|
جنون ، وضياع … ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 6762 - 2020 / 12 / 16 - 10:42
المحور:
الادب والفن
اكثر ما كان يثير فضولي ، ودهشتي ، ولا يبتعد كثيرا عن مخيلتي اليافعة ، ما كنت اراه يوميا من انتشار حالات الخبل المجاني في حينا الفقير البائس كأنه طاعون ، وانتشر … امرأة مكومة في ركن منعزل .. يصفعها هواء الشتاء البارد ، مهلهلت الثياب ، منكوشة الشعر ، هزيلة البناء ، كظل انسانة لعبت بها المقادير .. ملامح صامتة لا تعكس اي معنى او تعبير .. تناجي في سرها احلاما وردية ، تضحك ببله عن اسنان سوداء مبعثرة ، لا تبالي بلغط المارة ، وسخريتهم .. لها عالمها المبهم ، تنطوي عليه بمعزل عن عالم الاخرين .. يطوقها صمت نادر لا تخدشه سوى أنّاة الرياح الباردة .. جثة منسية تتحرك فوق الأرض كأنها لاشئ … انها فوزية المجنونة ! العالم حولنا مليء باسئلة ، واسرار لا يُسبر لها غورا ، ولا يُعرف لها تفسيرا .. لعقل بكر .. لا يزال طفلا كعقلي ! التصق بذاكرتي الى الان .. ما كان يوما من ايام الشتاء الباردة .. تجمعت فيه قطعان من السحب الداكنة ، والعابسة .. تنذر بعواصف ، وامطار .. نسمع كما كل يوم ، قرعا على صفيحة فارغة تُخرِج ايقاعا .. ضجيجا من نوع ما ، تصاحبها اصوات طقطقات بلا معنى تخرج من شفاهٍ جافة سوّدها الدخان ، وسوء التغذية .. تتشكل شبه دائرة حول مهدي .. من اطفال ، وصبيه بالرغم من ملامح الجو الغاضبة .. بقايا شاب يفترسه جنونٌ فرضته عليه الاهوال ، والمصادفات القاسية .. يعتريه ذبول الايام ، ومعاناتها .. في عينيه حزن يمتد عمقه سنوات طويلة الى الوراء .. لا تستره الا اسمال بالية لم يبقى من جنسها شئ .. بنيان انساني قائم ، وتهدم .. في مشهد كوميدي اسود يفتقر الى الفكاهة ، ويبعث على الحزن ! انتشرت الاشاعات كالرذاذ تتحدث عن اسباب جنونه .. فمن قائل قد يكون حبا فاشلا ، او صدمة سببتها خسارته لامواله في مغامرة طائشة غير محسوبة ، وقد وقد .. لكنه جنون على اية حال .. كغيره ! نسوة واقفات على ابواب البيوت في ترقب .. يلقين عليه نظرات حزن محايدة .. نعياً لشبابه الضائع المهان ، ومصيره التعس .. حملت اليَّ ذرات الهواء بعضا من كلماتهن : مسكين ، حرام … ! في غزارة الضجيج ، والبهجة .. تشتعل الحركة في الاجساد العطشى الى المرح المجاني ، ورغبة ملحة في تناسي الواقع المر .. يشاركه البعض الرقص دون ايقاع ، والغناء دون طرب .. باغراء من ضرب يخرج مرسلا .. هائما من الصفيحة الجوفاء تتلقاه الاجساد الراقصة فتتمايل بهدوء ، وخجل .. جسده كله يشارك في الرقص دونما توازن يذكر .. ! ثم يلقي فجأةً بالصفيحة جانباً بحركة لا معنى لها .. بعد ان يأخذه حماس الجنون ، ويتلوى برشاقة الطير كما تتلوى السنة اللهب ، وهو يفرقع باصبعيه في الهواء .. مبتهجا ايما ابتهاج .. ! يتساقط المطر بتثائب ثم ينهمر .. يواصل مهدي ممارسة طقسه اليومي بلا ادنى مبالاة لكل ما يدور حوله من اهوال .. نظرات تتوزع بين ازدراء بارد ، ورثاء .. يستمر طقس الجنون ، وضجيجه دون تحفظ ، ولا مراعاة لشئ محدد .. وفي كل يوم يمر كان الجنون يسرق جزءً مهما من عمره الضائع ! كان الجميع بحاجة الى نفحات من دفء بعد التعب .. ينسحب الراقصون تحت وطأة المطر ، وهبات الهواء الباردة .. بعد ان غسلت الامطار الحي من ترابه ، ولوثت ارضه بالطين .. تغوص الاقدام العارية في الوحل دون واعز من احساس او مبالاة . يتناثر الماء المعفر بالطين من الحفر المنتشرة عندما يخوضها الاطفال المزكومين باقدامهم العارية ، وتنتشر روائح العفن التي ايقظها المطر .. ترتجف الاجساد الهزيلة من لسعات البرد .. ضبطتُ دهشتي ، وانا ازفر في أسف .. امام هذا المنظر السريالي العابر ! يبقى مهدي صامدا منتعشا كعصفور مبلل محافظا على ايقاعه المجنون بسرور ظاهر كمن له الارض لوحده .. مجرداً من اي احساس بما يحيط به من برد ، وبلل .. تاركاً الحرية لقدميه تقودانه وسط تلافيف الشوارع ، وازقة الحي الضيقة ، وبيوته المتعانقة بلا انسجام ، ولا مودة .. يتبعه شريط من الصبيان الباحثين عن اللهو البرئ ، وهم يخوضون في الارض الطينية اللزجة ، والقاذورات .. يوزع افراحه ، والمه فُتاتاً كأنه ملكٌ مخلوعٌ يعود منتصراً الى عرشه … بعد ان تسللت برودة الجو الى عظامه ، يتراجع قليلا ليطوي الفصل الاخير من الملهاة العاصفة ، وكأنه قد افرغ كل شحنته .. يُمسك عن الكلام ، والحركة .. وجهه يُشرق بابتسامة ماكرة .. يكشف بشكل مفاجئ ، وبحركة مبتذلة فاقعة .. لا تخطر على بال .. عن مؤخرته ، وهو يربت عليها بسفالةٍ موحية .. ضاحكا بصوت هادر ، ثم يولي هاربا كمهر بري شارد .. ويختفي في طيّات العدم !
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعوب العربية … آخر من يعلم ، وآخر من يهتم !
-
المصالحة الفلسطينية … الحلم !
-
هل اصبحت الحرب مع ايران قدرا … لا مفر منه ؟
-
عودٌ على بدء … !
-
هل يمكن ان يعيد التاريخ نفسه في 2024 ، ويفوز ترامب !
-
هل يمكن ان تكون الانتخابات الأمريكية … مزورة ؟
-
هل يمكن ان تأمن لصداقة قوم … الخير فيهم هو الاستثناء ؟!
-
آمنت لك يا دهر … ورجعت خنتني !
-
باي باي … ومع الف شبشب !
-
هل اصبح الاسلام ، والمسلمون شوكة في حلق الغرب ؟
-
الاديان … بين نصف العقل ، واللاعقل !
-
رد الفعل الفرنسي الانثوي سيكون وبالا على فرنسا !!
-
من سيفوز في التكالب الرئاسي الى البيت الابيض ؟!
-
التحريض … من مغذيات الارهاب … !
-
هل يعيش العرب اليوم مرارة الهزيمة ؟!
-
ماذا يريد الاخوان … ؟!!
-
الضرب في الميت حرام … !
-
الاخوان المفلسون يصبون الزيت على النار … !
-
هل التطبيع سيحدث فرقا في ميزان القوى بين الاسرائيليين والفلس
...
-
تعليق … على رد فعل ماكرون على قطع رأس احد مواطنيه !
المزيد.....
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
-
منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا
...
-
قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|