علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8344 - 2025 / 5 / 16 - 04:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في كل دورة انتخابية، يُعاد طرح السؤال ذاته: هل نشارك أم نقاطع؟ هل التغيير ممكن من داخل النظام، أم أن النظام نفسه هو ما ينبغي تغييره؟
لكن العراق ليس كأي بلد آخر يُقيس تجربته الانتخابية من داخل منظومة مستقلة أو دستور سيادي. العراق بلد تمّ احتلاله، ثم صِيغ نظامه السياسي تحت حراب الخارج وبأقلام المصالح الطائفية والريعية.
منذ 2003، تم تفكيك الدولة، وتشويه مفهوم المواطنة، وإعادة إنتاج السلطة على قاعدة المكوّنات لا الطبقات، والولاءات لا الكفاءات.
الانتخابات صارت واجهة تزيّن منظومة الفساد والتبعية، لا أداة لإسقاطها. البرلمان أضحى سلطة شكلية فوق دولة منهوبة، والناخب بين المطرقة والسندان.
هذه المقالة التحليلية الموسّعة لا تدعو للمقاطعة ولا للمشاركة بشكل عاطفي، بل تقدم قراءة ماركسية تحررية من موقع الطبقة العاملة، تشرح كيف صيغ النظام، ولماذا فشل، وماذا يمكن أن يفعل اليسار اليوم، وما المطلوب من الناخب العراقي أن يُدركه قبل أن يصوّت، أو يُعيد تنظيم نفسه ليُنتخب فعليًا من نفسه ولصالحه.
قراءة تحليلية شاملة في المسار، الخديعة، والمأزق السياسي والاجتماعي
لمن ننتخب؟ ولماذا؟ وهل يمكن أن تُنتج صناديق الاقتراع دولة؟
مقدمة: ما الذي يُعاد انتخابه كل دورة؟
لم يعد سؤال “لماذا نُنتخب؟” يُطرح من باب الحيرة أو السخرية، بل من وجع متراكم.
السؤال يخرج من أفواه الشغيلة، والموظفين، والخريجين العاطلين، والعائلات المنهكة، كنداء أخير قبل القطيعة:
• “هل هناك من جدوى لصوتي؟”
• “هل سيمنع صعودي إلى صندوق الاقتراع جوع ابني؟”
• “هل سيغيّر النائب الموعود أنبوب الماء المكسور، أو أعمدة الكهرباء المقطوعة، أو سعر الحليب في السوق؟”
الناس لا يسألون عن الديمقراطية بوصفها قيمة، بل عن الانتخابات بوصفها أداة: هل تعمل؟ لمن تعمل؟ وهل نحن معنيون فعلاً بما تنتجه؟
لقد شارك العراقيون في خمس دورات انتخابية منذ 2005، ومع كل دورة، كانوا يعودون إلى منازلهم بلا شيء سوى الخيبة.
الوجوه نفسها تعود، الأحزاب تتبدّل في الاسم وتُعيد إنتاج النظام، والبرلمان لا يُشرّع إلا ما يُحصّن مواقعه.
لقد تكرّست قناعة عميقة بأن ما يُنتخب ليس “الدولة”، بل منظومة تُخادع الجماهير باسم التمثيل، وتعيد إنتاج تحالف سياسي–مالي–طائفي–إثني، أُسِّس بقرار خارجي وصِيغ على عجل في غرف السلطة الأميركية عقب الاحتلال.
الانتخابات في العراق: من الميثاق الوطني إلى عقد الإذعان
حين يُقدَّم الاقتراع باعتباره القناة الشرعية الوحيدة للتغيير، فهذا يعني أن النظام السياسي يطلب من المواطن أن يضع ثقته الكاملة بصندوق تُحدّد قوانينه وشروطه ونتائجه قوى ليست من الشعب.
لكن في العراق، الانتخابات ليست ميثاقًا بين المواطن والدولة، بل عقد إذعان بين الناخب ونظام مفروض عليه بالقوة.
