أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول المجتمع العبودي والتطور الحضاري ج- النتائج الدائمة للحضارة الديمقراطية 1-4















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول المجتمع العبودي والتطور الحضاري ج- النتائج الدائمة للحضارة الديمقراطية 1-4


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1452 - 2006 / 2 / 5 - 06:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ج ـ النتائج الدائمة للحضارة السومرية

في النتيجة لقد تعرضت الحضارة السومرية إلى تحولات مذهلة أدت إلى مواصلة نفسها في الكيانات الثقافية التي ساهمت في تكوينها بالذات والكيانات الثقافية الأخرى، واحتلت مكانة مرموقة في التاريخ، بات الجميع يفهم قيمتها جيداً مع مرور الزمن، وقد اثبت في التاريخ بأن السلالة الأكادية لسارغون التي كانت يثقل فيها الجانب السامي الطاغي هو أول مثال للتغيير، وإن اللغة الرسمية والهيمنة الثقافية تمتاز بشخصية سومرية تماماً. ونرى كثافة في بنية اللغة السامية تحت حكم هذه السلالة التي حكمت بين عامي 2350و2250 ق.م. وربما عقد حملة الكوتيي " Guti" ذات الجذور الآرية والهورية اتفاقية مع الأعيان السومريين كرد فعل على ذلك. وهكذا تتكون حالة توازن جديدة وفرصة للتحول، ونرى هنا طغيان الثقافة الإيرانية الإيلامية. لقد تعرضت المنطقة من الشرق والجنوب إلى غزو المجموعات السامية ـ العمورية في الألفية الثانية قبل الميلاد، وبدأت مرحلة دول المدينة والدويلات العمورية بعد انهيار أعيان أور “ur” الثالثة. لقد فقد أعيان حمورابي العموري الشهير والسومريون قوتهم السياسية تماماً في عام 1800 ق.م. وباتت لا تستخدم اللغة السومرية رسمياً، وأصبحت اللغة الأكادية البابلية والتي هي جذر اللغة الآشورية واللغة الكلدانية اللتان مازالتا حتى يومنا هذا، لغة رسمية. وأصبحت لغة الثقافة في الشرق الأوسط عامة اللغة البابلية واللغة الآرامية. لقد تحقق التوازن بين الثقافتين في عام 1600 ق.م بعد الاعتداءات التي قام بها القصيين والميتانيين والحثيين من الشمال والذين ينحدرون من أصول آرية هورية. لكن بقيت ذهنية النظام ولغته بابل والبابلية أيضاً، وبذلك فقد مرت الثقافة الآشورية من المصفاة البابلية، واحتلت مرحلة الآداب واللاهوت البابلي مكانتها الكبيرة في التاريخ، وحدثت نقلة متميزة في الرياضيات وعلوم الفلك، وقام أعيان الآشوريين ـ العموريين في نينوى التي تقع في شمال بابل بتحفيز هذه المرحلة المتقدمة، واجتاحت القيادة الإيديولوجية والثقافية البابلية والقيادة السياسية والعسكرية الآشورية كل مناطق الشرق الأوسط.
لقد تم إكمال التحول الأكادي في العهد البابلي والآشوري في الحضارة السومرية، وانتشر نحو سائر مناطق الشرق الأوسط مباشرة، وإلى المناطق الأخرى من العالم بشكل غير مباشر، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بسبل العنف الإمبريالي، وأن مساهماتها الإيديولوجية والثقافية محدودة، وتم تعليم اللغة السومرية كلغة قديمة مقدسة، ومع ترجمتها باستمرار يزداد تأثيرها في العالم، وتعرضت للاغتراب بعد تجسيد الثقافات المحلية لبعضها البعض، وزال كيان اللغة السومرية من الوجود مع بداية الميلاد.
