أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 3















المزيد.....

الرواية : مَطهر 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3030 - 2010 / 6 / 10 - 07:51
المحور: الادب والفن
    



مِزاجُ صلاح الدين ، كُشِفَ حِجابُهُ بحكاية تشييد القلعة القاهريّة.
وبدءاً يجبُ القول ، بأنّ دافع أبن أيوب لمُغادرة القاهرة ، القديمة ، والإستقرار في سفح جبلها ، المقطم ، ما يفتأ على إلغازه وبالرغم من مرور القرون العديدة : أهوَ وضعه النفسيّ ، كحاكم غريب ، سنيّ ، في بلد كانَ ما يزال عهدئذٍ يذخر بأتباع الفرقة الإسماعيلية ، المَرهوبة الإسم والفعل معاً ؛ أم يقينه بأنّ راحَة البال ستكونُ أوفرَ في حِمَى المقطم ، بما أنه يَنحَدرُ أصلاً من إقليم الجبل ؟
وعلى أيّ حال ، فإنّ الرجلَ كانَ قد بعثَ ، منذ حين ، ببعض رجاله إلى أرباض البلد ، لكي يَختاروا له مكاناً جيّداً ، مُناسباً ، لإقامَة قلعته ، المَنشودة . ولما كانَ هؤلاء ، بدورهم ، من أصل سيّدهم نفسه ، المَوسوم ، فلا غرو أنهم فكّروا ، أولاً ، بذلكَ الجبل المُبهَم ، الكالح الملامح ، المُطلّ على المدينة من شمالها . فحينما عادوا إلى مولاهم حتى يُخبروه بالأمر ، فإنه لم يتردد في اليوم التالي ، على الأثر ، من الذهاب إلى ذلكَ المَوضع بُغيَة مُعاينته عن قرب . لما أشرَفَ على القاهرة من علوّ مَرقاه ، أدرَكَ السلطانُ أنّ هذا المكانَ عصيّ الموقع ، فضلاً عن أنّ مرآه من لدن الخلق ، في الأسفل ، سيكون له تأثيرٌ في النفس، مهيبٌ وغامضٌ في آن . ولكنّ صلاح الدين ، أرادَ قبل كلّ شيء أن يَختبرَ جودَة هواء المكان . وبحَسَب أمره ، وُضِعَتْ قطعة لحم نيئة ، طازجة ، على صخرة صغيرة ، قائمة في الموضع ، المطلوب . وفي طريق الإياب ، لم يَنسَ المرافقون تركَ قطعة لحم أخرى ، طريّة ، بعيداً عن الجبل وقريباً من الحدّ العمراني للحاضرة . وإذاً ، بعد يومين من ذلك ، نقلَ أحدهم للسلطان صلاح الدين نتيجة الإختبار ، العلميّ : فإنّ قطعة اللحم ، الموجودة في سفح الجبل ، كانت ما تفتأ صالحة للأكل ، فيما الأخرى أصابها العفن .
" رائع .. " ، هتفَ السلطانُ بحبور ثمّ أضافَ " موضوع الهواء تمّ حلّه ، وبقي الموضوع الآخر ؛ الذي شغلني حينما كنتُ ثمة في سفح المقطم : فلقد لاحظتُ وقتئذٍ حاجة البلد لسور حجريّ ، حقيقيّ ، يُحيط مركزها وقلعتها ، المَنشودة ، سواءً بسواء ".
يومذاك، لم يكن في خاطر صلاح الدين،على أغلب ترجيح ، أنّ قلعته هذه ، المَطلوبة ، سَيُقدّر لها أن تضحي بنفسها مدينة عظيمة ، قائمة بذاتها ؛ بما كانَ على أخلافه أن يُضيفوا إليها من عمائر على مرّ السنين ؛ وخصوصاً ، في زمن المماليك البحريّة والبرجيّة .