• دستور 2005 لم يُصوَّت عليه بعد حوار وطني شامل، بل فُرض تحت الاحتلال وفي ظل انقسامات مذهبية وسياسية حادة.
• قوانين الانتخابات صِيغت بطريقة تُقصي القوى الجديدة وتُعيد تدوير الأحزاب الحاكمة.
• “المكوّنات” أصبحت وحدة التمثيل، بدل الطبقات أو التيارات الاجتماعية.
• الكتلة الأكبر لا تُحدَّد بالتصويت بل بـ”التوافق”، أي عبر مناورات ما بعد الاقتراع.
وهكذا، تحوّلت الانتخابات إلى إجراء شكلي يُمنح الشعب فيه هامش اختيار داخل حدود مرسومة سلفًا.
صوت المواطن لا يُغيّر جوهر السياسات، بل يُستخدم لمنحها شرعية شكلية.
من فشل المشاركة إلى وعي المقاطعة
انخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات من نحو 79% عام 2005 إلى ما دون 36% في 2021، مع نسب واقعية أقل بكثير في المدن الكبرى.
هذا التراجع لم يكن انحسارًا في الوعي، بل تعبيرًا عن نضوج شعبي بدائي، يفهم – ولو من تجربته العفوية – أن الصندوق لا يُنتج دولة بل يُشرعن منظومة.
ملايين العراقيين لم يذهبوا إلى مراكز الاقتراع، لا لأنهم يرفضون الديمقراطية، بل لأنهم فهموا أن اللعبة تُدار من فوق، وأن النتائج لا تُترجم إلى واقع.
لم تعد “المشاركة” واجبًا وطنيًا، بل أصبحت، في نظر كثيرين، تواطؤًا مع كذبة كبيرة.
وحين يُحذّر بعض “المدنيين” من أن المقاطعة تُضعف الدولة، يرد الناس:
“أي دولة؟ دولة العقود الوهمية؟ أم دولة المولات التي لا نستطيع دخولها؟ أم دولة الرواتب البرلمانية الخرافية؟”
إن المقاطعة، حين تكون واعية ومُعلّلة، ليست سلبية، بل هي التعبير الأصدق عن احتجاج المواطن، حين تُقفل في وجهه سبل الفعل الأخرى.
الجزء الثاني: كيف صاغ الاحتلال الأميركي النظام؟ ومن صمّم الخراب؟
من إبقاء صدام إلى احتلال مدروس: الخطة لم تبدأ عام 2003
الخطأ الجسيم في الرواية السائدة أن الأميركيين غزوا العراق لإنقاذ شعبه من الديكتاتورية.
لكن الوقائع تُبيّن عكس ذلك تمامًا:
فقد أبقت الولايات المتحدة على نظام صدام حسين بعد 1991 رغم القدرة على إسقاطه، وتواطأت في قمع الانتفاضة الشعبية الكبرى التي اندلعت في الجنوب والشمال بعد هزيمة الجيش في الكويت.
منعت القوات الأميركية المنتفضين من الوصول إلى مخازن السلاح، وتركت مروحيات النظام تقصفهم بلا تدخل، رغم أن الأجواء كانت تحت سيطرة واشنطن.
النتيجة كانت مجزرة ربع مليون عراقي، تمّت في وضح النهار، وبتسهيل مباشر أو صمت متعمّد من القوات المحتلة سابقًا.
إذن، لم يكن الغزو عام 2003 عملًا عشوائيًا، بل خطوة تنفيذية متأخرة لخطة مدروسة، تهدف ليس فقط إلى إسقاط رأس النظام، بل إلى إعادة تشكيل العراق وفق رؤية استعمارية جديدة.
مجلس الحكم: لا تأسيس لدولة بل لتركيبة مكوّنات
تشكيل “مجلس الحكم الانتقالي” بعد الاحتلال لم يكن تمهيدًا لبناء دولة ديمقراطية، بل كان أول مسمار دُقّ في نعش الدولة الوطنية.