عندما ننظر إلى مكانة الحضارة السومرية في التاريخ، سنوافق على أنه لا توجد حضارة أثرت بعمق على الإنسانية وعلى مدى طويل كالحضارة السومرية، لأنها امتصت وغذت الإنسانية بين عامي 4000 ـ 2000 ق. م بشكل مباشر، وبين عامي 2000 ـ 500 قبل الميلاد بشكل غير مباشر. ولا يمكن لأية إيديولوجية أخرى أن تعد نظام العبيد من خلال مؤسسات البنية التحتية والفوقية للمجتمع وتجعلها دائمة ومقدسة من خلال الدوغمائية الأدبية، والتوقف على معاني ذلك يتمتع بأهمية بالغة، ومن خلال تحليل الحضارة يجب إظهار ذاك المعنى. وعندما نقوم بتقييم ملموس وبالخطوط العامة، يمكننا التوصل إلى النتائج التالية:
1ـ لقد قامت الحضارة العبودية السومرية على أكتاف القيم الاجتماعية للعصر النيوليثي والتي طورتها الشعوب في منطقة الهلال الخصيب خلال عشرة آلاف عام، وامتلكت التكنولوجيا والعلم الخاص بالعصر النيوليثي عن طريق إقناع نظامها المنتج على الأغلب وعن طريق التجارة أحياناً والعنف في أحيان أخرى، وقامت بتمأسسها على أساس فروع مهنية ومسلكية وحولتها إلى غنى غير عادي ضمن كيانها، لقد جمدت الشعوب والاقليات العرقية للعصر النيوليثي مقابل تصاعد حضارة الرق السومرية، كما هو موقف الإمبريالية الأمريكية حيال الشعوب في عصرنا هذا. لقد قلبت الإمبريالية السومرية الشعوب رأساً على عقب ولا سيما في المرحلة الآشورية، إلى درجة أنه مازال يعاش تأثيرها في الشرق الأوسط وكل العالم، وتحول ذلك إلى إرهاب وإبادة جماعية من جهة، وتثبت بالأرض والخازوق من جهة أخرى، لتترك أثراً لا يمحى من الذاكرة الإنسانية. ولقد تواصلت ممارسات الاستغلال والهيمنة في المجتمع الطبقي على الإنسان حتى يومنا هذا. وإن كان تمارس إبادة الإنسان في حاضرنا بشكل منظم ويتصاعد ذلك بشكل يوازي التطور التقني، فإن هذا الوضع ناتج عن التزام المجتمع الحاضر بالواقع العملي للحضارة الأولى، التي ترسخت في ذاكرة المجتمع وراثياً. قد يوجد للذاكرة الاجتماعية مورثات تتكون باستمرار مثل مورثات الإنسان التي تمهد السبيل أمام نفس الصفة، وتسكن هذه المورثات في ذاكرة المجتمعات اللاحقة وتحدث نفس التأثير. تعيش الطبقة المستغلة حالة ضعف وتراجع في الوقت الذي تتضخم فيه الطبقة الحاكمة. لقد خلق ديالكتيك الظلم والاستغلال بحيث لازال تشتيت هذه العجلة غير ممكناً. إن الإنسانية جزأت الذرة، ولكنها لا زالت بعيدة عن تشتيت عجلة هذا النظام، لا داعي لوجود النقص والزيادة في المجتمع، إذ يمكنه أن يكون متزناً وسعيداً إذا لم يجدا.
لقد أدى هذا الوضع إلى خلق مأساة الإنسان التي تعتمد على الوعي البدائي المختلف عن الحيوان، والحيثيات وخط تاريخي آخر واتجاهات المقاومة والحرية، وتعبر المؤسسة النبوية في جغرافية الشرق الأوسط عن هذا المعنى.
نرى في المثال الأول المثير أن الحضارة تبدأ بسرقة مساواة العصر النيوليثي التي كانت خيال الجنة في ذاكرة الإنسان، والمجتمع الخالي من الحروب وتنحية الآخرين إلى خارج التاريخ وجعلهم دون تاريخ. وتتحول الحضارة تماماً إلى تنين وذلك من خلال تحويل القيم الى ملكيتها وإقامتها تمأسس الدولة، وعن طريق هضمها المجموعات العرقية والأفراد الذين لا يمتلكون المعدات.
