منظور سبنله، لم يكن فقط محرّرًا للمسيحية من سلطة الكنيسة الكاثوليكية، بل كان أيضًا مفجّرًا للذاتية الألمانية، وقد ساهم في زرع بذور النزعة الفردية، والاحتجاج على السلطة الدينية، وفتح المجال أمام تديين الذات وإعادة تأويل النصوص وفق الخبرة الفردية. هذه الروح الاحتجاجية التي بدأت من الدين، سرعان ما وجدت تجلياتها في الفلسفة، لتصنع ما سيُعرف لاحقًا بـ"الحداثة الألمانية".

ينتقل سبنله بعد ذلك إلى استكشاف أثر ليبنتز وكانط، مبينًا كيف حاول الأول تأسيس نسق عقلاني يتجاوز الثنائية الديكارتية، بينما جاء كانط ليرسم حدود العقل ويؤسس لنقده. في هذا الإطار، يعرض الكاتب كيف أن العقل النقدي الكانطي لم يكن خصمًا للإيمان بقدر ما كان محاولة لإعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة والميتافيزيقا، حيث رأى كانط أن الفلسفة يجب أن تسير ضمن حدود العقل الخالص، وأن الحرية والدين والجمال هي مفاهيم يجب الدفاع عنها في حدود الإمكان النظري، لا المطلق الميتافيزيقي.

أما هيغل، فيرى فيه سبنله ممثلًا للذروة العقلانية في الفكر الألماني، ومؤسسًا لميتافيزيقا شاملة تحاول التوفيق بين التاريخ والعقل، بين الواقع والمطلق. ويعرض الكاتب لفلسفة هيغل بوصفها صراعًا جدليًا للروح، رحلة الوعي نحو المطلق، حيث يصبح كل تاريخ بمثابة تحقق تدريجي للعقل. لكن، وبرغم شمولية النسق الهيغلي، فإن سبنله لا يغفل عن الإشارة إلى طبيعته المغلقة، التي ستُفتح لاحقًا مع النقد الذي وجهه له ماركس من جهة، وكيركغارد وشوبنهاور ونيتشه من جهة أخرى.

ويمثل شوبنهاور نقطة انقطاع مع التفاؤل الهيغلي، إذ يتمركز فكره حول الإرادة العمياء بوصفها جوهر الوجود، ويقدم قراءة سوداوية للحياة باعتبارها سلسلة من المعاناة اللامتناهية، لا ينقذ منها سوى الجمال والفن والزهد. يبرز سبنله كيف أن شوبنهاور أسس لتقويض مركزية العقل في الفلسفة، ومهّد الطريق أمام فكر نيتشه، الذي سيعيد تأكيد الإرادة، ولكن في صورة "إرادة القوة".

في ختام هذه الرحلة، يصل سبنله إلى فريدريك نيتشه، الفيلسوف المتمرد، الذي رأى في كل ما سبقه من فكر مجرد أوهام مسيحية مقنعة، حتى في أشكالها الفلسفية. يعرض سبنله نيتشه بوصفه القاطع الجذري مع الميتافيزيقا، والداعي لموت الإله، ونهاية الحقيقة، وبزوغ عصر الإنسان الأعلى. لكنه لا يقدّم نيتشه كفوضوي أو نبيّ يأس، بل كفيلسوف كشف أزمة الحداثة الغربية، وحاول أن يؤسس لأخلاق جديدة تنبع من الجسد، من الحياة، من قوة الخلق. ويؤكد سبنله أن نيتشه، في عمق فكره، ليس مجرد هدمٍ للتراث، بل محاولة لإعادة خلق قيم جديدة، تتجاوز الانحطاط الأوروبي وتنتصر للوجود.

يتميز الكتاب بلغة دقيقة، وتحليل متماسك، ورؤية تركيبية تمزج بين التاريخ والفلسفة، وتضع الفكر الألماني في سياقه الاجتماعي والسياسي واللاهوتي. ولا يقدّم سبنله عرضًا وصفيًا للأفكار، بل يدخل في قلب المعارك الفلسفية، ويكشف عن التوترات الداخلية التي حركت الفلسفة الألمانية من الإيمان إلى الشك، ومن العقل إلى الإرادة، ومن النسق إلى التفكيك. وبهذا، يغدو الكتاب مساهمة رفيعة في فهم الروح الألمانية، وتاريخها الفكري، الذي لم يقتصر أثره على ألمانيا وحدها، بل شكل الأساس لتطور الفكر الغربي برمّته في العصر الحديث.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهياكل الخفية: تفكيك بنية الإرهاب التنظيمي في العصر الحديث
- الطاعون السياسي: حين يصبح الفساد بداية النهاية للدول
- السجل الدامي للقارة العجوز: التاريخ الشامل للحروب الأوربية ف ...
- نيران القرون الوسطى: تاريخ الحروب في أوربا
- الانفصال العظيم: صعود الصين وكسر القبضة الأمريكية على الفضاء ...
- من العقيدة إلى الدستور: معالم الدولة عند المودودي
- عقل الدولة وهيمنة الفكرة: الدولة عند هيجل بين الفلسفة والسيا ...
- حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر
- إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...


المزيد.....




- هل تعتقد أن بوتين يريد السلام مع أوكرانيا؟.. ترامب يجيب لـCN ...
- لندن وبروكسل توقعان اتفاقية دفاعية
- صحيفة: القادة الأوروبيون استغربوا عدم رغبة ترامب في فرض عقوب ...
- اتفاقيات ثنائية تشهدها قمة بريطانية أوروبية هي الأولى بعد -ب ...
- من باريس إلى ستوكهولم ـ حزب -البديل- وأشقاؤه في أوروبا
- ترامب: روسيا وأوكرانيا ستبدآن محادثات وقف إطلاق النار -فورا- ...
- -مصر أم قطر؟-.. مشروع قانون في إسرائيل لحظر وساطة دولة عربية ...
- ضجة في الجزائر وفتح تحقيق عاجل بسبب سؤال عن -قيام إسرائيل-
- اتصال بوتين وترامب.. تمهيد لحل بأوكرانيا
- أسباب جفاف الشفاه


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - جدلية العقل والإرادة: قراءة في تحولات الفكر الألماني من لوثر إلى نيتشه