فالتمثيل فيه لم يُبنَ على قاعدة اجتماعية أو كفاءة وطنية، بل على توزيع المحاصصة الطائفية والإثنية:
• ليس ممثلًا عن العمال أو النقابات،
• لا ممثلًا عن الفلاحين أو المهنيين،
• بل تم تعيين شخصيات على أساس انتمائها الطائفي أو العرقي أو الحزبي، لتُمنَح حصة في ما أُطلِق عليه “العملية السياسية”.
هكذا، بدأت ثقافة “المكوّن” تُشرعن قانونيًا، وتُصبح هي القاعدة الأساسية في صياغة الدستور، وتوزيع الوزارات، وتقاسم الموازنات، وحتى في انتخاب البرلمان نفسه.
ولأول مرة منذ تأسيس العراق الحديث، لم يُنظر إلى الشعب بوصفه شعبًا واحدًا متعدّد الأديان والثقافات، بل كسلسلة جماعات متجاورة متنازعة، يُدار أمرها عبر التوازن، لا عبر المواطنة.
قرارات بريمر: تفكيك ممنهج للدولة لا إصلاح مؤسسي
لم تكن قرارات الحاكم المدني بول بريمر مجرد “إجراءات انتقالية”، بل ترجمة سياسية دقيقة لمشروع تفكيك العراق وتحويله إلى لا-دولة ريعية تابعة:
• حلّ الجيش العراقي دمّر ليس فقط المؤسسة العسكرية، بل ما تبقّى من الكيان السيادي.
• اجتثاث البعث، رغم ضرورته كمساءلة قانونية، تحوّل إلى اجتثاث لمؤسسات الدولة برمتها.
• إلغاء مؤسسات التخطيط والإنتاج حوّل الاقتصاد من اقتصاد له بنية، إلى اقتصاد ريعي استيرادي هش.
• فتح البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية دون ضوابط حوّل السوق العراقي إلى ساحة نهب ممنهجة للسلع الرديئة والديون.
• صياغة دستور يقوم على “مكوّنات” لا طبقات ولا برامج أنتجت دولة محاصصة عاجزة عن الفعل.
بمعنى أدق: لم يُرِد الأميركيون بناء عراق ديمقراطي، بل عراق ضعيف، لا يهدد مصالحهم، ولا يملك قدرة حقيقية على إدارة ثروته أو مصيره.
من الاحتلال إلى الحكم الذاتي للخراب: النخبة الجديدة تتكفّل بالمهمة
ما أن انسحب الجيش الأميركي رسميًا، حتى كانت البنية الأساسية للخراب قد اكتملت:
• نخبة سياسية جديدة، جاءت أغلبها من المنفى، دُفعت إلى الحكم بحماية الاحتلال، وأُعطيت مفاتيح الدولة بشرط: ألا تمسّ الجوهر الذي صاغه الأميركيون.
• هذه النخبة، التي رفعت شعارات المعارضة والتحرير والعدالة، سرعان ما تحوّلت إلى طغمة أوليغارشية ريعية، تتقاسم النفوذ، وتتحاصص الوزارات، وتُشرعن النهب عبر البرلمان، وتحكم عبر الميليشيات والإعلام والولاءات.
• فبدل أن تبني دولة، بنت شبكات نفوذ.
وبدل أن تُسائل من سبقها، قامت بتقليده وتوسيعه.
وبدل أن تعيد للناس ثرواتهم، نهبتها باسمهم.
والأخطر من ذلك: أنها أسّست جدارًا قانونيًا وإعلاميًا وثقافيًا يُجَمّل هذا النظام، ويُعيد تقديمه في كل انتخابات على أنه “الديمقراطية التوافقية” أو “الاستحقاق الوطني” أو “الخيار المدني”.
الجزء الثالث: التحالفات، الانتخابات، ومواقف اليسار – بين التكيف والانبعاث
التحالفات السياسية بعد 2003: من المقاومة إلى التنصيب
ما أن تأسّس النظام السياسي الجديد حتى بدأت قوى وأحزاب، بعضها شارك في المعارضة لسنوات، وأخرى برزت لاحقًا، تتنافس ليس على مشروع إنقاذ الوطن، بل على الحصص داخل “الدولة المشوّهة”.
