أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - امرأة من زمن العمالقة















المزيد.....

امرأة من زمن العمالقة


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7519 - 2023 / 2 / 11 - 12:53
المحور: الادب والفن
    


-1 -


مازالت صورة زوجها الشهيد تتوسط جدار غرفة نومها . لم تمسسها يد غير يدها . و لم يجرؤ أحد على نزعها ، أو زحزحتها من موضعها قيد أنملة . كأنها في ذاك الجدار ولدت . صمدت السنين الطوال ، و تحدت نوائب الدهر . كان البشير أسدا في جفن الوغى . قضى نحبه ، و ما بدّل تبديلا . عينان براقتان ، حادتان ، كعيني النسر . سحنة سمراء ، يطل من أفقها فجر قادم . وساعدان يحضنان رشاشا . أما إطارها فقد نقشته أنامل فنان ماهر ، و أضفت عليها صفحة الزجاج بهاء . حفظتها من رطوبة البحر ، فبدت كأنّها وليدة يوم ، أو بعض يوم .
رعتها يامنة ، كما رعت ابنيها يوسف و خيرة . تأبى أن يلامسها هباء . تلمّعها بقطعة قماش ثلجية اللون عند كل إشراقة صباح، و إغفاءة مساء . لاشيء يشغلها عنها . تبوح لها بمكنونات القلب ، فيبسط الشوق و الحنين جناحيهما ، و تشتعل الذاكرة فيضا من الوفاء .
سنون توالت ، كأنّها ساعات معدودات . مازالت كواكبها لامعة في سماء الذاكرة . لم يترك لهم الغزاة الفرنسيس و لشعبها قطمير حياة . اغتصبوا كل ما طالته مخالبهم . لا خبز يسد الرمق ، و لا ماء يطفئ الظمأ ، و لا كرامة تصون ما بقي من الروح و الجسد .
حينها أقسم البشير قسم الأبرارأنّ يخطب الحرية ، مهما كان مهرها . راودته الدنيا عن نفسه . أغرته . بسطت له أحضانها . قدّت قميصه من دُبر. لكنّه امتنع . أدرك أن الحياة تحت نير أولئك الذين سرقوا الأرض ، و هتكوا العرض باسم الحضارة ، ذل و مهانة .
و تهمس يامنة في أذن زوجها :
- نم قرير العين يا زوجي العزيز . الجزائر في قلوب أبنائها البررة .
و تهتز الصورة ، وتتحرك الشفتين و المقلتين :
- كونوا كما كنا نحن على قلب رجل واحد . لا تغرنّكم الدنيا . لا تتركوا الأعداء يدخلون بين اللحم و الظفر .
لم تشأ يامنة إخباره بما فعله السفهاء و الخونة في العشرية السوداء بأبناء وطنها الغالي ، لئلا تحزنه ، و تعكر صفو أمانيه .
- أعلم يا يامنة ما حدث . لا تحسبين أنّنا أموات ، نحن معشر الشهداء أحياء . سالت دماء و دموع . تقاتل الإخوة . أتعلمين السبب ، يا يامنة ؟
و عقلت الدهشة لسانها .
ثم أردف قائلا :
- إنّه الطمع و الخيانة يا يامنة .


