جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3386 - 2011 / 6 / 4 - 17:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يناقش السياسيون العراقيون انسحاب الجيش الأمريكي على أساس ما يمكن أن يخلقه هذا الانسحاب من فراغات أمنية تؤثر على العلاقات بين شركاء, أو الأصح, فرقاء العملية السياسية ذاتها. بهذا فإن طلب التأجيل ليس له علاقة البتة مع الزمن المطلوب لبناء جيش عراقي مقتدر, لأن فكرة وجود مثل هذا الجيش لم تعد قائمة وذلك لانتفاء الدور السياسي العراقي الإقليمي ولأن استعمال القوة خارج أراضيهم بات محرما تماما على العراقيين.
وإلى أن يصير هناك متغير مركزي عالمي أو إقليمي فإن العراق إقليميا سيظل محكوما بمعادلات الضعف لا معادلات القوة. ومع كل هذه التخيلات فإن أشدها ضررا هو ذلك الذي لا يأخذ بنظر الاعتبار أن العراق الجديد هو جديد على الأقل بمقدار ما يتعلق بضعف أو غياب دوره الإقليمي وهشاشة كيانه الوطني المرشح لمزيد من التدهور والانقسام والتشرذم مما ينفي حاجته حتى إلى وجود عسكري ولو متواضع.
حتى عام 2008 وبشكل عام كان توصيف المنطقة الغربية أنها ضد النظام الجديد. قيام الصحوات جاء رد فعل على الممارسات الخاطئة للقاعدة التي تقاطعت مع الإرث الاجتماعي للمنطقة, إما الدور الأمريكي فقد استثمر ذلك التناقض لكي يضبط حركة المنطقة بإتجاه آخر تماما. بين ليلة وضحاها أصبحت أغلب جماهير تلك المنطقة مع الوجود الأمريكي, ليس لغرض الوقوف ضد القاعدة فحسب وإنما لأن هذه القوى تعلم أيضا أن ذلك الانسحاب سيرتب من جانبه تصاعدا في النفوذ الإيراني بشكل يخل بتوازن القوى إلى حد كبير.
وليس من المتوقع أن تتخذ القوى اللبرالية والعلمانية موقفا مناوئا لبقاء القوات الأمريكية. فهي, خلافا لأبرز الأحزاب والتجمعات الأخرى, لا تملك تنظيمات مسلحة من شأنها أن تكفل لها توازنا في ساحة ستتقاسمها بشكل أكيد ميليشيات الأحزاب الأخرى. ويمكن ملاحظة أن أغلب مكونات تجمعات القائمة العراقية خاضع لهذا التوصيف..
من جانبه يكشف الاختلاف على تسمية وزير للدفاع وبعد ستة أشهر على تشكيل الوزارة عن حقيقة الخوف المتبادل من إمكانية أن يلعب الوزير القادم دورا أساسيا في تغيير التركيبة الطائفية والسياسية للجيش العراقي. هذا يظهر بالتالي أن حالة الوفاق والتفاعل السلمي والتفاهم المؤسساتي القائم على سلامة النية وتوفر المشتركات الوطنية والآليات التي تحرسها هي أمور غائبة من الساحة السياسية. وإذ لا يمكن أن يختبر التوافق من خلال الاتفاق على توزيع الوزارات الخدمية, أو تلك التي لا علاقة لها بالوضع الأمني, وإنما هو يختبر من خلال الوزارات الأمنية ذاتها, فإن غياب ذلك التفاهم وتعثر الوصول إليه كل هذه الفترة يؤكد بصراحة على مقدار الهوة الفاصلة بين فرقاء العملية السياسية.
والوضع العراقي بهذا الاتجاه هو هدنة أكثر منه حالة سلام دائم, فالوضع الطائفي على المستوى السياسي الرسمي لم يغادر مطلقا سرادقه الطائفي بما يزيد من كمية المتاريس وعدد الخنادق في الشارع العراقي, كما أن العودة إلى المظاهر القبلية والعشائرية على حساب القانون قد ساهم بدوره في إبعاد العراق عن السير في أي طريق غير طريق التخلف.