لم تبنِ هذه القوى تحالفاتها على أساس مصالح الطبقات أو البرامج الاقتصادية أو الرؤى التنموية، بل على قاعدة “التوازن بين المكونات”، في إطار لعبة محسوبة تخدم الطغمة الأوليغارشية الجديدة.
ومنذ 2005 وحتى اليوم، تعاقبت تحالفات بواجهات “وطنية”، “مدنية”، “إسلامية معتدلة”، أو “عابرة للطوائف”، لكن الحقيقة الجوهرية بقيت واحدة:
الكل يلعب ضمن قواعد النظام الذي صاغه الاحتلال، ويعيد إنتاجه في كل دورة انتخابية.
هذه التحالفات لم تفلح إلا في أمرين:
• تأبيد السيطرة على الدولة كغنيمة.
• إجهاض أي مشروع لبناء دولة منتجة أو عادلة.
الناخب العراقي صار يدرك – حتى دون تنظير – أن من يرفع شعارات “الإصلاح”، يعود ليُحصّن مصالحه، ومن يرفع شعار “العبور الطائفي”، يُعيد ترتيب الطوائف تحت راية أخرى.
في ظل غياب الدولة الإنتاجية: لمن نُنتخب؟
الدولة العراقية اليوم ليست دولة منتجة. لا زراعة، لا صناعة، لا استقلال اقتصادي، لا رؤية اجتماعية.
إنها ببساطة دولة تحويلية–ريعية–وسيطة، تستلم الأموال من بيع النفط، وتعيد توزيعها كرواتب، وامتيازات، وموازنات حزبية، وصفقات استيراد.
فما معنى أن تُجري انتخابات في نظام كهذا؟
ماذا يُمثّل البرلمان؟
من هم “المرشحون”؟
وعلى أي برنامج يتنافسون؟
في ظل غياب القطاعات الإنتاجية، تصبح الانتخابات:
• لا تمثّل طبقات منتجة.
• ولا تنطلق من تناقضات اقتصادية فعلية.
• بل تُجسّد صراعًا بين قوى طُفيلية على إدارة الثروة العامة، في ظل قوانين مفصّلة لحمايتهم.
ولهذا، فإن “البرنامج الانتخابي” أصبح نكتة.
المرشح لا يتحدث عن الأمن الغذائي أو الاقتصاد السياسي أو إصلاح الزراعة والصناعة، بل عن بناء “الدولة العادلة”، وتوفير فرص العمل… دون أن يقول كيف، وبأي أدوات، ولصالح مَن.
اليسار العراقي: من أداة تحريض إلى شريك حائر؟
كان من المفترض أن يشكّل اليسار، في لحظة الانهيار هذه، أداة تحليل وتنظيم وتحريض طبقي.
لكن ما حدث في الواقع هو العكس.
أولًا: تراجع اليسار عن خطابه الجذري، وانزلق في كثير من الأحيان إلى خطاب “المدنية”، الذي فُرّغ من مضمونه الاجتماعي، وأصبح يُستخدم كغطاء للمشاركة في اللعبة الانتخابية، دون القدرة على كسر قواعدها.
ثانيًا: تحوّل بعض أطرافه إلى شريك صغير في تحالفات أكبر، دون شروط واضحة، ودون قدرة على التأثير في السياسات العامة، فخسر استقلاله من دون أن يكسب سلطة.
ثالثًا: لم يُنتج اليسار تنظيمًا جماهيريًا حقيقيًا، بل اكتفى بالحملات الانتخابية الموسمية، والبيانات الإعلامية، والتحالفات الظرفية.
الحزب الشيوعي العراقي، بوصفه المثال الأبرز، دخل البرلمان عبر تحالفات “سائرون” وغيرها، لكن سرعان ما انسحب دون إنجاز سياسي ملموس، ولا تحليل نقدي صريح لتجربته، ما أبقى القاعدة الشعبية في حالة ارتباك.