بيْدَ أننا ، اليومَ ، في زمن الأسرة العلويّة ؛ التي كانَ محمد علي باشا قطبها ، الأول .
وها أنا ذا بمواجهة أحمد بك ، المصري ، في اللحظة التي تلتْ إعترافه لي ، بأنه صارَ يَدَ العزيز ، اليمنى ، في الشام الشريف . " وما الداعي ، إذاً ، للمُراوغة والإخبات ما دُمتَ ستعمَدُ ، أخيراً ، إلى كشفِ نفسكَ بنفسك " ، خاطبته في سرّي . لقد بلبلني بشدّة ذلك الخبَر ؛ المُفيد بأنّ القاروط أضحى وكيلَ العزيز ثمة ، في الولاية الشامية . عليّ كانَ أن أتيقنَ ، مُتأخراً على كلّ حال ، أنّ هذا العنكبوت ، الماكر ، قد نسَجَ شباكه حولي بصبر ودقة ومهارة . فما كانَ من مَخرج أمامي ، فكرتُ ، سوى الإستسلام للمقدور أو إنتظار مُعجزةٍ ما . كانَ عليّ ، والحالة تلك ، أن أداهنَ هذا الرجل ، الداهية ، ريثما أعودُ من سَفارتي ، سالماً . وأشدّدُ على الكلمة الأخيرة ، لأني كنتُ وقتئذٍ على ثقة ، بأنّ أيّ شبهَةٍ تخامِرُ البك من ناحيتي قد تدفعه إلى الغدر بي ببساطة ويسر : فأنا هنا ، في القاهرة ، في قبضة صديقه ، الوالي ، ولا سَندَ لي ، أو شفيع ، ما لو صَدَرَ أمرُ التخلّص مني .
" مَبروك ، يا بك . لعمري أنه خبرٌ جدّ سار ، ولا غرو "، هتفتُ لمُضيفي بلهجة محتفية ، مُتكلّفة. ثمّ أضفتُ في الحال ، مؤكّداً : " إنّ صفتكَ هذه ، الجديدة ، ستكونُ عوناً لمجلس العمومية في صراعه مع الانكشارية والصدر الأعظم ". لا أدري ، حقيقة ، ما إذا إنطلتْ كلماتي تلك ، المُطنبة ، على مَكر صاحبنا ، التليد . إلا أنه ، ظاهراً على الأقل ، أبدى سعادته بما قلته، فشكرني مُحنياً رأسه أكثر من مرّة . " حَسْبي ما سَمعته من جنابكَ ، لكي أكون مطمئناً إلى أنّ أصدقائنا في المجلس ، المُبجّلين ، سيكونُ لهم الرأيُ نفسه فينصفون نزاهتي وشرفي واستقامتي " ، قالَ القاروط مُجيباً تحيّتي .
ثمّ ما عتمَ أن بللَ شفتيه ، الجافتيْن ، بطرف لسانه مُمهّداً سبيله للإفاضة بالقول : " وأرجو منكَ ، يا آغا ، أن تقدّر ما سأطلبه منك ، الآنَ ، على قدْر حقيقته . فإني أرغبُ ، مُخلصاً ، أن تشاركني أنتَ أيضاً في هذه المهمّة . فإذا تكرّمتَ بالموافقة ، سأقترحُ اليومَ على الباشا أن تحظى من لدنه بتعيينك بدرجة وكيل ثان لمصالحه. إنّ وجودكَ إلى جانبي ، ولا ريب ، سيُضافر من فرص خدمتنا للمجلس ، كما أنه خدمة لي ، شخصياً ، لن يمكنني نسيانها أبداً " ، تلى القاروط خطبته بتدفق وإلهام .