2ـ إن خلق الدولة عند السومريين كهوية وخلاصة للمجتمع الطبقي، لهو شيء غير عادي ومثير. وتعتبر الدولة أداة بحيث لا يوجد أي حلم إلا وتحققه تقريباً، ولا يزال ذلك هو الجانب الطاغي للدولة. هناك مقولة للعثمانيين تقول: (( إما ستخضع للدولة تماماً أو احسب انك غير موجود ))؛ يرى الرجل الذي يمتلك الدولة ـ أو القومية التي تمتلك دولة ـ نفسه بأن له الحق الطبيعي في كل شيء وذلك من الله. وهذا يدل على أن معنى الدولة عميقة إلى هذه الدرجة. والمثال السومري الذي أظهر مصدر قوة الدولة هو الأداة المناسبة لتحليل الحضارة، كونه كان المثال الأول والطازج، هناك قوة غير عادية ولا يمكن مقارنتها بالقطاعات الاجتماعية المتبقية خارج الدولة والمجموعات العرقية والفرد، وإن هذه القوة تتجه نحو الكمال دائماً. إن إيجاد الكهنة السومريين لإيديولوجية تكوين الدولة بمهارة، وتكوينهم للذهنية الاجتماعية، والنظر إلى الدولة كنظام إلهي على الأرض من خلال تلك الذهنية هو شيء مثير ورهيب للغاية. تهدف الميثولوجيا والعلوم الإلهية أصلاً إلى خلق مجتمع طبيعي أبدي مقدس، وتكريس السيادة على إنها نظام الطبيعة. وفي الحقيقة فإن السلطة الإلهية هي أعيان الملكية المتصاعدة. لكن قول ذلك بشكل مباشر وتقديمه إلى المجتمع، يزيل مصداقية المقولة من جهة ولا يمكن من أقامتها والاستمرار عليها من جهة أخرى. فالدولة هي في وضع يتطلب تأسيسها وكسبها في الإيديولوجية أولاً. لقد خلقت الدولة عند اكتساب الطابع الإيديولوجي والاتحاد مع تكنولوجيا العصر النيوليثي في حدود الإنتاج الفائض، وعند تحقيق الأول فأنه بالإمكان الحصول على الثاني، ويؤدي اتحاد الاثنين إلى إنتاج ليس له مثيل قبل تلك المرحلة.
من الواضح إن المعبد السومري يشكل الرحم الأساسي للدولة. وهذا يعني إن الدولة ليست التعبير العلمي لعقل الإنسان بل هي التعبير اللاهوتي والدوغمائي له، إنني أقدم تعريفاً جديداً ومنفرداً؛ إن الدولة كحضارة وجوهر هذه الحضارة هي التعبير اللاهوتي للمفهوم الدوغمائي الذي لم يتكون فيه الفكر العلمي في المرحلة البدائية للفرز الطبقي. وتقبع في اساسها دوغمائية الإيمان وليس العلم، وفي إطار هذا المفهوم فإن الدولة ربما هي اكثر أداة خارج عن العصر ولا سيما في أشكالها الكلاسيكية غير الشعبية، وسنرى في الأقسام القادمة بأن أهم الخطوات الهامة والتقدمية التي خطتها أوروبا بهذا الصدد ـ حتى ولو كانت محدودة ـ هي أنها منحت للديمقراطية مكانة في طبيعة الدولة، لكن ذلك لم يتحقق إلا بالنضال والمقاومة المريرة اللذين خاضتهما الشعوب والطبقات والقوميات والأفراد من أجل الحرية. توجد روابط وثيقة بين فكرة واعتقاد الدولة التي تطورت فيها المركزية والإله الواحد وبين فكرة واعتقاد الدولة والإله. وبقدر ما تجعلون الإله قوياً وغير مفهوماً وصاحب جميع الصفات ـ هذه الصفات هي خصائص الحضارة الأساسية ـ ولا يمكن الوصول إليها، فإنكم تجعلون الدولة والأقنعة الحضارية المختبئة فيها قوية وغير مفهومة ومخيفة ولا يمكن الوصول إليها. إن هذه الخصائص هي في الوقت ذاته خصائص الملوك أيضاً. إن جوهر تعليم الملك يكسب هذه الصفات أيضاً، لأن هذا هو ما يليق بممثل الإله. لقد كان الطوطم هوية ملخصة للمجموعات الاجتماعية مثلت قبل المجتمع الطبقي؛ أي بشكل آخر كان نسبها. ولم يكن مخيفاً لعدم وجود طبيعة استغلالية للمجتمع، وهو ليس إلهاً، لقد غيّر الطوطم مكانه من الأرض إلى السماء بعد أن بدأ الصعود إلى منزلة الإله مع تطوير الطبيعة الاستغلالية من قبل زعماء القبائل وتجرد الطوطم من صفة القريب والممكن لمسه وغير المخيف وأكتسب صفة البعيد والمخيف والمحال الوصول إليه، وهكذا بدأت خيانة الفرز الطبقي ضد جوهره.
