جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3390 - 2011 / 6 / 8 - 18:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس هناك من سبيل إلى استيعاب الوعد الذي قطعه نوري المالكي بشأن محاسبة المسئولين خلال مائة يوم إلا من خلال التمعن بما يختفي خلف ذلك التصريح من شؤون ليس لها علاقة مطلقا بنية الإصلاحات ذاتها أو بالقدرة على الإنجاز. وعموما يبدو الأمر وكأنه محاولة إستباقية لرمي الكرات في أهداف الخصوم أكثر منها محاولات جادة, فالمالكي قد أعطى لنفسه دورا أكثر مما يتحمله استحقاقه, وبما لا ينسجم مع مجموع التنازلات التي قدمها لجميع الأطراف من أجل القبول به كرئيس للوزراء.
وفي مقالة سابقة لي, كانت أعقبت تشكيل الوزارة, والتي نشرت في الحوار المتمدن بعنوان " لو كان يدري ما انتصر " قلت إن هذه الوزارة ولدت ميتة وأن رئيسها المالكي بعد قبوله لمجموعة التنازلات التي قدمها لكل القوى قد أصيب بنفس مرض الرعاش الذي كان أصيب به محمد علي كلاي بعد "انتصاره الصعب" على فريزر بحيث يحسب الناظر إليهما اليوم أن الأخير هو من كان انتصر وليس الأول.
الجميع يعلم, والمالكي على رأس هذا الجميع, أن تصريحا ناريا على مستوى إنذار المائة يوم لا يمكن تنفيذ ما جاء فيه إلا من خلال حكومة متماسكة ومتعاونة وبرئيس مطاع, مثلما يشترط بداية وجود نية الإصلاح والرغبة فيه, وكل ذلك لا وجود له الآن في العراق. والمالكي ينسى بعض الأحيان أن وجوده على رأس السلطة التنفيذية هو نتيجة تنازلات كان قدمها إلى جميع الأطراف التي ارتضت بعملية تقاسم السلطة مما جعله رئيسا على نفسه وعلى حزبه وصار بالنتيجة رئيسا شكليا لمجموعة وزارات مؤتلفة وليس لوزارة من قوى مؤتلفة, وجعل الجميع يتطلعون إلى يوم سقوطه لا إلى يوم نجاحه.
لا يكفي أن يكنى المالكي ب "دولة الرئيس" لكي يصدق أنه صار كذلك, بل أن عليه أن يتذكر أن وزارته ما زالت تعاني من نقص جوهري خطير يجعلها غير قائمة لحد الآن, إذ بعد ستة أشهر على إعلان التشكيلة الوزارية مازال المالكي بدون وزير للدفاع وللداخلية وللأمن الوطني, وهي وزارات تتقدم من حيث الأهمية على باقي الوزارات مجتمعة نتيجة لما يعانيه الأمن من أزمات حقيقية. وفي تصريحه المبطن الذي أدلى به حول حملة الاغتيالات التي تعم مدن العراق, أكد على أن تلك الحملة هي جزء من حملة تصفيات بين قوى العملية السياسية ذاتها, لكنه لم يجرأ على تسمية الأمور بمسمياتها, مما يثبت أنه غير قادر على وضع النقاط على الحروف لأن التنازلات التي كان قدمها للقوى السياسية الأخرى كانت جعلته رئيس وزراء بحروف ولكن بدون نقط.
وفي تصريحات كثيرة كان المالكي يؤكد بمباهاة واضحة أنه القائد العام للقوات المسلحة, فهو بالتالي المسئول الأول عن الأمن في دولة تعمها الاغتيالات والتصفيات والتفجيرات الإرهابية وتتم فيها عمليات الهروب الجماعية لإرهابيين معروفين. وحتى بعيدا عن الظن بوجود علاقة لجماعة المالكي بعمليات التهريب تلك فإن الهروب المتكرر لإرهابيين معروفين على هذا المستوى يؤكد من جانبه على أن المؤسسة الأمنية باتت مخترقة تماما وإن السيد المالكي, الذي ما زال يقود الوزارات الأمنية من داخلية ودفاع وأمن وطني وقيادة عامة للقوات المسلحة, يتحمل هو بالتالي المسؤولية الرئيسة عن هذا الخلل الكبير.
ثم تأتي "مجزرة عروس التاجي" لتشير من جانبها إلى خلل كبير في طريقة التعامل مع الملف الأمني, وبالخصوص مع قضية الإرهاب ودماء الشهداء, فثمة ما يشير على أن هناك محاولة للتلاعب بالدم العراقي المسال وجعله أحد أوراق المساومة التي يتم من خلالها الحصول على التغطيات والتنازلات تماما كما لعبت ورقة اجتثاث المطلك وظافر العاني. إذ ليس خافيا أن المالكي ومجموعته, ضمن التحالف الوطني أو عموم الحركة السياسية, باتوا يعانون من عزلة أو انحسار نفوذ جعلهم في موقع الدفاع عن الذات.
من جانبه يبدو التيار الصدري على أبواب مغادرة ركب التحالف الوطني معتقدا أن انسحاب الجيش الأمريكي سيجعله ذا نفوذ أقوى من باقي الفئات الشيعية في وقت بدا الدعوة مكبلا بقيوده الإيرانية والأمريكية كثمن لوجوده على رأس السلطة. ويمكن قراءة المزيد مما يحدث بين أطراف التحالف الشيعي من خلال أزمة المصرف التجاري التي تشير إلى أن العلاقة بين الجلبي والمالكي باتت هي أيضا مرشحة للانفجار من خلال قضية فضائحية تعيد إلى الأذهان فضيحة بنك البتراء الأردني, ولا يمكن البحث عن الطرف المسئول عن اغتيال المدير التنفيذي لهيئة العدالة والمسائلة دون التوقف أمام إمكانية أن تكون هناك بصمات لطبيعة هذا الصراع على عملية الاغتيال.
وتأتي استقالة الدكتور عادل عبدالمهدي لنتنبأ من جانبها على أن المجلس يحاول أن يجد لنفسه طريقا خاصا, وليست هذه الاستقالة سوى تعبيرا عن قراءة مجلسية للأزمة المتفاعلة بين المالكي وحزبه من جهة وبين المرجعية الشيعية من جهة أخرى, التي باتت هي بدورها تدرك خطورة الاستمرار في تأييد وضع لا أمل فيه. وليس غريبا أن المرجعية بدأت تعاني هي أيضا من سلبيات مواقفها المساندة لحالة سياسية تأكد أنها عصية على الإنجاب مما يجعلها بحاجة إلى مراجعة موقفها لكي لا ينحسر نفوذها بين أوساط جماهيرها التي بدأت ترسل إشارات بهذا المعنى.
إن ساحات التعاون بين القوى الشيعية الرئيسة بدأت تضيق, كما أن الأزمة المستعصية بين فريق المالكي والعراقية باتت تضغط هي أيضا لتجعل المالكي يتحرك بين بحر حلفائه من الخلف ونيران خصومه من الأمام, إذ ليس مقدرا أن تتنازل العراقية عن الاتفاق الذي أقر حقها برئاسة مجلس السياسات الإستراتيجية الذي سيضعف من جانبه نفوذ وصلاحيات المالكي إلى حد كبير.
كل هذه الأزمات تجعل المالكي في وضع لا يحسد عليه, وهذه الأزمات كان جرى التنبؤ بها حال قبول المالكي بالتنازلات التي قدمها لحلفائه وغرمائه من أجل الفوز بمقعد رئاسة الوزارة, وفي ظني أن المالكي كان قد خطط لتحجيم تأثير هذه التنازلات بعد أن يفرغ من تشكيل الوزارة, لكن سرعة المتغيرات ونباهة خصومه وحلفائه ورفضهم التنازل عن المستحقات التي جرى الاتفاق عليها قد حرمته تماما من هوامش المناورة وجعلت إمكانات ترتيب التحالفات ضده أمرا متوقعا وحتى مطلوبا.
إن المالكي يجب أن يكون في أول قائمة المُحاسَبين لو صدقنا بقضية الحساب تلك وبإمكانية تحقيقها. ففي خلال المائة يوم هي مدة إنذاره, بدا المالكي, الذي يتقلد بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء مسؤولية ثلاثة وزارات ذات علاقة مباشرة بالأمن إضافة إلى منصبه كقائد عام للقوات المسلحة, بدا مسئولا عن التدهور الخطير الذي شهده الأمن تماما في فترة المائة يوم التي أعطاها للفرقاء السياسيين.
لكن المالكي كما يبدو مستعد للقبول بالحقوق التي ترتبها له مناصبه, لكنه غير مستعد للاعتراف بأن تلك المناصب ترتب عليه واجبات أيضا.
وكما هي العادة عندنا فإن الرؤساء هم وحدهم الذين لا يخطئون.. وكذلك كان صدام حسين.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