محمد ناجي
(Muhammed Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 6784 - 2021 / 1 / 10 - 18:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(موقف الطاغية هو موقف ذلك الذي يقطع شجرة لكي يقطف ثمرة) مونتسكيو
المتابع لما ينشر في مختلف وسائل الإعلام من مواقف النخب والشارع العراقي والعربي ، والتي تتعلق بالحكام والأنظمة الدكتاتورية ، يراها بعيدة عن الصواب ، لأكثر من سبب لا مجال لذكرها هنا . وبدلا من أن تسلط الضوء على جوهر أنظمة الاستبداد ، باختلاف مسمياتها ، وهو الانفراد بالسلطة والقرار ، وبالتالي قمع الرأي الآخر المعارض ، يراها تبتعد وتلجأ إلى تبرير الدكتاتورية وتحسينها بمفردات رطانة خطابية مع ذكر الصفات الشخصية للديكتاتور ، لتوحي بأن الدكتاتور ينفرد ويتميز بها على غيره ، وكأنها المؤهلات المطلوبة لتولي مسؤولية الحكم ، أو بما تنسبه له من إنجازات ، وتجهل أو تتجاهل أن الكثير إن لم يكن أغلب الدكتاتوريين لهم انجازاتهم أيضا . أو تطالب وتدعو لتقدير ظروف الحدث ، وهذا المبرر دائم التكرار ، رغم أنه عاجز عن استبعاد وصمة الدكتاتورية .
في هذا المقال الذي حرصت على ترجمته بعض المعلومات ، منها الصفات الشخصية لسالازار وبعض إنجازاته ، وأيضا مدى شعبيته ، والتي لم تمنع أن يوصف شخصه ونظامه بالدكتاتورية . آمل أن يكون فيها ولو شيئ من الفائدة ، وتساعد في تصحيح العيب في الموقف من الطغاة حيثما كانوا .
محمد ناجي
(سيرة شخصية) جديدة تتحدث عن سالازار الفاشي المختلف
في العام الماضي 2020 مر 50 عام على وفاة ديكتاتور البرتغال أنطونيو سالازار ، والذي حكم البلاد لمدة 36 عام ، وهي أطول مدة حكم لدكتاتور في أوربا في القرن العشرين . هنريك برانداو يونسون (1) قرأ كتاب عن سيرة شخصية جديدة عن السياسي المتقشف ، الذي لا تزال أعماله تثير نقاش محموم .
القصيدة الاولى لـ(توماس ترانسترومر) (2) التي تركت أثرها في نفسي كانت " لشبونة " والتي نشرها الشاعر في ديوان (اصوات وسكة) عام 1966 .
في حي الفاما غنّت عربات الترام الصفراء /
على الطريق المرتفع /
هناك يوجد سجنان . أحدهما للصوص /
ها هم يلوحون بأيديهم من خلال قضبان النافذة /
يصرخون يريدون من يصوَّرهم ! /
" لكن هنا " قال بائع التذاكر بـضحكة مكبوتة مثل انسان منكسر /
" هنا يوجد سياسيون" . انا شاهدت الواجهة ، الواجهة ، الواجهة /
وفي الأعلى هناك نافذة وشخص يقف معه منظار ويتطلع باتجاه البحر .
البناية التي يقصدها ترانسترومر هي سجن اليوبه ، مقابل الكاتدرائية في لشبونة ، هناك وضع الدكتاتور سالازار المعتقلين السياسيين . قبل خمس سنوات تحول السجن إلى متحف المعارضة لنظام دكتاتوري حكم أطول مدة في أوروبا ، امتدت من 1926 ولغاية 1974 . الجزء الأكبر من هذا الوقت - 36 عاما - حُكمت البرتغال من قبل أستاذ الاقتصاد الدكتاتور أنطونيو دي أوليفيرا سالازار . أن لايجري الحديث عنه بنفس القدر عن بقية الفاشيين الآخرين - موسوليني وفرانكو - لا يعود فقط إلى نسيان ذكر البرتغال في التقارير التي تكتب عن جنوب أوروبا ، بل بالرغم من وجهه الشبيه بالطيور الجارحة ، كان من الصعب وضعه معهم . كان فاشيا مختلفا .
بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته أصدر المؤرخ الاسكتلندي توم كالاگر كتاب "سالازار - الدكتاتور الذي يرفض الموت" ، وهذه أول سيرة ذاتية شاملة عن الدكتاتور تكتب باللغة الانكليزية . ومنذ بداية الفصل عن الحرب العالمية الثانية ، يبين الكاتب الفرق بين أعمال فرانكو المؤيد لهتلر وبين سالازار ، الذي اتبع موقفا أكثر قربا من موقف السويد ، فكان يبيع المعدن الخاص بصناعة اسلاك التنگستين للصناعة الالمانية ، وفي نفس الوقت سمح للحلفاء باستخدام جزر الأزور كقاعدة للتحري عن الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي .
لعب سالازار دورا في إنقاذ اليهود ، ليس فقط بتوفير امكانية هروب المئات منهم من جبل طارق إلى جزيرة ماديرا ، بل أنه فسح المجال لمبعوثه إلى بودابست - الدبلوماسي كارلوس دي ليز تيكسيرا برانكوينهو - وأطلق يده للقيام بنفس العمل الذي قام به الدبلوماسي السويدي راؤول فالينبري . وخلال خريف 1944 أنقذ الدبلوماسي اكثر من الف يهودي من معسكرات الاعتقال بواسطة تزويدهم بوثائق سفر برتغالية .
السيرة الشخصية القت ضوء جديد على سبب حدوث حرب المستعمرات في أفريقيا ، التي وقعت ما بين سنوات 1962-1974 في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو . فعندما اندلعت انتفاضة الاستقلال في شمال أنغولا طلب الرئيس الامريكي جون كندي من البرتغال بأن تغادر المستعمرات ، والا فان الولايات المتحدة ستطرح القضية في مجلس الامن التابع للامم المتحدة وسوية مع الاتحاد السوفييتي تطالب بانسحاب البرتغال من المستعمرات . شعر سالازار بالجنون ، فهو يرى المستعمرات كجزء من الجسد البرتغالي ولا يمكن أن تقطع جزءا من الجسد . في اليوم التالي لتصريح كندي جمع الديكتاتور عشرة آلاف متظاهر خارج سفارة الولايات المتحدة وهم يهتفون ( أمريكا لسكانها الأصليين) .
وكان لدى سالازار الورقة الرابحة في كُم معطفه . فمنذ بداية الحرب العالمية الثانية سمحت البرتغال للولايات المتحدة بوجود قاعدة جوية في جزر الأزور . والاتفاقية تُجدد كل خمس سنوات ، واذا استمرت الولايات المتحدة بالتدخل بالمصالح البرتغالية في أفريقيا فسوف لن يجدد سالازار الاتفاقية ، وحينها ستفقد الولايات المتحدة أهم قاعدة من قواعدها الجوية خلال الحرب الباردة . لعب سالازار أوراقه واستخدمها بقوة وبمستوى عالي وربح . ومن ذلك الحين لم تذكر الولايات المتحدة حرب المستعمرات البرتغالية ولا بكلمة واحدة ، وهي لاتزال باقية حتى اليوم في قاعدة لاجيس الجوية في جزر الأزور . هذه التسوية الجيوسياسية كانت على حساب أرواح مئات الآلاف من البشر في افريقيا ، واجبرت عشرات الآلاف من البرتغاليين على الهرب من البلاد لينجو من الخدمة العسكرية .
أحد الاعتراضات على السيرة الشخصية هو أن الكاتب گالاگر لم يخصص مساحة كافية لنتائج حرب المستعمرات ، وكتب أن البرتغال فقدت 8.290 جندي في الحرب ، وقارنها مع عدد ضحايا حوادث السير ، التي بلغت 9.694 شخص بين سنوات 1990-1994 . لقد شعرت بالاستفزاز من هذه المقارنة . كما لم يذكر المؤلف في أي مكان (من الكتاب) عدد الضحايا الأفارقة ، ولم يذكر أيضا أن ما بين 120.000 - 140.000 برتغالي لا يزال يعاني من الآلام والآثار البدنية والنفسية لما بعد الحرب .
سالازار كان ذو شخصية قريبة من التوحد ، وكان صارم ، ومتحفظ ، ولا يملك سكن خاص به . ملكيته الوحيدة بيت ريفي لا يساوي كثيرا . كان مثل الرئيس مازاريك أول رئيس لجيكوسلوفاكيا - سياسي متقشف ، ذو موقف بعيد عن مظاهر الفخامة والترف والمنفعة الشخصية . وهو لم يتزوج ولم يكن له أطفال او عشيقات . الشخص الأقرب له كانت المسؤولة عن ادارة شؤون المنزل ماريا دي يسوس ، وعلاقة الحب الوحيدة لديه كانت مع الصحفية الفرنسية كريستين غارنييه التي ألفت كتاب " عطلة مع سالازار " ، بعد عطلة نهاية أسبوع قضتها معه في بيته الريفي .
وفاة سالازار لم تكن مثيرة أيضا . قبل ظهر يوم 3 آب/أغسطس 1968 استلقى على كرسي الاستلقاء للتشمس ، الذي تحطم وسقط على ارضية الشرفة في القلعة التاريخية في المنتجع البحري استوريال ، الذي كان مقر إقامته الصيفية . ارتطم رأس سالازار بالأرض ، وأصيب بجلطة دموية وبعدها بنزف في الدماغ ، وفقد النظر بإحدى عينيه ، والشلل في احدى ذراعيه . على إثرها سلّم السلطة إلى أستاذ جامعي وقانوني مخلص له . بعدها بسنتين في 27 تموز/يوليو 1970 توفي سالازار وهو بعمر 81 سنة . وعندما حققت الدولة في تركته وجدوا أن له مبلغ لا يساوي أكثر من قيمة شقة بثلاث غرف في لشبونة في ذلك الوقت .