من جهتي ، واصلتْ ملامحي التعبيرَ عن الغبطة والإمتنان . سوى أن طلبَ البك ، الجديد ، رأيتُ فيه على الفور محاولة منه لتوريطي في مهمّة ، خطرة ، لا يعلم سوى الله خفاياها ، الحقة . على ذلك ، أجبته مُتلطفاً بعد وهلة تردّد : " إنه ليشرّفني ، ولا شك ، أن يَغمرني العزيزُ بهكذا حظوة ، وأن أتعاون مع جنابكَ في وظيفةٍ ساميَة ، تعودُ بالخير على مدينتنا ، المُقدّسة . بيْدَ أني أطلبُ منك ، بدوري ، أن تقدّر دافعي إذا ما رغبتُ بأن يُتاحَ لي مهلة تفكير ، كافية ، لكي أتخذ قراري بهذا الشأن ".
إلا أنّ القاروط ، بطبيعة الحال ، كانَ أدهى من أن يُخدَعَ بما سَمِعَهُ من تبرير . وكأني به قد توقعَ ، سلفاً ، ما سيكونه جوابي على إقتراحه . إذ قالَ لي بسرعة ، ودونما حاجةٍ للتفكّر : " بكل تأكيد ، يا عزيزي . ولكن ، أتمنى منكَ أن تظهرَ رضاكَ أمامَ سعادة الوالي ، فيما لو شاءَ أن يُقدّمكَ لحاشيته بوصفكَ وكيلاً له في الشام . إنّ الأمر ، أؤكدُ لجانبكَ ، مجرّد مظاهر ولا تثريبَ عليكَ ، بالتالي ، إذا ما إرتأيتَ أن تعتذر فيما بعد عن الوظيفة لسببٍ أو لآخر ".
لقد أرضاني ، أعترفُ ، طلبُ البك هذا ، ولم أجد فيه ما يُخالف ضميري . وما لم يكن في حسباني عندئذٍ ، أنّ الماكرَ سبقَ وأوعز للعزيز بقبولي للوظيفة . فما كانَ من هذا الأخير ، إلا أن يُضمّن رسالته ، السامية ، الموجّهة لأعيان الشام ، والتي حملتها لهم بنفسي ، ما يُفيدُ بأني نائبه الثاني في وكالة أعماله . كانت الرسالة ، بطبيعة الحال ، مُغلفة بمهر وخاتم حاكم مصر ، ولم تفتحَ إلا في دمشق ، ومن قبل الشاملي بالذات.

عند غروب الشمس ، كنتُ أجرجرُ قدَمَيّ بأثر خطى القاروط ، المُتمهّلة ، المُتجهة إلى باب القلعة ، الرئيس ، المُخصّص للزائرين من ضيوف العزيز . الحراسُ ، المهندمونَ بملابس الفرقة الأرناؤوطية ، المُميّزة ، كانوا على جانبٍ كبير من اليقظة والصرامة . دققوا في أوراقنا بانتباه ، ثمّ ما لبثوا أن أفسحوا لنا الطريق باحترام وأدب ، بالغيْن . تفعيلة الصمتِ ، كانت مُهيمنة على بيت القصيد هذا ؛ الذي ياما شهِدَ مواكب الملوك والسلاطين والولاة ، الصاخبة ، المُرافقة بالصنوج والطبول والمزاهر والزرنايات.
" إنّ محمد علي باشا ، هوَ أوّل وال ٍ ، عثمانيّ ، يُعيّن حاكماً على مصر برغبة عوامها وأعيانها ، والمُتجليّة برسالة من مشايخ الأزهر للباب العالي "، قالَ لي البك بلهجة احتفالية . ومع أني أبديتُ اهتمامي بكلام الرجل ، إلا أنّ ذكره للرسالة ، ما كانَ ليسعدني في تلك الهنيهة. إذ إنقبضَ قلبي ولا غرو ، حينما تذكرتُ رسالة المير بشير ، المَحفوظة في رقها طيّ حزامي ، والمُوجّهة لصديقه القديم ؛ العزيز .
وكنا الآنَ نصعَدُ ، هوناً ، الدربَ الوعر والعريض نوعاً ، المُفضي إلى فناء القلعة الرئيس ؛ أين يتربّعُ ثمة قصرُ الوالي . ولحظتُ أنّ درباً آخر ، موازياً ، كانَ يعلو دربنا هذا ، ويؤدي ربما إلى المسجد المُنيف . وكان من الممكن لنا رؤية المنائر الرشيقة والقباب الدقيقة ، المُتبدّية من وراء الجدران الحجرية ، الشاهقة ، لذاك الدرب الأعلى . فما عتمَ القاروط أن أشارَ إلى تلك الناحية ، قائلاً : " هوَ ذا المسجدُ الكبير ، الذي شيّد بأمر من العزيز " . ثمّ أضافَ " وفي الجانب الآخر من المكان ، ثمة مسجد آخر بناه السلطان المملوكي ، قلاوون " . وليغفر الله لي ، إذا ما أبديتُ عندئذٍ رغبتي بأداء فرض الصلاة في مسجد الوالي ، وليسَ في مسجد سلفه ذاك ، المملوكيّ : فالحيّ أكثر نفعاً ، ولا ريب ، من الميّت .

ما أن خرجنا من المصلى ، حتى بوغتنا بأصواتٍ هادرةٍ ، يأتي صداها من جهةٍ ما ، بأسفل السور الداخلي . هُرعتُ والبك على الفور نحوَ حرف السور ، وقد دارَ في خلد كلّ منا ، على ما يبدو ، الفكرة نفسها ؛ وهيَ أنّ الوالي في طريقه للقصر ، أو أنّ أحدَ ضيوفه ، البارزين ، قد وصلَ إلى هناك . فلما أطللنا على الساحة الكبرى للقلعة ، شاهدنا حشداً من الجند ، وفيراً ، يؤدي مراسم عسكرية ، معيّنة ، فيما أفراده من مشاة وفرسان ، يتراصفون في صفوفٍ طويلة. وكانَ منظراً رائعاً ، يَجلبُ للنفس الرهبة والبهجة معاً . وكما توقعت ، فتحَ البك فمه ليعلق على ذلك المنظر ، المُنبسط تحتنا : " إنه عرضٌ عسكريّ ، عاديّ ، مثلما ترى . وأعتقدُ أنّ الأمرَ يخصّ قطعات الحراسة ، وتنظيم مناوباتها ، الليلية . ولكنّ هذه الساحة ، ذاتها ، كانت شاهداً من قبل على أهمّ حدَثٍ في زمن العزيز و ... " ، وسكتَ مُحدّثي فجأة عن إتمام جملته . بيْدَ أني ، وبلمحة واحدة حَسْب ، أدركتُ أنه كانَ في سبيله لينطق بمفردة ما ، غير مُناسبة ، بحقّ وليّ نعمته . وهكذا كانَ ، فعلاً . إذ ما لبثَ البك ، مُحرجاً قليلاً ، أن واصلَ جملته تلك بالقول : " أجل ، إنها مَذبحة المماليك . ولا شكّ أنكَ ، يا آغا ، سمعتَ بها قبلاً ؟ ". أجبته بهزة من رأسي موافقة ، فيما كانَ داخلي يُخاطِبُهُ : " وإذاً ، فإنها أفظع حدث ؛ تلك المذبحة . أليسَ هذا ، أيها الماكر ، ما كانَ بودّكَ التعبير عنه ؟ ". وكأني بالرجل قرأ فكرتي هذه . فإنه إستأنفَ حديثه ، مُستدركاً : " لقد سقى العزيزُ خصومَهُ أولئك ، المَشنوعي الصيت ، من كأس الهلاك نفسه ، الذي سبَقَ لهم أن جرّعوه للخلق ". فقلتُ لمُحدّثي ، مؤيّداً : " معكَ حق ، يا بك . لقد قرأتُ ما كتبه الجبرتي ، المؤرخ ، عن المماليك ؛ وأنهم أذاقوا أهلَ مصر من العذاب شيئاً لا يمكن وصفه ، حدّ أنّ الإفرنج لو ملكوا البلد لما كانوا زادوا بغياً عنهم "