- 2-

عجيبة حياة يامنة . لم تقبع في البيت مكتوفة اليدين ، تنتظر دنانير منحة زوجها الشهيد . لقد أقسمت بأن التضحية من أجل الوطن ثمنها الحرية . وليس دراهم معدودات . و لولا الفاقة ما امتدت يدها إلى فلس واحد من منحة أرامل الشهداء . تعلمت القراءة و الكتابة في أقسام المساء لمحو الأميّة . بعدما حرمها الاستدمار من نور العلم . أنفقت ساعات النهار في أرضها ، مقبلة ، مدبرة ، كالنحلة لا تكل و لا تمل . و صورة أسدها الهصور لم تفارق مخيلتها .
قالت لابنيها :
- إنّ أباكم قد انتزع لكم بروحه الحرية ، لتعيشا مرفوعي الهامة .
ولم يدركا معنى الحرية ، و لم يستلذا حلاوة العزة ، إلا بعدما بلغا رشدهما .
و ما نسيت يامنة وصيّة زوجها في تلك الليلة الماطرة ، حين سرى صوب جبال الظهرة ، و انضم إلى خير سلف . أحفاد الأمير عبد القادر ، و المقراني ، و لالة فاطمة نسومر و الشيخين أمود و بوعمامة .
قال لها :
- لا تضعفي أمامهم . الموت والحياة بيد الله . اثبتي أمام ( القايد ) ، لا تبالي بألفاظه ، و وعيده الكلاب دائما تنبح خوفا ، تتظاهر بالقوة . ثم تنكمش كالحلزون في قوقعتها ..و هل يضير القمر نباح الكلاب ؟ و إذا ضاقت بك الدشرة ، فأرض الله واسعة ، حتى يقضي الله أمره ...
ثم استطرد ، و نسائم الفداء تدغدغ أوتار النفس المتيمة بحب الوطن الغالي :
- أما أنا ، فقد عقدت العزم على مجاهدة الكفار .
و ما وهن يوما ، و لا أدبر . ركب سفينة نوح . لم يتردد هنيهة ، لم ترهبه حراب العدو الغاشم ، و لا أحقاده الصليبية المتوارثة منذ القرون الوسطى . فالتضحية في دفتر حياته ، سفر إلى الحياة الحقيقية ، حياة الصفاء ، و الخلود ، و اليقين . تعبت أرض الأجداد من سنابك الغزاة . أنحلها الظمأ . دنّسها بناة المقابر ، وحملة الإرهاب الأعمى ..لقد نحتت كلماته في أسوار قلبها جدارية ذهبية . برقت ، و رعدت ، و أمطرت غيثا ، و بلغ صداها الأطواد الشامخة .
وكم ذرفت يامنة العبرات ، يوم أضرم الدجالون نار الفتنة في قرّة عينها ؛ وطنها الغالي . و رأت بأم عينيها العجب الذي يشيب له الصبيان . و تبيّض له قوادم الغربان و خوافيها . نار اكتوى بلهيبها الحي و الميت ، الشيخ و الصبي ، و الضعيف و القوي ، يومها أدركت يامنة أنّ الوطن في خطر ، و أنّ خفافيش الظلام ، وأيادي الحركى و الأقدام السوداء ، قد بيّتت لوطنها ، و شعبها الغدر ...
دعت أبناء دشرتها إلى الوقوف كالبنيان المرصوص في وجه الظلام . فوطنها ، كان
و مازال منبع الضياء ، و كعبة السلم ، و عين الشمس .
قالت لابنها يوسف :
- مازالت أشياء أبيك محفوطة تحت وسادتي . كتابه ، و مرآته ، و رايته ، و بضع رصاصات لم يصبها صدأ ..
ثم أضافت بحماسة الثوار :
- هي إرث أبيك الشهيد . هي أمانته لك يا ولدي . ادخرتها للعدو الحقيقي . أما أبناء الوطن الواحد ، فهم إخوة مهما اختلفوا أو اقتتلوا . سيكرمهم الله بيد طاهرة تطهر القلوب ،
و تزرعها حبا و أملا .


-3-

لا تسأم يامنة من حديثها عن زوجها الشهيد . يخالها المرء عاشقة في سنّها العشرين ، ولهانة ، متيمة بحبيبها . ما فتئت مناهل حبها و وفائها ، و شوقها إلى اللقاء ، تزداد اشتعالا . وكم يغمرها الفخر المتوّج بالصبر و الثبات ، عندما تنفتح لها نافذة الذكرى .
و أنّى لها أن تنسى تلك الأمسية ؟ حين تسامع أهل الدشرة نبأ استشهاد زوجها في أتون معركة ضارية . اقتحم ، و صمد ، و جرّع الغزاة العلقم ، حتى رجعت النفس المطمئنة راضية ، مرضية إلى ربّها ، و دخلت جنته مع عباده الصالحين .
رددت يامنة صابرة ، محتسبة ، راضية بقضاء الله :
- الحمد لله الذي شرّفني باستشهاده ، و أدعو الله أن يلحقني به .
و لم تنج يامنة من حقد ( القايد ) ، و زبانية الحركى ، و إرهاب الغزاة . لكنها وقفت شامخة الهامة ، قويّة ، صلبة ، صامدة كأوراس بلادها .
و لما شرقت شمس الحرية على ربوع وطنها المضرج بدماء الشهداء ، خرجت مهللة ، مكبرة ، مزغردة ، رافعة رايته ، عالية ، خفاقة ..
و عادت الأرض إلى يامنة . ارتمت في أحضانها كطفلة اشتاقت إلى أمها طويلا . تدثرت بشمسها و قمرها و زيتونها و تينها و ثغاء نعاجها و خوار أبقارها ، وارتوت من جداولها و خمائلها و هديل حمائمها وألحان بلابله ..
قالت لابنيها :
- الآن ، بدأ الجهاد الأكبر .هيا نشمّر على سواعدنا . نحرث و نزرع و نحصد ..
وكلما أبصرت تلك السواعد السمراء ، القوية ، وهي تذبل ، وتتآكل على رصيف الميناء ، تفرغ بواخر القمح و الشعير ، يصيبها دوار و غثيان . تردد ، و الغضب يملأ جوانحها :
- آه ، منهم ..كان عليهم أن يخدموا أرض آبائهم و أجدادهم التي عبثت بها عواصف الخريف و الشتاء . لمن تركوها ؟
ـ 4 ـ