لا شك أن تحليل الدولة كأداة معتمدة على السرقة والكذب يتضمن نقصاً كبيراً. ولا يمكن شرح ظهورها بهذه الخصائص فقط. إذ تظهر النوعية المتشابكة للمجتمع الطبقي والحاجة إلى تقسيم العمل الآخذ بالازدياد، والمسائل الأمنية، إلى تنسيق مطلق، وإن جعل الطبقة المستغلة الحاكمة نفسها ضرورية بحيث لا يمكن التخلي عنها بقدر ما جعلت الدولة إيجابية، لها علاقة قوية بظهور تلك الحاجات إلى الساحة. إن عدم تحليل الدولة بشكل صحيح ناتج عن خصائص هاتين الطبيعيتين. وهذا ما يمهد السبيل لظهور تحليلات دوغمائية مزدوجة. لقد أصبحت جميع طبقات الدولة بتحليلاتها الإلهية والبيك المقدس وجهاً لوجه مع التحليلات الشيطانية والملعونة المناهضة لها، ان الدولة وفي وضع كهذا تصبح تعبيراً عن الهوية الاجتماعية التي لا يمكن تحليلها للمجتمع الذي مصالحها متناقضة وظهرت جوانبها الناقصة والزائدة. إن انشغال الدولة بالفكر والتطبيق منذ نشأتها وحتى الآن، لم يكن ناتجاً عن فراغ، لأن مصدرها إلهي. لقد تم رفض الإله حالياً في علاقات العلم والطبيعة، لكنها بعيدة عن تحقيق ذلك في المجتمع، بما أن الدولة موجودة فإن الإله أيضاً يتواجد في مكان تواجد الدولة.
3ـ هناك مسألة تتطلب الحل عندما نبحث في الحضارة السومرية. فإن المثيولوجيا وعلم الإله ـ تيولوجية بالإغريقية والإلهيات بالعربية ـ الذي نتج عنهما تحليلات "كارل ماركس" للدولة والنقد على الأقل، لقد قدمت النظرية الماركسية مساهمات قيمة للعلمية، لكن تقييمها للقوة الإيديولوجية الموجودة في جذور الدولة عبارة عن انعكاس بسيط ويعتبر نقصاً جدياً وخطيراً في نظريته، إن مقولته عن الدين بأنه "أفيون الشعوب" وكأنه أمر بسيط وعادي هو أحد الأسباب التي أدت إلى عدم نجاحه، وبرأيي فإن اللاهوت يتطلب تحليلاً بمقدار ما يتطلبه تحليل "النقد" و"الدولة"، ويظهر الواقع السومري ذلك بشكل مذهل، ومن أجل تحليل الحضارة السومرية، عليكم تحليل لاهوتيتها بكل تأكيد.إن علم الإله هو علم النضال الطبقي للسومريين، ولا يمكن تحليل الإيديولوجية السومرية والعالم القديم المستند إليها، دون تحليل الأثر الاجتماعي لعلم الإله بما فيه مصطلحاته ونظرياته، ولا يمكننا حل البنى الذهنية والأدبية للمجتمعات الكلاسيكية والعصور الوسطى وحتى مجتمعات يومنا هذا بدون تحليل الأديان التوحيدية، وهناك في ذهنية سائر المجتمعات اثر دافع للدين.
ولا يمكننا إقامة مجتمع إيجابي يعتمد على أسس علمية دون التنقيب والكشف عن هذا الأثر. وأن النقص والخطأ الكبير في "الاشتراكية المشيدة" والتي فكرت بتحليلها فيما بعد، هو عدم تناولها الميدان التاريخي والإيديولوجي للمجتمع، ونظرتها الأحادية الجانب في تحليلات الدولة. كما لا يمكن شرح الواقع الاجتماعي بشكل كامل بالاعتماد على تحليل "النقد" ورأس المال، بل أن ذلك يؤدي إلى الوقوع في حضن النمط الآخر من المثالية والذي انتقدها كثيراً، تماماً مثل تسليم "الاشتراكية المشيدة" نفسها إلى حضن رأس المال، وكأنه لا مفر من أن يأخذنا الفكر الماركسي الناقص إلى ذلك بسبب النقص الذي حاولنا شرحه.
