أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )














المزيد.....

يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7487 - 2023 / 1 / 10 - 14:59
المحور: الادب والفن
    


كانت إقامتي – قال صديقي المعلّم ( ج ) – في الدوار ، في مسكن وظيفيّ ، داخل أسوار المدرسة ، التي عُيّنت فيها مدرسا متربّصا ، بمثابة البرج الذي صرت أرقب خلاله حركات أهل الدوار ، و أستمتع بنشاطات الفلاّحين ، و هم في نشاطهم اليوميّ الدؤوب ؛ أجل ، من عادات أهل الدوار الاستيقاظ و الطيور في وكناتها . كان يومهم يبدأ من الفجر إلى ما بعد المغرب ، و قبيل العشاء خلال فصول السنة . لا يعرفون للراحة طعما ، إلاّ نادرا . و قد لا يكفيهم النهار كلّه لقضاء حوائجهم ، خصوصا في فصلي الخريف و الشتاء ، حيث يستولي الليل على ربع النهار ، فتقصر ساعاته ، و تتقلّص ساعات نشاطات الفلاحين في حقولهم المبعثرة على سفوح الجبال و كواهلها و هضابها .
و كنت أنهض فجرا ، على صياح ديكة الدوار . كانت هي من يوقظني ، كما توقظ أهل الدوار ، و هي لا تقدم في مواعيدها و لا تؤخر ، هي أدقّ وفتا من المنبّه ...فأسترق السمع لأحاديث الفلاحين الذاهبين إلى حقولهم ، أو المتسوّقين إلى الأسواق الأسبوعيّة القريبة من دوارهم ؛ و من عادتهم – كونهم يعيشون في فضاء مفتوح – أن تكون أحاديثهم بصوت جهوريّ ، و لو كانوا أقرب إلى بعضهم البعض ، فيذيعون – دونما شعور منهم – أسرارهم ؛ كان أغلب المتسوّقين من الشيوخ و الكهول ، منهم الراجل ، و الراكب على أتانه أو بغلته يسوقها بإلكاد ، و بصوت جهير ، أٍررر. إيييييي...و قد يلهب سيرها بسوطه الجلدي أو خيزرانته ( عصا معقوفة من أعلى ) أو بشوكة صبّاريّة حادة .. أما الفتيان و الشباب ، فمهامهم في الدوار ، الرعي و جلب الماء الشروب ، على ظهور الدواب ، في القرب ( وعاء من جلد الماعز ، معطّر بالقطران ) أو أوعيّة و صفائح مطاطيّة ...
و واصل صديقي المعلّم ( ج ) سرد مذكّراته الريفيّة بحماس و حنين :
ما زلت أذكر ، أوّل حصة في مدرسة الدوار .. فقد أدخلت التلاميذ إلى القسم ، بعد الوقوف في ساحة العلم ، و الاستماع للنشيد الوطني .
و في قاعة الدرس ، جلس التلاميذ قبالتي ، كل في مكانه ، مثنى مثنى ، و جلست أنا في المكتب الخاص بي . و تعمّدت أن أطلق لهم العنان للهمس و الحديث الثنائي بينهم ، لكنّني لم أسمع أصواتهم كلّها ، - قد كنت أودّ سماعها - . كانوا – كما قدّرت - خجولين ، حذرين ، يتحدّثون بنظراتهم أكثر من شفاههم .
ثم طفقت أجوس بين الصفوف الثلاثة . و أنا أتفقدّ حركاتهم و نظراتهم و ابتساماتهم و هيآتهم ، و سحنات وجوههم التي لفحتها شمس الصيف و الخريف . ثم قمت بإعادة تنظيم جلوسهم ؛ فأجلست قصار القامة في المقدّمة ، يليهم متوسطها ، و خلفهم طوال القامة . فعلت مثلما فعل معلّمي في الابتدائي ، جزاه الله خيرا .
و لمحت في عيون تلاميذي البراعم ، هدوء الريف ، و طيبة أهله ، و صفاء جوّه . و لم أر أدنى اعتراض أو تبرّم من أحد منهم . بل شعرت بهم فرحين ، مشدودين إلى كلّ حركة تصدر منّي .
قلت لهم :
- هذه هي أماكنكم حتى نهاية السنة . إلا إذا حدث طارىء ما .
و كنت أقصد بالحدث الطارىء ، اكتشاف تلميذ له قصور في البصر أو السمع ، أو انتقال تلميذ إلى مدرسة أخرى ، أو لا قدّر الله ، أو توقيف تلميذ عن الدراسة من لدن وليّ أمره ، أو أو أو .