قبل 13 عام عرض RTP (راديو وتلفزيون البرتغال) مسلسل وثائقي عن شخصيات البلد التاريخية ، حيث صوت المشاهدون وبفارق كبير لصالح سالازار فكان (البرتغالي الأكبر على مر العصور) ، وجاء بالمركز العاشر فاسكو دي غاما . هذه النتيجة تفصح عن علاقة غير عادية يكنها البلد للدكتاتور المتوفى .
رغم أن البرتغال هي إحدى البلدان القليلة في أوروبا التي تديرها حكومة اشتراكية ديمقراطية منذ عام 2015 ، مع ذلك لا يزال ظل سالازار موجود ، والبعض يراه أب البرتغال ، بينما يرى آخرون أنه كان جلادا ، وفي سجن اليوبه ، الذي كتب عنه ترانسترومر قصيدته ، كان شرطة الأمن PIDE يعدموا او يعذبوا آلاف المعتقلين السياسيين .
عندما زرت المتحف في الخريف الماضي امتدحت الشكل الحديث للمعرض وسألت موظف الاستعلامات عن انطباع جيل الشباب عن المتحف ، فأخبرني أن غالبية طلاب المدارس معجبون بالمعروضات ، لكن غالبا ما يظهر أحد الطلاب ويقول أن المعرض مزور ، أحدهم قال لي : " سالازار كان رجل جيد " ، سألته : " كيف عرفت " أجاب : " هذا ماقالته جدتي " .
هوَس الحنين لسالازار في الفترة الأخيرة أثار جدل محموم في البرتغال . الذي أشعل فتيل النقاش كان مقترح لتأسيس متحف في كومبا داو مسقط رأس سالازار في وسط البرتغال . الفكرة كانت أن المدرسة التي درس فيها كطفل ، أرادت عرض الحاجات الشخصية للدكتاتور ، وخوفا من أن يتحول المتحف إلى مكان يحج إليه الفاشيين ، وقّع 11.000 برتغالي على نداء طالب بوقف المخطط . استمر النقاش ووصل إلى البرلمان حيث شكلت لجنة . أحد الأعضاء من الحزب اليميني PSD دافع عن المشروع :" الذاكرة مهمة ، كلاهما الجيدة والسيئة ، كلاهما ينبغي أن تتذكر " . كلماته جعلت رئيسة اللجنة ، التي تنتمي للحزب الاشتراكي PS ، أن تقول بتهكم " عندما كنت مؤخرا في ألمانيا لم اشاهد اي متحف تذكاري للنازية .
الحنين لسالازار استدعى بالمقابل ما كان مكبوتا لدى الكثيرين ، ومنها أن موقفه المعادي للتعليم هو السبب في أن البرتغال لا تزال أكثر بلدان غرب أوروبا تهميشا - مع أدنى مستوى للأجور . فسالازار لم يريد ان يكون البرتغالي ذكيا . في احدى المقابلات قال "الكثير من أي شيء ، غالبا ما يسبب الفساد" . دولة سالازار الجديدة (3) خلقت جو رمادي منقبض ، جعل البلد وكأنه أشبه بموقع امامي لدول أوربا الشرقية في شبه جزيرة ايبريا ، فأكثر من نصف مليون برتغالي ، تقريبا ربع السكان هربوا من دكتاتوريته . الاكثرية ذهبوا إلى فرنسا ، لهذا تسمى باريس ثاني أكبر مدينة برتغالية .
عندما تركت سجن اليوبه ، الذي يسمى حاليا متحف المقاومة والحرية ، حجزت سيارة تكسي سائقها مولود بعد ثورة القرنفل عام 1974 . عندما عبرت عن أسفي للتعذيب الذي حدث في السجن حدّق السائق في المرآة الأمامية ونظر لي قائلا :
لكنهم كانوا شيوعيين !
حين يدافع الذين نشأوا في ظل الديمقراطية عن سالازار ، فهذا يشير إلى أن البرتغال هي أيضا أصيبت بحالة الاستقطاب السياسي في الوقت الحاضر ، وكل شخص يختار المعلومات التي تناسبه .
هنريك برانداو يونسون
صحيفة (داغنس نيهتر) السويدية 27 - 12 - 2020
( الملاحظات والروابط إضافة من المترجم م.ن. )
1- هنريك برانداو يونسون مراسل الصحيفة في اميركا اللاتينية .
2- توماس ترانسترومر 1931-2015 شاعر سويدي ومختص نفسي ومترجم .
3- الدولة الجديدة أو الجمهورية الثانية هي التي أعلنها سالازار عام 1933 .
https://www.youtube.com/watch?v=-VZRDO4aY-Y لقطات عن بداية (الدولة الثانية) لسالازار وعدد من منجزاته
https://www.youtube.com/watch?v=2k7X_o42nVQ لقطات عن تشييع سالازار وشعبيته
#محمد_ناجي (هاشتاغ)
Muhammed_Naji#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