مثلما ان قوة النمط اللاهوتي للإيديولوجية لا تقل أهمية عن النقد، فأنها ليست أقل من قوة الدولة أيضاً، والأكثر من ذلك، أن جميعها "الثلاثية" متداخلة، وقد لا يوجد في التاريخ كله أي ثلاثي متداخل إلى هذه الدرجة وامتلك إمكانيات تشكيل أكبر قوة موجودة. ولا يشبه ذلك علاقة "الأب والابن والروح القدس" بعض الشيء فحسب، بل هو نفس التكوين؛ فإحداها تسير نحو المادية والأخرى نحو المعنوية، وقد كان هذا الثلاثي ملتحماً عند السومريين، إذ تخلق قوة الدنيا من إحدى هاتين الثلاثيتين، وقوة الآخرة من الثلاثية الأخرى. وكان السومريون، الذين نعتبرهم بدائيين، لا يعتقدون بهذه السفسطة، لكنهم كانوا يعرفون الإفادة منها، لأنهم أوجدوها. وإنه لمن الغريب أن يصبح المفرطون في التعصب الديني والمتعصبون الدينيون، رجال وأصحاب العلم في يومنا هذا. إن إنسان العلم في حضرنا بعيد عن اللاهوت السومري إلى درجة بعد الإنسان السومري عن العلم في يومنا هذا. إن السفسطائية هنا هي إضافية، ولكن الواقعية موجودة في الطرفين. وما من سبيل آخر سوى البحث لإيجاد ووضع كل شيء في مكانه المناسب، ومثلما لا نستطيع تعريف الابن دون الأم، فإننا لا يمكننا تعريف العلم دون اللاهوت أيضاً.
هنا لا يوجد دعوة للاهوت، فالعلم كان مسؤولاً عن عدم منع سقوط ملايين ضحايا الأنظمة الدوغمائية، وأصبح في موقع الساحرة التي ذهبت ضحية سحرها، لأنه لم يستطيع تحليل الدولة والحضارة، إلى جانب عدم تحليله اللاهوت أيضاً. فإذا ما حلل منظروا المجتمع العصري الذين يدعون بأنهم يستندون إلى العلم، جوهر الجوانب المؤثرة والمتداخلة في بعضها البعض لمثلث اللاهوت ـ الدولة ـ النقد، وصاغوا مشاريع اجتماعية انطلاقاً من تحليلاتهم بشكل متوازن، حينذاك قد يصلون إلى أهدافهم ويخلصون أنفسهم من تأثير سحرهم المدمر. إن المواضيع التي سأتحدث عنها في الأجزاء القادمة، تبدو لي هامة جداً.
4 ـ عند تقييم المجتمع الطبقي السومري ضمن مصدر تاريخ الحضارة التي أدى إليها، نرى أن هناك موضوعاً هاماً، وهو تأثيره على العلاقات الموجودة بين العلم والفلسفة والمثيولوجيا والدين. هناك إدعاء يقول: إن العلم والفلسفة قد تطور مع الحضارة وهناك رأي مضاد لهذا الإدعاء، وهناك إجماع عام على إن الاخترعات التي حدثت بين الألفية السادسة والرابعة قبل الميلاد ـ ثقافة تل حلف للمجتمع النيوليثي ـ لا يمكن مقارنتها إلا بالاختراعات والتكنولوجيا التي أوجدت اعتباراً منذ القرن السادس عشر بعد الميلاد. إنه ليس صحيحاً تقييم المجتمع الطبقي كمصدر للاختراعات العلمية والتقنية، بل أن الحضارة السومرية قد أثبتت أن اغلب التراكم العلمي والتقني قد تحقق قبل المجتمع الطبقي وأن الهيمنة الإيديولوجية للدولة قد لعبت دوراً متزمتاً، وإن الاختراعات العلمية والتقنية التي أضافها السومريين إلى هذا التراكم محدودة، وأكثر ما حققوه هو احتكار الزراعة والغنى العلمي والتقني للمجتمع وتكوين الهيمنة الإيديولوجية عليه، لقد جعلوا العلم مثالياً كخصائص الآلهة وكـ لطف "خير" منهم لخادمهم الإنسان وليس كثمرة من ثمار التقنية وعمل الإنسان وتطبيقاته العملية، وأن ذلك لهو أكبر تحريف للتاريخ. إن قوة المغالطة الإيديولوجية التي حققها الكهنة السومريون في تاريخ المجتمع الطبقي ربما لها دور كبير في قيام الدولة وهيمنة الطبيعة الطبقية للحضارة، وربما كان بإمكان العلم والتقنية والفلسفة تحقيق التطور الأسرع والأكبر مع التطبيقات العملية للإنسان في الإنتاج الحر لولا تحويل هذا التحريف بواسطة الميثولوجيا والدين السومري إلى هيمنة إيديولوجية ومغالطة إلى هذه الدرجة. إن المثال السومري التاريخي الأول يكسب الأهمية من هذه الزاوية، وذلك لعدة أسباب: فعندما يكون مستوى الحرية في العلاقات الاجتماعية أكثر ملائمة للإبداع في العلم والتقنية والفلسفة، حينها ينخفض مستوى العلم والفلسفة، أي تلقي المعلومات الصحيحة حول الطبيعة والتحليل العام بشكل جدي كلما تطورت المغالطة الإيديولوجية والضغوطات. يشكل انقطاع أحد القطاعات عن الإنتاج كلياً واستعباد القطاعات الواسعة كقطعة من آلة في المجتمع الطبقي، مصدراً لكل الدوغمائيات الإيديولوجية.
