جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3398 - 2011 / 6 / 16 - 20:33
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
.
أجد أن من الأهمية بمكان تناول العلاقة بين مفهوم الدولة الوطنية والفقه الإسلاموي السياسي, بشقيه السني والشيعي, الذي غالبا ما يتعامل مع مفهوم الأمة بمعناها الدينوسياسي, وما يجر إليه هذا المفهوم من خروج على المشروع الوطني السياسي المتمثل بالدولة العراقية الحديثة, التي تأسست بعد انهيار الدولة الإسلامية المتمثلة بآخر إمبراطوريتها, ألا وهي الدولة العثمانية.
وتبرز إشكاليات العمل السياسي لدى الأحزاب والحركات الدينية من خلال كون هذه الأحزاب والحركات, بكل أطيافها, هي امتداد لفكر الدولة الإسلامية القديمة. هنا يكمن مأزقها الحقيقي. إنه يتجلى في محاولة استخدام فقه قديم لبناء دولة جديدة, حيث وضعتها هذه المهمة في حالة ازدواجية خانقة متأسسة على واقعية التناقض بين قوانين ومناهج الدولة الإسلامية مع تلك التي تتحكم بمجتمع الدولة الوطنية المدنية الحديثة كقضايا أهل الذمة مثلا, التي فرطت, مع أخوات لها, بوحدة الدولة السودانية, وتهدد بنفس الاتجاه وحدة أراضي وشعب مصر. أو تلك التي تقسم العالم إلى دار إيمان ودار كفر كما يبرز ذلك في فكر القاعدة. أو تلك التي تتعلق بقضية النظرة إلى المرأة والقوانين التقدمية التي تنظم حقوقها وعلاقاتها المتشعبة. أو تلك التي تتقاطع وتتضاد مع مفهوم الدولة الوطنية المستقلة المتأسسة على منظومة من الاشتراطات السياسية التي تختلف وحتى تتصادم مع الشروط التي يكرسها الإسلام السياسي لتعريف الدولة وتبويب المجتمع, ناهيك عن ما تؤدي إليه هذه المفاهيم الأممية الإسلاموسياسية من تقاطع مع القوانين والمبادئ التي تحدد العلاقات الدولية وتنظم شؤونها.
وليس هناك وضعا أكثر إزدواجية من ذلك الذي تعيشه أحزاب الدين السياسي في العراق, والتي تعيش محنة المواجهة بين قيادتها للسلطة في دولة ذات مشروع وطني أصلا, وبين طبيعة فقهها السياسي والديني الذي يتقاطع أصلا مع ذلك المشروع عند أهم مفاصله.
إن مغادرة الترف الفكري إلى محنة التطبيق يجعل الحزب أو الحركة في مواجهة صعوبات متدرجة ومتراوحة بين تلك التي يمكن أن يتم التغلب عليها من خلال التعديل والتحوير, وبين تلك التي لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التبديل الذي يجب أن ينال أولا بنيتها الفكرية, قبل أن يتحول متدرجا لمعالجة تداعياتها وانعكاساتها.
وفي مقالة سابقة كنت أشرت إلى أن الأحزاب القومية, وكذلك الماركسية, كان قُدِرّ لها أن تمر بمحنة مشابهة خلقتها حالة التناقض بين الفقه السياسي القومي, أو الأممي الماركسي, حينما تصدرت مؤسسة الحكم في دولة ذات مشروع وطني. فالمشروع القومي العربي في العراق وصدامه مع المشروع الوطني في نهاية الخمسينات, وخاصة بعد انهيار النظام الملكي, كان وضع الأساس لعملية مجابهة عنيفة بين القوى القومية من جهة والقوى الوطنية والماركسية من جهة أخرى. كما كان من الصعوبة بمكان أن لا تواجه الحركة الماركسية حالة الصدام مع المشروع الوطني, لو قدر لها آنذاك أن تقود الدولة, وذلك بفعل ولائها الفقهي لفكرة الأممية التي لا يمكن أن تجد طريقها سياسيا دون الصدام مع قوانين العمل الوطني, وخاصة تلك التي تنظم علاقات الدولة ومصالحها مع العالم وشروط استقلالها وسيادتها.
إن أحد الأسباب الرئيسة لتراجع أو فشل المشروع القومي في العراق هو حالة الصدام تلك, ومحاولة حل الإشكالية من خلال تعويم الوطني لصالح القومي, الأمر الذي أدى إلى صراعات قومية واجتماعية وفي المقدمة منها الحرب مع الأكراد وحالة الصدام مع الإسلام الشيعي السياسي الذي يتحمل أيضا نصيبه في المواجهات الدامية. ولقد كان مقدرا للمشروع القومي أن يتلافى الكثير من العقبات لو أنه حاول المرور إلى القومي من خلال الوطني وليس العكس.
من ناحية ثانية أسس فكر الدولة الوطنية لمفاهيم سياسية وقانونية وأخلاقية منسجمة مع أساسيات هذه الدول, ومحكومة بطبيعة جغرافياتها السياسية بالصورة التي تناقضت مع الجغرافية السياسية للدولة الإسلامية ذاتها, وما ينشأ على أساسها من قوانين تتعلق بالسيادة والإستقلال. لقد خلق ذلك واقعا جديدا يتناقض إلى حد كبير مع الفقه السياسي لتلك الأحزاب, ففي حين تؤمن تلك الأحزاب بجغرافية إسلامية واحدة يقودها فكر إسلامي أممي فإن الفكر السياسي الوطني يتعارض ويتناقض إلى حدود التخوين مع تلك التوجهات.
نرى مثلا أن فكر حركة الإخوان المسلمين في مصر لا يتناغم مع أفكار الدولة الوطنية المصرية, ففي حين تتمدد مرجعياتها بشكل مفتوح لتستلهم دولة الخلافة الإسلامية فإن ذلك التمدد يتقاطع بالحتم مع مشروع الدولة المصرية الوطنية, الأمر الذي يخلق إشكاليات تصل إلى حد الخروج على قيم العمل الوطني وأسسه وأفكاره وبالشكل الذي قد يبوبها في خانة الخيانة من واقع أن هذا العمل يخرج على قواعد العمل الوطني ويتقاطع مع أساسيات بناء الدول الحديثة.
من ناحية فقهية وفكرية يتناغم هذا التوجه ( الإخواني ) مع المشروع الوهابي العابر للأوطان والأقاليم والقارات, والذي عمل ما في وسعه لكي يجعل الساحة الوطنية العراقية ساحة مجابهة مع الإحتلال, لا لغرض إنجازالمشروع الوطني العراقي الرامي لتحرير العراق من الإحتلال وإنما من أجل إقامة دولة ( إسلاموية وهابية ) قاعدتها العراق, بكل ما يحمله هذا المشروع من تقاطعات مع الحاجات الأساسية لمرحلة التحرير, وإعادة بناء العراق على أسس وطني سليمة, وبكل ما يختفي تحت عبائته من مشاريع تغذيها أنظمة مجاورة كالسعودية التي لم تذخر جهدها في الدفاع عن نظامها المتخلف بوجه تجربة كانت تظن أن بإمكانها أن تشكل تهديدا حقيقيا لها. ولذا لا غرابة بعد ذلك أن تتراجع المصلحة الوطنية العراقية تراجعا كاملا ويحل محلها صراع أفلح في تحويل العراق وقضيته إلى مجرد وقود لتغذية مفاعل هذا المشروع المشكوك بنواياه وجدواه حتى على مستوى الشعارات الدينية البراقة التي يجهر بها, ومن ثم فقد كان لهذا المشروع أثرا مباشرا في دعم مشروع الإحتلال أولا, وفي تمرير المشاريع المذهوقومية لتفتيته سياسيا وطائفيا, حيث بدت تلك المشاريع وكأنها حالة دفاع مشروعة عن النفس في مواجهة حركة الإرهاب والإسلام السعودي المذهبي.
في الجهة المقابلة تتغير المسميات فقط لأن فقه الأحزاب الدينية الشيعية التي تتصدر مؤسسة الحكم في العراق لا يختلف عن فقه نقيضها النوعي فيما يخص الدولة الإسلامية الواحدة. الاختلاف غالبا ما يكون في جهة الولاء التي يحددها الانتماء المذهبي, ففي حين يضع الإخوان عيونهم على أنقرة حيث آخر الخلفاء الإسلاميين وحيث التجربة الواعدة لحزب العدالة الإسلامي, وفي الوقت الذي توجَه فيه رواد الفكر الوهابي إلى التواصل مع مرجعية إسلامية تتخطى المرجعية الوطنية حتى لو كان مقرها في الباكستان أو أفغانستان أو السعودية, فإن رواد الفكر الشيعي السياسي المتمثل في أحزاب السلطة لا يتوانون عن إعلان تمسكهم بمرجعيتهم السياسية الإيرانية التي بات لها الكلمة الأولى في تقرير الكثير من القضايا الهامة مثل تشكيل الوزارة وقضية توزيع التحالفات ودرجة القربى مع قضايا بلدان مجاورة وفق قياسات مذهبية كما حدث مع البحرين.
لقد كان الفقه السياسي الإسلامي صالحا أثناء وجود الدولة الإسلامية, لكن حاله الآن, بوجود دولة المشروع الوطني, كحال من يلبس بدلة شتائية في فصل الصيف العراقي الخانق, أو العكس, ولذا ليس مقدرا لهذا الفكر إلا أن يقع في مأزق الازدواجية القاتلة ويسحب الدولة معه. وبينما يمكن للأفكار الأخرى أن تتعدل وللنظريات أن تتحور حتى يمكنها الانسجام مع عالم اليوم والتناغم مع شروط بقاء ونجاح دولة المشروع الوطني فإن الأحزاب التي تأسست على مقدسات دينية لا يمكنها أن تفعل ذلك إلا إذا أنهت علاقتها بالمقدس أو إلتفت عليه.
وبحكم هيمنة الأحزاب الدينية فإن دولة المشروع الوطني العراقي سائرة إلى زوال لصالح دويلات ضعيفة وتابعة لمراكز فقهية إسلامية إقليمية أو دولية متفرقة وفق المذهب على جهة أو العنصر على جهة أخرى.
خلاف ذلك فإن بقاء هذه الدولة على قيد الحياة لا يعني سوى استمرارها حية في خانق الازدواجية المريضة الذي يخلقه وجود دولة المشروع الوطني مع الحزب الديني في خندق واحد.
وفي هذا الخندق.. ليس لك سوى الله يا عراق.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