أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - علي فضيل العربي - ما زلت تلميذا















المزيد.....

ما زلت تلميذا


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7709 - 2023 / 8 / 20 - 00:43
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


كلّما صادفته في الطريق ، يمشي الهوينى ، و قد أثقل الدهر خطواته ، مستعينا بعكازه ، الذي نسمّيه في بلدتي ( خيزرانة ) ، هرعت نحوه كي أسلّم عليه و أقبّل ناصيته ، لحظتها يخرج من جيبه حبّة حلوى و يسلّمها لي كأنّني مازلت – في نظره - ذلك التلميذ الصغير في صفّه الابتدائي .
هو ذاك معلّمي و شيخي و سيّدي في سنوات المرحلة الابتدائيّة في سنوات الستينات . كان حظّي أن أدخلني والدي المدرسة ، بعد أربع سنوات من نيل بلدي ، الجزائر ، استقلالها و حريّتها . و خروج الاحتلال الفرنسي الغاشم مهزوما ، مدحورا ، يجرّ وراءه الخيبة و الذل و المهانة .
منذ عرفته لم يتغيّر معلّمي . مازالت صورة حركاته و سكناته و نظراته داخل الصفّ ماثلة أمام عينيْ ، بلغ سنّ التقاعد فتقاعد ، و كانت منحة نهاية الخدمة لا تتعدّى مصاريف شهر واحد أو ملاليم كما يقول إخواننا في أم الذنيا . كانت أجرته فيما أعلم زهيدة ، لا تكاد تسدّ مصاريف الشهر ، لم تسعفه تلك الآلاف من الدينارات في شراء سيارة أو منزل أو في قضاء عطلة صيفيّة أو ربيعيّة في مركّب سياحيّ في بلده ، أو القيام برحلة سياحيّة في بلد مجاور أو غير مجاور ، عربيّ أو أعجميّ . و في حفل تكريمه بمناسبة تقاعده أهدوه منبّها صينيّا و لوحة كُتبت عليها سورة الناس . و وعدته الخدمات الاجتماعيّة بدفع نصف مبلغ العمرة ، إن حالفه الحظ في القرعة ، لكنّ الحظ خانه و أدار له ظهره و لم يعتمر .
و من مكارم معلّمي – التي مازالت عالقة بالذاكرة – أنّه كان رجلا قنوعا بأجرته الزهيدة ، و لم يفكّر يوما في استغلال ما يسمّيه معلّمو اليوم ( الدروس الخصوصيّة ) التي أرهقت مصاريفها جيوب الأولياء في مراحل التعليم كلّها . بل كان يخصص حصص دعم مجانيّة لتحسين مستوى بعض تلاميذه المتأخرين عن زملائهم . كان معلّمي – حفظه الله و جزاه عن كلّ حرف علّمه لمئات التلاميذ عبر مسيرته التعليميّة – حريصا على نجاحنا ، يعاملنا كما يعامل الحكيم الحاذق الجسد الواحد ، يحنو علينا حنان الأب الرؤوف بأبنائه ، و يشجعنا بجوائزه البسيطة في نظره ، القيّمة في نظرنا ، كأنّ يمنحنا قلما أو بطاقة بريديّة جميلة أو كتيبا لقصة مصوّرة ، أو قطعة شيكولاطة . و كان إذا وعد أنجز ، و لا أتذكّر أنّه اخلف أو سوّف وعده ، كما فعل عرقوب ، الذي صارت قصته مثلا يُضرب في خلف الوعد ( أخلف من عرقوب ) .
في إحدى الصباحات الخريفيّة أبت ابنتي الصغيرة المتمدرسة في مدرسة ابتدائيّة محاورة للحي الذي أقطنه ، أبت و هي تبكي بحرقة الذهاب إلى المدرسة . فسألتها عن السبب . فقالت لي : إنّ معلّمتنا تحضر معها شوكة ( محقنة ) طبيّة ، و تهدّد تلاميذها و تتوعدهم بوخزهم بها إن هم أخطأوا الجواب في مسألة حسابيّة أو تمرين لغويّ ، و هي خائفة بل مرعوبة من ذلك . أخذت ابنتي الصغيرة ، بعدما هدّأت من روعها و أمنتها و طمأنتها . و طلبت لقاء معلّمتها ، فلقيتها ، و استفسرت منها الأمر ، أهو صحيح ما قالته لي ابنتي عن قصة الوخز بالشوكة ( المحقنة ) . فقال لي : إي ، نعم . ذلك أسلوب أتّبعه لتشجيع تلاميذي على الجدّ و الاجتهاد . قلت : إنّ العمل البيداغوجي ، التربوي يقوم على الترغيب لا الترهيب ، و على الوعد لا الوعيد ، وعلى الجائزة لا العقوبة . المعلّم ، يا سيّدتي ، رسول العلم و الرحمة و نبع الحبّ و الإنسانيّة . و ذكّرتها بما قاله أمي الشعراء أحمد شوقي :
قم للمعلّم وفّـــــــــه التبجيــــــلا .. كاد المعلّم أن يكون رسولا
و إذا المعلّم ساء لحظ بصيرة .. جاءت على يده البصائر حولا
كم كان معلّمي رجلا حكيما ، طيّبا ، كريما ، و مازال كلّما التقيته ، أعطاني قطعة حلوى ، و قد غزا رأسي الشيبُ ، فأستلمه منه ، و كلّي خجل و تواضع و فرح و سرور ، و كأنّه أعطاني كنزا من كنوز الدنيا . و مازلت في نظره تلميذه الصغير على مقعد القسم ، و مازال في نظري معلّمي و سيّدي ، كلّما التقيته ازداد حبّي و تعلّقي به . و صدق من قال : من علّمك حرفا صرت عبدا له . هل مازال معلّم اليوم كمعلّمي ؟ و هل مازال تلميذ اليوم يمجّد معلّمه و يبجّله و إذا لقيّه بادره بالتحيّة و قبّل يده أو رأسه ؟ يستحي أن يدخّن أمامه – مثلا – أو يبدر منه سلوك مشين كالتجاهل أو التكبّر .
المعلّم – يا سادتي - هو أبو الجميع ؛ الرئيس و الوزير و اللواء و العالم و رائد الفضاء و الحكيم و الصيدلي و المهندس و المدير و القاضي و المحامي و الأستاذ و العبقري و الفيلسوف و الصانع و المخترع و الطيّار و رباّن السفينة . و باختصار هو قلب المجتمع و عقله و لبيبه .
المعلّم في أوروبا الليبيراليّة و اليابان و أمريكا الشماليّة – يا سادتي - هو حجر الزاويّة في حركيّة المجتمع و تطوّره العلمي و التكنولوجي و الاقتصادي . و لمّا سئل أحد الفاعلين السياسيين في اليابان عن سرّ النهضة العلميّة و التكنولوجيّة و الاقتصاديّة التي شهدها اليابان بعد خروجه من الحرب العالميّة الثانيّة منهكا و محطّما ، أجاب قائلا : لأنّنا وضعنا المعلّم قبل الوزير . أما المستشارة الألمانيّة الحكيمة أنجيلا ميركل - التي قادت ألمانيا الموحّدة بعقل أرجح من عقول حكام العالم الثالث كلّهم - فقد ردّت على مطلب المضربين ، الذين طالبوا برفع أجورهم لتتساوى و أجور المعلّمين قائلة : أتريدون أن أسوّكم بمن علّموكم .
لو كان معلّمي المنهك و المتعب من وطأة واقعه المعيش ، معلّمي و سيّدي ، الذي تقوّس ظهره كالمنجل في منتميا للمنظومة اليابانيّة أو الألمانيّة ، ما رأيته يمشي الهوينى و يتهادى على عكّازه ، و قد بدت على محيّاه آيات الخصاصة في مجتمع طفت على سطحه الجيّف و المتردّية .
فتحيّة إلى معلّمي و سيّدي ، و إلى كلّ من علّمني حرفا و أنار لي دروب الحياة الكريمة ، و أنقذني من الجهل و الجهالة و له أهدي هذه الأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي :
قم للمعلّم وفـّـــــــــــــه التبجيلا .. كاد المعلّم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي .. يبني و ينشىء أنفسا و عقولا
سبحانك اللهمّ خير معلّم .. علّمت بالقلم القرون الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته .. و هديته النور المبين سبيلا
و طبعته بيـــد المعلّم تارة .. صَــــدِىءَ الحــديدُ و تارة مصقــولا