" عفارم ، يا عزيزي . إنه قولُ بليغ وصائبٌ ، ما عبّرَ عنه الجبرتي. ولا ننسَ أيضاً، أنّ المماليكَ الترك قد تمكنوا من الإستيلاء على الحكم بوساطة تدبير ، غادر ، ذكّره العزيزُ لأخلافهم فيما بعد " ، ندّتْ عن القاروط ، المُشدد على صفة أولئك القوم . ثمّ إستطردَ مُواصلاً حديثه : " إنّ مذبحة القلعة ، لو نظرنا إليها بتمعّن ودونما أن نأبَه للجاجة توصيفها ، لتذكّر المرء بحادثة تخلّص المماليك ، الترك ، من آخر سلاطين دولة بني أيوب في مصر . إذ غدروا بسيّدهم هذا ، تورانشاه ، بطريقة غادرة وخسيسة ، لما كانَ بصحبتهم في وليمة على شط النيل ، كانوا قد دعوه إليها . فما أن فرَغ السلطانُ من غدائه ، حتى أشهروا سيوفهم في وجهه على غرّة ، فما كانَ منه إلا أن حاولَ النجاة بنفسه عن طريق القفز في مياه النيل . ولكنّ أولئك الترك ، الغادرين ، أدركوه ثمة على الشط ثمّ قتلوه على الفور . ولم يقف الأمرُ عندَ ذلك الحدّ ، فإنهم قاموا بعدئذٍ برمي جثته في خندق تحت سور قصره ؛ هناك في جزيرة الروضة ، ودونما أن يُصلى عليها أو حتى أن تغسلَ ". فما أن وصلَ مُحدّثي في حكايته ، التاريخية ، إلى ذلكَ الفاصل ، الدمويّ ، حتى أجفلَ فجأة .

" آه ، إنّ الوقتَ دَهَمَنا ربما . فعلينا التعجيل بالذهاب إلى ديوان سعادة الوالي "
قالها القاروط وهوَ ينظرُ في الساعة الثمينة ،الإفرنجية المَصدر ، المُتدلّية من كرزته الحريرية بوساطة سلسلة دقيقة ، ذهبية . على إيقاع تلك العجلة ، المَعلومة ، وصلنا إلى مدخل الديوان . وكنا ، لحسن الحظ ، في الساعة السانحة ، المَطلوبة.
هذا المكان ، المُكوّن في عمارته الخارجية، البسيطة ، من دور واحد ، ما كانَ ليوحي بأنه قصر الباشا نفسه ؛ الموروث عن أسلافه من ولاة وملوك وسلاطين . ولا حتى في عمارته ، الداخلية ـ ونحنُ الآنَ صرنا في الرواق الطويل ، المَسقوف ـ لتجعلها تختلفُ نظرة ُ الزائر تلك ، لهذا القصر ، العتيد . إلا أنّ قاعة الديوان ، الفارهة ، التي ما لبثتُ أن وجدتني فيها ، كانَ عليها أن تغيّر من نظرتي للمكان .
" لن تراني ولكن انظر إلى ذلك الجبل " ؛ هكذا خاطبُ الربُّ موسى ـ سورة الأعراف . ولا أدري ، حقا ، لمَ راودتْ ذهني آية ُ الكتاب ، الكريمة ، في نفس اللحظة المُستطيرة ، المُسوّمة بمطيّة مهمّتنا : لقد كنتُ ، إذاً ، أمامَ الرجل العظيم ، الذي يبدو أنّ اسمَهُ السامي ، المُركّب ، باتَ مَصدر بلبلة الباب العالي ـ بله حضوره ، ( العزيز ) ، المَرهوب من لدن عبد الله ، البسيط ؛ الذي يخط كلمات هذا الكناش الفاني .