هذا هو الدور الطاغي لطبقة الكهنة عبر تاريخ الحضارة. ففي الوقت الذي يقدمون فيه وسيلة الجنة والجحيم المزيفة والإله الشديد العقاب إلى الإنسان والذي أقحم في المأساة، ويجعلون ذلك اكثر تأثيراً ويضيفون عليه صفة الديمومة، فإنهم يؤمنون لأنفسهم ولقوى المصالح المادية للإدارة والمرتبطة بهم، كل شيء حسب المرحلة وبدون عمل، إن الوسيلة التي يلجؤون إليها من أجل تحقيق ذلك، هو تطوير التصورات الذهنية للهيمنة، أي الميثولوجيا والدين بشكل دائم لصالح النظام الحاكم. ولقد أصبح فئة الكتاب والمثقفين والأكاديميات المتطورة مركزاً للإنتاج بعد أن كانت المعابد تقوم بهذا الدور، وظهور نظام الأكاديميات للفلاسفة في الحضارة الإغريقية الرومانية. ونرى بزوغ النمط الأول للأكاديميات الأدبية "Edduba" في نيبور " Nippur" التي كانت مركزاً ثقافياً عند السومريين. وقد أدى هذا التطور إلى إقامة أول جامعة في التاريخ.
يجب ألا نذهب بأفكارنا من خلال هذا التقييم الى أن الدين يساوي الطبقة الحاكمة أو الدولة، فلا شك أن عدة مفاهيم دينية بدائية كانت مهيمنة على مفاهيم الطبيعة المسيطرة على المجتمع في تلك المرحلة، وخاصة إن المفاهيم الطوطمية القبلية كانت تأخذ المفاهيم الدينية لعهد الأمومة وعهد الأبوة أساساً لها، ويمهد المعتقد الروحاني العام الأرضية الاجتماعية اللازمة لكل أنواع السحر، والتي تحيا بعيدة جداً عن المفهوم العلمي للطبيعة. ومع ازدياد صراع المصالح بعد تطور المجتمع، يزداد انقسام الدين والميثولوجيا لصالح النظام الاستغلالي والحاكم، وتصب طبقة الكهنة الجديدة اللعنة على مفاهيم الدين القديم ولا سيما السحر وتحرمها، وتبشر بعمليتها على أنها ثواب وقدسية، وبالأساس فإن الانقسام الاجتماعي بهذا الشكل يلعب دوراً رئيساً في أساس الصراع القائم بين الشيطان والأشياء، وتظهر الميثولوجيات السومرية ذلك بشكل واضح، إن المغالطة أكيدة بالنسبة لتلك المرحلة، لكن عندما ننظر إلى حاضرنا، ندرك بأنها ذات طبيعة طبقية، وخاصة إن طرد آدم وحواء من الجنة، هو التعبير الميثولوجي لبداية الفرز الطبقي، وتعبيرها الميثولوجي مذهل وشاعري، ولا أرى حاجة لأقتبس القصة، أن صراع قابيل وهابيل يعبر عن المنازعة بين الزراعيون والرعويون.