أسئلة حاسمة، وأجوبة لا بد منها – من أجل وعي تحرري حقيقي
في هذا السياق، تبرز أربعة أسئلة مصيرية، لا تخص اليسار وحده، بل كل من يريد تغييرًا فعليًا:
1. هل المشاركة في انتخابات مفصّلة لحماية السلطة تخدم التغيير؟
الجواب: لا. إذا لم تتوفّر شروط تنظيمية وجماهيرية تؤمن لك فضح النظام وتحقيق اختراق فيه، فإن المشاركة تصبح غطاءً له، لا ساحة لمواجهته.
2. هل يمكن التحالف مع قوى لا تمتلك برنامجًا طبقيًا وتحرريًا؟
الجواب: لا. لأن هذه القوى – حين تتعارض مصالحها مع مطالب الفقراء – ستتخلى عنك وتهاجمك. التحالف لا يكون بين الشعار والفراغ، بل بين مشروعين متقاطعين فعليًا.
3. هل يجوز الصمت عن القضايا الطبقية بحجة “المدنية” أو “الواقعية السياسية”؟
الجواب: أبدًا. من لا يتحدث عن الجوع، الاستغلال، التفاوت الطبقي، وتفكيك الريع، لا يمكنه أن يبني بديلًا. الصمت خيانة للمبدأ، واعتذار مسبق عن الفشل.
4. ما البديل؟ هل هناك طريق آخر؟
الجواب: نعم. البديل هو إعادة بناء اليسار من تحت:
• تنظيم القاعدة،
• خطاب طبقي واقعي،
• لجان أحياء ومساطر ونقابات،
• تحريض في كل مجال،
• وبناء قوة اجتماعية حقيقية، تُعيد تعريف التمثيل، لا تطلبه.
الجزء الرابع: من الوعي النقدي إلى الفعل التحرري – من ينتخب مَن؟ ولماذا؟
بين الدولة واللا–دولة: ماذا نحصد بعد كل دورة انتخابية؟
في كل دورة انتخابية، تَظهر على السطح نفس المقولات:
“التغيير يأتي بالتدرج”، “علينا استغلال المتاح”، “أفضل الممكن”، “لا تتركوا الساحة للآخرين”…
لكنّ الواقع المادي لا يكذب:
• الخدمات تنهار.
• الفقر يتعمق.
• الطبقة الوسطى تتلاشى.
• الشباب يُهاجرون أو يُهمَّشون.
• المرأة الكادحة تُقصى من الحياة العامة.
• الفلاح بلا دعم.
• العامل بلا ضمان.
• العاطل بلا أمل.
• والموظف بلا كرامة مهنية.
فمَن يحكم إذًا؟ وأين الدولة؟
الحقيقة المؤلمة أن العراق اليوم لا تحكمه دولة بالمعنى الحديث، بل تحكمه منظومة نفوذ تحاصصي تشغّل مؤسسات الدولة لتوزيع الامتيازات، لا لتقديم الخدمات.
نحن أمام لا–دولة بلا رؤية، لا مشروع تنموي، لا تخطيط اقتصادي، لا هدف اجتماعي، بل فقط إدارة الهويات، والنهب، وتجميل الواجهة عبر “العملية الانتخابية”.
نظام بلا أفق، وسلطة بلا عدالة، ومجتمع ينتظر من يُعبّر عنه
لقد وصل النظام السياسي إلى سقفه.
لم يعد يقدّم إلا المزيد من الانغلاق، والجمود، وإعادة إنتاج نخبه المنفصلة عن الشعب.
ولم تعد الانتخابات مناسبة للاحتكام الديمقراطي، بل لحظة لإعادة تصفير العدّاد وإطالة عمر الخراب.
والشعب – الذي انتفض في تشرين، وقاطع الصناديق، وواجه القمع – لا ينتظر شعارات جديدة، بل منظومة جديدة:
• تُعيد تعريف الدولة بوصفها جهازًا إنتاجيًا لا وظيفيًا.
• تُعيد بناء العقد الاجتماعي على قاعدة الحقوق لا الولاءات.
• تُعيد الاعتبار للتمثيل الشعبي الحقيقي، لا التمثيل المسرحي المحاصصاتي.