" أهلاً وسهلاً بضيفيّ العاليَيْ المَقام ، المُبجليْن ، القادمَيْن من الشام الشريف " ، رحّبَ بنا الباشا بحفاوة ، وبلغته العثمانية المَتينة . صحيحُ هذه الجملة ، كانَ عليه أن يَحذفَ معلولَ جملة نفسي ، المُتوجّسة . ولكنها ، في واقع الحال ، سحنة العزيز البشوشة ، السَمِحَة ، من كانَ عليها أن تضافرَ طمأنتي لجانب جنابهِ ، المُكفهرّ السمعة . كانت سحنة حَسَنة الملامح ، تعلوها عينان صغيرتا البؤبؤ نوعاً ، ولكنهما متقدتان بأوار الفراسة والحنكة والمراس . أنفه العاديّ الحجم ، كانَ أقنى قليلاً . وكذلك يمكنُ القول بأنّ فمه ، ذي الشفتيْن الرقيقتيْن ، كانَ على شيء من الوسع : ولعمري ، فإنّ ملامحَ المخلوق لتنبي غالباً بسريرته ـ كما رسَمَها وأرادها خالقه .
" مولاي العزيز ، إنّ خادمكم ليتشرّفَ ، صاغراً ، بحمل رجاء أعيان الشام الشريف إلى جنابكم ، والمُعبّر عنه سعادة المير بشير ، حاكم جبل لبنان ، في رسالته هذه " ، تلوتُ على مَسمَع عزيز مصر ، العظيم ، خطبتي المتواضعة ، فيما كانت الرسالة تلك ، الموسومة ، قد أضحَتْ بين يديه . وأعترفُ هنا ، بأني أعددت خطبتي ، جيداً ، طوال الأيام الماضية . كانَ الباشا عندئذٍ مُستلق فوق طوطيّ وثير ، مُظهّر بالديباج الأحمر ، فيما وُضِعَتْ نمرقة باللون نفسه خلف ظهره . مَلبَسُهُ ، بالمقابل ، كانَ بسيطاً ، بل من قطعة واحدة حسب ؛ طالما أنه لم يكن سوى جلابية أهل البلد ، المَصحوبة بسَرْبوش الرأس ، القاني ، ذي السِمَة الروميّة . على ذلك ، وبخبرتي بعوارض المَرض ، حَدَستُ من فوري بأنّ الرجلَ غير مُعافى : ولا أدري ، مرّة أخرى ، لمَ آذنتني آنئذٍ سحنة كلّ من المَرحومَيْن ، آغا أميني وقوّاص آغا ، حينما كانَ كلّ منهما ، أيضاً ، يتمتعُ بأمسيةٍ ربيعيّة ، حارّة ؛ شبيهةٍ بهذه الأمسية من أوان الصيف القائظ ، المُبكر .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10


المزيد.....




- “برقم الجلوس فقط” الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ا ...
- مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القا ...
- بعد الرسامة الدنماركية.. فنان يتهم مها الصغير بسرقة لوحاته
-  إعلان نتيجة الدبلومات الفنية بجميع التخصصات 2025 في هذا الم ...
- now رابط نتائج الدبلومات الفنية جميع المحافظات 2025 بالإسم ف ...
- “نتيجة سريعة” رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 جميع التخصصات ...
- مايكل دوغلاس يعلن أنه لا يخطط للعودة إلى التمثيل
- “النتيجة بالدرجات”.. رابط نتيجة الدبومات الفنية 2025 الدور ا ...
- كيف لرجل حلم بالمساواة أن يُعدم بتهمة الخيانة؟ -يوتوبيا- قصة ...
- مناقشة أطروحة دكتوراة عن أدب الأطفال عند سناء الشّعلان في جا ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 3