يتم طرح ضعف موقع المرأة بتعبير ميثولوجي شاعري، وعلى شكل فقدان الآلهة لمكانتها وأهميتها مع مرور الزمن ضمن المجموعة الإلهية "Pantheon" إن المرأة في الأديان التوحيدية والتي تعتبر خطوة إلى الأمام، تحتل موقع جنس مستثمر عثر على وتعبير للأيديولوجية ولاستعبادها في المجتمع، فمن أي زاوية نظرنا إليها نجدها قد انزوت على نفسها وعقدت لسانها وأوصدت فمها، حتى أنه لم يبق أثر من عهد الالهات، وأعلنت المرأة مذنبة لأنها أغوت آدم بالخطيئة الأولى في ماضيها وأصبحت المسؤولة عن ذلك، وتم جعل التفوق المذهل لصالح الجنس الذكري مشروعاً وذا سيادة بواسطة الميثولوجيا والدين النابع منها، لقد سما عهد الرجل على جميع المستويات حتى أضحى الممثل المقدس للدين، ويجري تطوير تاريخ عبودية الجنس بخبث، وعندما ننظر إلى الميثولوجيا السومرية، نرى أن الأب "أنكي" يـطور هـذه المسألـة بطريـقة وفـاق ذكـيـة، لكـن إلـه بابـل مردوخ قـد وجـه ضـربات قـاضـية للآلهة الأم "تياماتTiamet"" وتتمتع ملحمة خلق بابل "Enuma Elis" أهمية كبيرة وهي ذات اتجاهين، فقد توضحت الطبيعة المطلقة للملكية من خلال تشريع حمورابي للقوانين تدويناً، ولها أهمية تاريخية هذا من جهة، ومن جهة أخرى أظهرت القوانين الدينية قواعدها التي لا يمكن معارضتها في الميثولوجية السومرية، وهذا يمثل مرحلة متقدمة في العبودية الطبقية والجنسية وأدت إلى تمأسسها، وفتح الطريق أمام السلطة المطلقة بطريقة منظمة مع الإله، إن سجن المرأة بشكل دائم في بيوت خاصة وبيوت الدعارة وفرض العبودية عليها بعمق قد تحول إلى عملية تمأسس وتشريع.
ففي الوقت الذي تراجعت فيه مرحلة الأديان ذات الآلهة المتعددة، فإن الأبواب في جغرافية وثقافة الشرق الأوسط فتحت على آخرها أمام تاريخ الأديان التوحيدية التي تمثلت بجد الأنبياء إبراهيم الخليل، في الوقت الذي تراجعت فيه مرحلة الأديان ذات الآلهة المتعددة.
عند تطوير هذا التقييم لا يمكن القول أن دور السومريين كان سلبياً، بل يعكس الطبيعة القانونية لتطور أحداث الطبيعة بشكل رمزي حتى لو لم تكن علمية، ولا أريد أن أقّيم فكرة الإله بطريقة طوطمية وصنمية بسيطة ولا أراها هكذا، فإنني على قناعة بأن تحليل النظام الكوني لفكرة الإله الذي يسمو ويرفع إلى السماء ويتفرد مع مرور الزمن، كمرحلة أولية بدائية للنظام العالمي وللنظرية النسبية العامة والخاصة في الوقت الحاضر، سيصبح اكثر صواباً. لكن يجب التأكيد على أن ذلك يعبر بالأساس عن الدور البارز للعلاقات الطبقية. وان التعبير العلمي لعالم القوى الطبيعية والمجتمع الذي هو قسم منه معاً، في تطور دائم. ففي الوقت الذي تسير فيه الحضارة السومرية ذلك لمصلحة الطبقة الحاكمة ضمن خط الدولة الرسمي بالميثولوجيا التي طورتها بقواعد الدين القطعية والمتزمتة اكثر منها، فإن مكانة الفئات التي مصالحها متناقضة وتتنكر لذلك تمتلك دوراً كبيراً في تطوير الفلسفة والمعلومات العلمية، حتى لو وجه لها اتهام من قبل السلطات الرسمية تحت أسماء مختلفة كـ "الشيطان" و "السحرة". إن تقييم التطور الميثولوجي اللاهوتي والفلسفي والعلمي لكلا الطبقتين الاجتماعيتين وبجوانبه التقدمية والمتعصبة وبطبيعته المتناقضة، له أهمية لا يمكن التخلي عنها خلال القيام بتحليل حضاري صحيح.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول المجتمع العبودي والتطور الحضاري ج- النتائج الدائمة للحضارة الديمقراطية 1-4