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلام على هيروشيما و نكازاكي
- مليونا ين يابانيّ من أجل التحوّل إلى كلب
- أقدام على منصّات التتويج
- المنظور الصوفي في رواية بياض اليقين . قراءة نقديّة في رواية ...
- جناية الصوفيّة على الحضارة الإسلاميّة
- يُخرّبون بيوتهم بأيديهم
- سيميائية العلاقة بين الرجل و المرأة في رواية غابات الإسمنت * ...
- قراءة سيميائية و تفكيكيّة لرواية غابات الإسمنت . لذكرى لعيبي ...
- صورة المرأة المنتميّة في المجموعة القصصية ( إيلا ) * للقاصة ...
- تحرير الحريّة
- تأمّلات في التقشف و الزهد
- وجهة الفلسفة الغربيّة . إلى أين ؟
- الظاهرة الحزبيّة في البلاد العربيّة ما لها و ما عليها .
- امرأة من زمن العمالقة
- لماذا نكتب ؟ و ماذا نكتب ؟
- أم الخير
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )
- ربيع إيكوزيوميّ *
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )


المزيد.....




- الأردن.. جدل حول بدء تنفيذ نص قانوني يمنع حبس المَدين
- إيران تؤكد مقتل علي شدماني قائد -مقر خاتم الأنبياء- في غارات ...
- ما الذي حدث في غزة خلال 12 يوماً من المواجهة بين إيران وإسرا ...
- ألمانيا.. السوري المشتبه به بهجوم بيليفيلد عضو في -داعش-
- بزشكيان يؤيد منطقة خالية من الأسلحة النووية بما يشمل إسرائيل ...
- نيوزويك: هل كان قصف ترامب مواقع إيران النووية فكرة صائبة؟
- مقتل 17 جنديا في شمال نيجيريا إثر هجوم جديد على قواعد تابعة ...
- زيمبابوي تحطم الرقم القياسي بمبيعات التبغ لعام 2025 بأكثر من ...
- إريتريا تسعى لإلغاء ولاية المحقق الأممي لديها بعد إدانتها
- الفلاحي: المقاومة تركز على ضرب الآليات التي يصعب تعويضها خلا ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - علي فضيل العربي - ما زلت تلميذا