لمّا بزغ فجر الحرية ، كان قطار الحياة قد جاوز بها محطة السابعة و العشرين ربيعا . فقد زفّوها إلى البشير قبل العشرين ، على عادة أهل (الدشرة ) . كانت زيتونة عصيّة الأفنان ، راسخة الجذور . بُهت في أمرها الأعداء و الجبناء . لم يزحزح إيمانها بالنصر بطش جلاد ، ولا خيانة جبان ، ولا قسوة شقاء . سلب جمالها المورسكي عقول الرجال .
قيل :
ـ أنّها سليلة الفاتحين . عدنانية الأب ، يمنية الأم ، أمازيغية الملامح ، إفريقية الهوى . أجدادها ملأوا الأرض عدلا و حضارة . من بهائها اقتبس الربيع ضحكه ، و نسج ألوانه .
أنبأتها أمها بأنّ خطابها كثروا من أهل ( الدشرة ) ، و من خارجها . لقد أكل الحياء وجهها من سعيهم و إلحاحهم . فردّت يامنة واثقة ، متعجبة :
- أتزوج و أنا على ذمة البشير .
- البشير في جنة الخلد . و الزواج ستر للمرأة .
- أقسمت أن لا يمسسني جن و لا إنس ، حتى ألقى البشير طاهرة .
- عجبا منك ، تقضين بقية حياتك أرملة ، و حليب ثديي مازال في حلقك .
- لست أرملة . لم يغب البشير عني ليلة .
كل إغراءات الخُطاب تحطمت على صخرة الوفاء . زارت أمها مقامات الأولياء . كتبت لها التمائم بحبر المشعوذين ، دعاة الحكمة . لكنها غلّقت قلبها بألف مفتاح .
وممّا زادها فخرا و اعتزازا و صلابة ، و رفع رأسها إلى السماء السابعة ، إطلاق اسم زوجها و لقبه على (الدشرة ) . تكريما لروحه و جهاده . يومها وضعوا لها وسام زوجها ، قالوا لها :
- اطلبي ما شئت.
ظنّ الحضور أنّها ستطلب مالا ، أو جاها ، أو أرضا ، أو دكانا ، كما فعل ضعاف النفوس قبلها ، وأهل الطمع بعدها . غير أنّ دموعها سبقت كلماتها في كنف صمت صارخ وذهول ، ثم ما لبثت أن قالت :
- أطلب منكم ، الوفاء لعهد الشهداء ، و صون أمانتهم .
ثم رفعت كفيها إلى السماء قائلة :
- اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين . و ارشد شبابنا المغرر بهم في البر و البحر إلى سواء السبيل . واصلح ذات بيننا . آميــــــــن .
عظمت يامنة في أعين الناس . تمنوا لو كانوا أنملة في سبابتها ، أو هدبة في عينيها . فقد سكنت كلماتها الجوزاء .
و ما زالت يامنة تلقن أبناءها و أحفادها ملاحم نوفمبر . تقودهم كل جمعة إلى مقبرة الشهداء . تسكب في أعماقهم كؤوس العزة و الكرامة ، وتوصيهم :
- إياكم أن تنسوا أنكم أبناء الشهداء و أحفادهم . لا تلطخوا أمجادهم بزيف الدنيا . لولا نصر الله ، و فضل هؤلاء الأبطال ، لكنتم اليوم عبيدا للغزاة ...

( تمــت )



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا نكتب ؟ و ماذا نكتب ؟
- أم الخير
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )
- ربيع إيكوزيوميّ *
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
- يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
- فلسفة الوقت في حياتنا
- أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
- التعليم قبل الديمقراطيّة .
- أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
- بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
- أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 7 )
- قمّة المناخ في شرم الشيخ وما تنتظره البشريّة منها .
- أكتب لكم من الجنوب ( 6 )


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - امرأة من زمن العمالقة