كان اليوم الأول ، يوم بداية مسيرتي التعليمية ، و لحظات استكشاف و جسّ النبض . و أنا الذي لا تجربة لي و لا خبرة في عالم التعليم . و كان حظي أو قدري ، أن أبدأ الرحلة التعليميّة من مكان مجهول ، و من أعماق دوار لا عهد لي به ، و من مدرسة ريفيّة في موقعها الجغرافيّ ، و في تلاميذها و أوليائهم الفلاّحين . و تمثّلت نفسي في معركة حاميّة الوطيس - لا هدنة فيها – أحارب عدوّا ظلوما ، ألا و هو الجهل . أجل ، إنّه الجهل بعينه ، الذي سلّطه عليهم ، و على آبائهم و أجدادهم ، المستعمر الفرنسي ، مدّة قرن و ثلاثة عقود من الزمن الأغبر ، و الذي أقفل عقول ، و أوهن قلوبهم ، و أظلم دروبهم ، و أضاع حقوقهم ، و سلب حريّتهم ، و حرمهم من العيش الكريم ...
و أوصيت تلاميذي ، ذوي النظرات الملائكيّة - و كلّي إشفاق عليهم ، خشية إرهاق أوليائهم أو تكليفهم ما لا يطيقون - بوجوب إحضار قائمة الأدوات المدرسيّة لسنتهم الأولى في رحاب مدرسة الدوار ؛ محفظة و كراريس و أغلفتها و أقلام جافة و ملوّنة و ممحاة و مسطرة . أمّا كتب الخط و الحروف و الحساب ، فهي متوفّرة في خزانة القسم ، بعدما وفّرتها وزارة التربيّة للتلاميذ مجانا ، فضلا عن وجبة الغداء اليوميّة ، بالإضافة إلى كأس حليب لكل تلميذ عند التحاقه صباحا بصفوف الدرس . و لم يكن أطفال الدوار في حاجة إلى الحليب الصناعي المستورد من خارج الوطن ، بل و لم يذوقوا طعمه ، قبل تمدرسهم ، و لم يعتادوا على شربه طيلة السنة ، فقد رفضوا احتساءه ، برغم النصائح و الوعيد .. لمست نفورهم الشديد من شرب الحليب المدرسي ، فهم – في صباهم - يرضعون من أثداء أمهاتهم حتى بلوغ سنتهم الثانيّة من أعمارهم . فإذا فطموا ، كان حليبهم من ضروع البقر و الماعز و الأغنام التي تربّيها أسرهم ، و يقومون هم بسرحها ..



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ربيع إيكوزيوميّ *
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
- يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
- يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
- فلسفة الوقت في حياتنا
- أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
- التعليم قبل الديمقراطيّة .
- أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
- بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
- أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 7 )
- قمّة المناخ في شرم الشيخ وما تنتظره البشريّة منها .
- أكتب لكم من الجنوب ( 6 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 5 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 4 )
- أكتب لكم من الجنوب ( 3 )


المزيد.....




- ذاكرة الألم والإبداع في أدب -أفريقيا المدهشة- بعين كتّابها
- “361” فيلم وثائقي من طلاب إعلام المنوفية يغير نظرتنا للحياة ...
- -أثر الصورة-.. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الف ...
- بإسرائيل.. رفع صورة محمد بن سلمان والسيسي مع ترامب و8 قادة ع ...
- الخرّوبة سيرة المكان والهويّة في ررواية رشيد النجّاب
- -عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
- الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر ...
- بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا ...
- قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
- الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي فضيل العربي - يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )