أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - شفرات حلاقة صالحة للتدوير -5-















المزيد.....

شفرات حلاقة صالحة للتدوير -5-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 6759 - 2020 / 12 / 12 - 20:40
المحور: الادب والفن
    


في الساعة الحادية عشر تماماً
أمام مدخل محطة المترو "سلون سكوير"
في الجنوب من مدينة لندن
كان موعد لقائك معها.

من محطة "ستون بريدج"
في الشمال من مدينة لندن
تصعد إلى قطارِ المترو "خط باكيرلو"
بعد عدة محطات
تنزل في محطة "بادينغتون"
ينبغي عليك تغيير الرصيف وخط السفر
تأخذ قطار "خط سيركيل"
الذي سيوصلك إلى وجهتك.

عند المداخل والمخارج من محطة "بادينغتون"
تلسعك نسمات برد قادمة من الأنفاق
تيارات هواء بارد
تُولِّدها الوصولات والانطلاقات السريعة للقطارات.

باليمنى تُحْكِم وضعَ الشال حول رقبتك
باليسرى تضغط قبّعتك على رأسك برفق
تقفل أزرار سترتك
تنظر بنزق إلى الجرائد المنسية على مقاعد الانتظارات
ترنو إلى مؤخرة إمرأة عابرة
تنفرج أساريرك
خطوات قليلة تمشيها
ويصبح الدفء سيد المحطة.

وأنت الغريب تُحدِّق في كل شيء
تحملق في اللوائح والتعليمات والإعلانات
في اتجاهات خطوط السفر وتراتبية المحطات
تنظر إلى وجوه الناس العابرة
إلى ملابسهم وحقائبهم وانشغالاتهم واستعجالاتهم
ترى وجوهاً
من كل الألوان
من كل الأعمار
من كل الأقطار والأصقاع
من كل المهن
تراها في حالة دفاع
عن تواجدها
ومكاسبها
وحقوقها.

وأنت الرجل الذي تجاوز الطفولة منذ زمن
تأتيك تلك الرائحة!
طالما عذَّبتك منذ الساعات الأولى لوصولك المدينة
منذ الثواني الأولى لمرورك بهذه المحطة
محطة الدب "بادينغتون"
تأتيك رائحة المكان العميق
رائحة الظّل والماضي
قادمة من آبار غميقة
من أنفاق عتيقة
من بقايا ذكريات عن حروب عالمية
رائحة آتية من الشحوم والزيوت
من عطر الرطوبة في الحجر
من الحديد حين يحّنُ على الحديد
من غبار الفرملة
من الاهتراء والاهتلاك البطيء
لهياكل الحديد
والناس
والمدارج
والحجر
والدهان على الجدران

رائحة السفر
رائحة السرعة والوصول
رائحة الصعود والهبوط
رائحة الوقوف والمشي والجلوس
رائحة السؤال عن المحطة القادمة
رائحة الانتظار والهلع
رائحة الناس كل الناس
النساء والرجال والمراهقين والمراهقات
رائحة الموسيقى
القادمة من كوريدورات العبور
وتقاطعاتها ومنعطفاتها وارتجاجاتها
رائحة بائع الجرائد
رائحة عازف البيانو الحزين
رائحة جسد راقصة رومانية حافية
رائحة مغنية من أوربا الشرقية.

وأنتَ؟
أيها العابر المؤقت
قُلْ لي: ألا تشعر بها؟
...
نعم إنّها هي
كما أنتَ ظَننتها
إنّها رائحة الروائح
أحسدكَ
لقد استطعتَ تحديدها
لمْ يبقَ من العمر ما يكفي لتمييز عطر الروائح المدفونة
بلى
إنّها رائحة المداجن!
كلّا
إنّها رائحة الصيصان الصفراء
وتلكَ المصبوغة بالدهان الأحمر والأخضر والأزرق
وتلك المبّقعة باللون البرتقالي والأخضر الفاتح!

نعم .. نعم .. إنّها رائحة الصيصان وحسب
تلكَ التي كنت تشتريها في طفولتك
من مصروف جيبك
بعد اشتغالك في موسم حواش شجر الزيتون
بعد تعفيرك حبّات الزيتون من الحقول المجنية
بعد بيعك لكيلوين من أكياس الخضروات الورقية
التي صنعّتها بيديك الصغيرتين
من أكياس الإسمنت الفارغة الوسخة المَرْمِيّة
كنت تنفضها
تسّويّ سطوحها
تقصها
ترتّبها فوق بعضها
تجفِّفها من رطوبتها
تطويها باحترافِ طفل أتقنَ المهنة
تلصقُ طيّاتها بالخرنوب أحياناً
أو بالنشاء
كنت تطبخه بنفسك من بقايا الخبز اليابس والماء
ثم تُشمِّس الأكياس التي أنتجتها لساعات
إلى أن يجفّ اللاصق.

بنقودك الخاصة كنت تشتري الصيصان من سوق المدينة
سوق الإبرة والخيط
سوق الأسماك والألبسة البالية
سوق الأفلام الهندية
سوق أعمدة أوغاريت
تشتري بقدر ما خبّأته ووفرت من نقود
بحسب سعر الصوص ولونه
تنتقيها نشيطة مبرقعّة بالأحمر أو بالأخضر

تعبّئها في كيسٍ ورقيّ
تفتح فيه ثقوباً للتَهْوية
تخبّئها في خيمة من قصب على سطح البيت
تختلس كمشةً من البرغل المخْزّن في العنبّر لتعلفها
تصنع للصيصان قفصاً من علبة كارتون فارغة
بشفرة حلاقة قديمة تشقُ للقفص الكارتوني باباً ونافذة
تفرش أرض العلبة بالبرغل والعشب اليابس وثمار التوت وورق التوت
تفرحُ لاستنشاق الرائحة
رائحة الصيصان والبرغل والتوت والفضلات.

تُربِّي صيصانك لبضعة أيام
تمرض وتموت
تتساءل: هل ماتت جوعاً أو عطشاً؟ أو ربما حنقاً؟
وإلّا لما دَأَبت على نقر جروح أقدامك المنعقرة غير المندملة.

كنت تحملُ قفصك وتمضي به عبر الحقول
غالباً ما تجلس تحت شجرة "الدارمليلية"
شجرة زيتون كبيرة مزروعة على منصةٍ ترابية عالية
تفترشُ الأرض تحت شجرتك المُفضَّلة
متلَّذذاً رطوبة تربتها.

تفتحُ بابَ القفصِ
تَتَبَخْتر الصيصان في خروجها كالأمراء
تبحثُ في تربةِ الأرض عمّا يُؤكّل
حبّات زيتون اِستوت وتخمّرت
فتات مُبعثر من طعام أمس "مجدّرة"
برغل مع عدس
قشور بصل يابس وبندورة وبذور عنب أبيض.
يتبع أحد الصيصان إغراء جرحك المقّيح المعقور
مثل ساق دابة
يتبعه وكأن "العقر" في قدمك
دجاجة تَرُقّ: "رُقْ رُقْ رُقْ"
يتبعها الصوص
يستغل انشغالك عنه
ينقرُ جرحك كما يَنقرُ الحَبَّ
يَحفرُ جرحك بمِنْقَاره بسرعة رهيبة
يَخرقه.. يخترقه
يتخرَّبُ الجرح
ينزف قيحاً ودماً
فيرتفع صوتك بالعواء.

تنهض عن قعدتك كمن لسعته أفعى سامة
ترقص
تبكي
تعوي من شدة الألم
تلعن الصوص واللَّون الأصفر والشجر
تتابع رقصتك وقفزاتك
يحتارُ الصوص من رقصتك الحانقة
يهرب من ثقل أقدامك الحافية
يختبئ في ظلّها حين ترتفع
ويهرب من الظلّ حين تهبط.

بين اختباء وهروب تدوسه قدمك الموجوعة
دون انتباه
تضغطه بكل ما تحمل من ألم ولوعة
دون قصد
تعتصره عصراً
تحزن عيونك الصغيرة كثقب الأبرة.

يتعب جسده ويرتجف
يلفظ أنفاسه الأخيرة
تخرج أمعاؤه من مؤخرته
يغمض عينيه
إغماضة وداع واعتذار
ما كان قصده إيلامك.

يتوقف عويلك جرّاء الجرح المُخرَّب
ليصيرَ حزناً على صوصٍ أصفر ملطخاً بالأحمر
تبكي خسارتك
تحفر قبراً
تدفن صوصك
تزِّين القبرَ بحصوات صغيرة
تغرسُ فوقه قطفة ريحان.

تعود إلى جلستك تحت الشجرة
كل ما حولك يعبق برائحة الصيصان
الرائحة الهجينة ذاتها
التي اقشعرّ لها بدنك للحظات
آن عبرت ممرات ومنعطفات محطة مترو الأنفاق
محطة "بادينغتون" اللندنية.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شفرات حلاقة صالحة للتدوير -4-
- شفرات حلاقة صالحة للتدوير -3-
- شفرات حلاقة صالحة للتدوير -2-
- شفرات حلاقة صالحة للتدوير -1-
- الأرجنتيني
- بَراشيم
- تعفير ثدي
- المَدْجَنة
- تَواضُع
- الأعمال القصصية الكاملة
- الهَوَائِيّ
- كيتسنغن
- والمسنَّنات تتعاشق
- هنا حجر الجلخ
- بائع الكُنَافَة
- منوعات صفراء
- رسالة انتحار
- أخلاق يسارية
- بسنادا -1-
- الشفرة وأم كريمة


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - شفرات حلاقة صالحة للتدوير -5-