على صعيد الأحزاب الشيعية, ما عدا الصدريين, هناك ميل لبقاء القوات الأمريكية ولاستمرار المعاهدة الأمنية التي كان قد جرى التوقيع عليها سابقا. هذا المشهد يخلقه خوف تلك الأحزاب من خطر التيار الصدري وذراعه العسكرية الضاربة الممثلة بجيش المهدي. صحيح أن الأحزاب الشيعية تميل جميعها إلى جانب إيران وتستمد منها كثيرا من مشاهد قوتها, لكن هذه العلاقة لا يمكن لها أن تلغي وقائع الاختلافات المرة بين هذه القوى والتي تساهم في تعقيد المشهد العراقي.
وحده الدخول من البوابة الخلفية سيسمح ببناء رؤيا واضحة لهذه التحالفات, ذلك أن إيران تمسك بخيوط تحريك قوى اللعبة في الساحة الشيعية. لكن التاريخ القريب سيخبرنا أن حزب الدعوة كان الأبعد عن المركز في دائرة التحالف تلك, وأن علاقاته مع إيران لم تكن جميعها إيجابية. كما أن محاولة هذا الحزب لأن يلعب الدور الأساسي في قيادة العراق ستصطدم بميل إيراني ثابت يتقاطع وهذا الدور مما يجعل الموقف بين الطرفين محكوما بعلاقات الشد والجذب وبحقيقة أن التصدي لقيادة أي دور عراقي وطني لا بد وأن يصطدم بالطموحات الإيرانية التي تملك الكثير من خصوصيات الصدام مع المصالح العراقية. لهذا فإن العلاقة مع مؤسسة الحكم تضع الدعوة أمام خيارين كلاهما مر, التمرد على إيران بما يجعله يخوض معركة ليس مؤهلا الآن لخوضها, أو أن يسير بخطوات عرجاء في ساحة وطنية عراقية لا تتحمل الخطوات المتعرجة فيفقد بالتالي دوره ومستقبله القيادي المشروط بدرجات عالية من استقلالية القرار. إن الشد والجذب في العلاقات الإيرانية الدعوجية تحتم على الدعوة أن لا يضع كل بيضه في السلة الإيرانية ويدفعه بالتالي إلى أن يمسك العصا السياسية من الوسط بين طرفين أحدهما إيراني والثاني أمريكي.
عكس ذلك لا يرتبط التيار الصدري بأي علاقة ودية مع الجانب الأمريكي تمنعه من التغريد خارج السرب, ولقد تبين أن الصدريين حاولوا طيلة السنوات الثمانية الماضية أن يقفوا على وسط العصا وذلك لصعوبة مسكها من ذلك المكان. ولسنا مطالبين الآن بتقديم شرح واسع لحقيقة هذا التيار, لكن موقفه الرافض للاحتلال الأمريكي لا يمكن تفسيره خارج ميدان الكسب الفئوي المحكوم بواقعية تنافس موروث لهذا التيار مع الأطراف الشيعية الأخرى على ولاء الشارع الشيعي, مع تأشير التأثير الهام لإصطفافات هذا التيار مع إيران.
وهل أن خطر القاعدة ما زال يشكل هاجسا يستدعي بقاء القوات.. كلا بطبيعة الحال, وليس متوقعا أن يؤدي الانسحاب من جهته إلى تصاعد ذلك الخطر إلى الحد الذي يستوجب بقاءها.
إن الموقف من الوجود العسكري الأمريكي في العراق يصلح لدراسة وضعه السياسي على مستويات مختلفة, ولكن مهما كان الإختلاف في وجهات النظر, فإنه لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن ذلك الموقف بات يكشف عن عجز ذاتي سياسي يصعب حله بدون صدامات قادمة وحاسمة ليس بمقدور الديمقراطية الحيلولة دون قيامها, لأن الديمقراطية لا تقوم بين أعداء وإنما بين أصدقاء قد يختلفون على الرؤى ولكن ليس على المبادئ الأساسية.
وإن الناظر لما يحدث الآن من اتهامات متبادلة بين قوى العملية السياسية لا يعجز عن الإحساس بأن المعركة قائمة فعليا, وإن المطالبة ببقاء القوات الأمريكية من قبل أغلب الأطراف هي محاولة لكسب الوقت أكثر منها تعبيرا عن اتفاق مشترك على جدوى وطنية.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