• تُعيد تصنيف القوى السياسية من خلال مواقفها من العمل، والثروة، والإنتاج، والتوزيع.
دعوة للناخب… لا لتصويت الأوهام بل لتصويت الوعي والتنظيم
يا عامل المسطر…
يا فلاح الجنوب…
يا أستاذ المدرسة…
يا خريج الجامعة العاطل…
يا موظف الدولة الذي يرى رواتبه تُنهب والفساد يُحمى…
يا امرأة تُهمَّش باسم العادات…
يا شاب تُهان كرامته باسم “الخبرة”…
هل رأيت من يُمثّلك في كل هذه الدورات؟
هل سمعت من يُدافع عنك بلغةك لا بلغة النخبة؟
هل شعرت أن أحدًا في البرلمان يشبهك، يعيش معك، يحمل همك؟
إذا كانت الإجابة: لا،
فلا تَصمت.
لكن لا تُصوّت لأيٍّ كان.
بل اسأل أولًا: ما البرنامج؟ من هم مرشحوه؟ من يُموّله؟ من يُفاوض باسمه؟
واشترط أن يكون التنظيم أولًا، ثم البرنامج، ثم الموقف، ثم الانتخابات.
من أجل يسار حيّ: لا مقاعد… بل مواقع في الوعي والشارع والإنتاج
ما يحتاجه العراق ليس يسارًا ناعمًا يتكلم لغة المنتديات،
بل يسارًا خشنًا في الفهم، دقيقًا في التحليل، صادقًا في الانتماء.
يسارًا لا يطلب من الدولة دعمًا، بل يُطالبها بحق الشعب.
لا يدخل البرلمان ليجلس، بل ليفضح، وينظّم، ويُحرّض.
لا يتحالف من أجل اللافتة، بل من أجل الموقف والقاعدة.
إن بناء هذا اليسار لا يتم بإرادة النخب وحدها، بل باندماجه الكامل مع الشعب، بلغته، وتطلعاته، وألمه، وإيمانه العميق أن هذه الأرض تستحق أكثر.
الخاتمة: من يصوّت؟ من يُنتخب؟ من يحكم؟ ومن يُحاسب؟
ليس السؤال فقط: هل ننتخب أم لا؟
بل: ما الذي ننتخبه؟ نظامًا أم بؤسًا؟ مشروعًا أم طائفة؟ وطنًا أم شركة؟ مستقبلًا أم دائرة مغلقة؟
وإذا لم نَجد من يُمثّلنا، فلنُعبّر نحن عن أنفسنا.
نبني التنظيم.
نُعدّ البرنامج.
نستعيد النقابة، والحقل، والمصنع، والميدان، والصوت.
الانتخابات قد تُكمل طريقًا…
لكن لا تبني طريقًا من فراغ.
فالنظام الذي بُني على أنقاض الدولة، بأدوات الاحتلال وأقنعة الطائفية والمال، لا يُصلحه التصويت وحده…
بل يُغيّره الوعي، والتنظيم، والصراع الاجتماعي، وولادة قوة شعبية لا تخاف، ولا تساوم، ولا تنتظر الإذن.
ملاحظة ختامية
إن الكتابة مسؤولية فكرية وأخلاقية تتطلب من الكاتب أن يتحرى الصدق، والموضوعية، والالتزام بقضايا العدالة والحرية. كما أن النقد الموجه لأي نص ينبغي أن يلتزم بضوابط الحوار الفكري المسؤول، فيُناقش الأفكار لا الأشخاص، ويبتعد عن الشخصنة والمناكفات التي تفسد الحوار وتضعف قيمته العلمية.
كل نص يُكتب، وكل نقد يُقدّم، يعكس مستوى وعي صاحبه، وأخلاقيته، وانحيازه.
لذلك، نهيب بالقراء الكرام الالتزام بثقافة الحوار الهادئ والبناء، لما فيه خدمة الحقيقة، وإنضاج النقاش، وإثراء الفضاء الفكري بقيم التعددية، والاحترام المتبادل، والسعي المشترك نحو مستقبل أفضل.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