|
الفصل الثالث : مَنأى 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3000 - 2010 / 5 / 10 - 01:42
المحور:
الادب والفن
الشامُ الشريف : مدينة الله ومَهْدُ الخليقة ؛ مَسقط رأس آدم وحواء ؛ موضعُ حَجَر هابيل ، المَدْميّ ؛ منفى إبراهيم ومأثرة هزيمته للملوك الخمسة ، الذين سبوا لوطاً وأهله ؛ مُلتجأ إلياس ، الهارب من جزام القوم ؛ مغارة يونس ؛ رَبْوَة مريم وأبنها ؛ نطعُ يحيى ؛ قدَمُ خاتم الأنبياء ؛ رأسُ الحفيد ، الأعظم . مثوى الأبنة ، المُزهرة : هذا الاعتقادُ ، الراسخ ، أجازَ لنفسه شيخُ الشام ، أبن تيمية ، أن يُبدده في مهبّ مُعتقده ، الخاص ، القائم على نفي مبدأ الشفاعة ، مُطلقاً . إنّ التضرّع لآثار النبوّة ومقامات الولاية ، بحَسَب مذهَب الشيخ ، إن هوَ إلا عودة للجاهلية . فكلّ حَجَر وثنُ وكلّ وثن ضلالٌ وكلّ ضلال في السّعير . " ما كانَ للحجّ أن يكونَ مَبروراً ، بنظر أهل الإسلام ، إلا بالتعريج على مدينة الله " يقولُ الشاملي بيقين . كنا في حجرته النظيفة ، الواسعة نوعاً ، والمُتأنقة أكثر من حجرات جماعته ، بأثاثها كما وبزخارفها . إذ وجدَ فيها سريرٌ ، على الأقل ، بدلاً عن حشية الفراش فوق المصطبَة . كما وأركنَ ديوانٌ ، خشبيّ ، عند الجهة التي تقوم فوقها الكوة ، وقد بُسط فوقه نمرقة وطنفسة . وكانَ ثمة بابٌ داخليّ ، مُواربٌ ، يُفضي لحجرة الوصيفة . قبلاً ، لحظتُ أنّ الزعيمَ كانَ يفضل اصطحابي عبرَ مماشي الحديقة ، ما لو جدّ أمرٌ في ذهنه ، جلل ، ويرغب الإفضاء به . ولكنّ نرجس الآنَ ، في هذا الصباح الربيعيّ ، الألق ، كانت تقضي وقتها في الدور العلويّ ، صًحْبَة أحدى المُدرّسات . وقلتُ للرجل ، حينما وَمَضَ خاطرٌ ، خاطفٌ ، في تعاريج رأسي : " إنّ الشامُ ، إذاً ، هيَ مرآة صغيرة لصورة عالم الإسلام ، الشاسع " " أجل . فلو أنّ عارضاً ما ، مُستطيراً ، منعَ الخلقَ من حجّ الحجاز ، فإنّ الشامَ بديلٌ قائمٌ ، بدلالة قرانها لأرض النبوّة " " وهذا ما حصلَ فعلاً ، حينما استولت جماعة أبن وهّاب ، النجسة ، على الأرض الطاهرة ، وجعلتْ مكة والمدينة حراماً على غيرها من فرق المسلمين ومذاهبهم " ، قلتها وأنا أنظرُ في عينيّ مُحادثي . وكانَ هذا ، على طبع مُتحفظ لا يَحيدُ عنه . فلم يكن ليقبلَ وَصْم أتباع أبن تيمية بالشطط والمُغالاة . إنّ الزعيمَ بنفسه ، على كلّ حال ، من مذهب الحنفيّة ؛ من المذهب المُحتفى ببركته في سلطنة آل عثمان ، منذ أن خلعتْ سلطنة المماليك الشراكسة ؛ الذين كانوا على مذهب أسلافهم الأيوبيين ، الشافعي . وإذاً ، كنتُ أنتظرُ من مُحادثي أن يَعترض على كلامي ، إلا أنه كانَ ما يفتأ صامتاً . إنّ شاغلاً ما ، مُهماً ، كانَ يستأثرُ ولا ريب على فكره .
عندئذ ، عمدتُ لمحاولة النبش في خبيئة الرجل ، عن طريق حثه على المُجادلة . فتوجّهتُ إليه بنبرَة مُتسائلة : " لو كانت مدينتنا ، المُقدّسة ، مرآة لصورة عالم عقيدة محمّد ، أفلا ينبغي أن يكونَ حالها ، راهناً ، هوَ بدوره عكساً لحال هذا العالم الكبير ؟ " . تفكر الزعيمُ برهة ، ثمّ ما عتمَ أن هزّ رأسه موافقاً : " أعتقدُ ذلك . أنظر مثلاً إلى مسألة السلطة : إنّ الشامَ مقسومة ، حالياً على الأقل ، على ثلاثة مراكز آمرة ؛ الوزير والمجلس والقابيقول . وهذا شبيهٌ بحال عالم الإسلام ، اليوم ، المُتنازعة فيه ثلاث سلطنات ؛ العثمانية والفارسية والمراكشية " " هكذا انقسام ، كانَ فيما مضى وبالاً على المسلمين ، لما تصارع على إمارتهم ثلاثة خلفاء ؛ في بغداد والقاهرة وقرطبة . فما لبث أهلُ الصلبوت أن استولوا على القدس الشريف ، وعلى الأندلس من ثمّ " " ولكنّ آل عثمان ، أعزهم الله بنصره ، تمكنوا فيما بعد من استرداد زمام المُبادرة لصالح المسلمين ، فأعلوا بيرقَ عقيدتنا على قلاع الروم وفي قلب مملكتهم " . قالَ الشاملي بفخر . هَمَمْتُ بالتفوّه ، مُجادلاً ، بما كنتُ قد فكرتُ فيه ملياً ، فأسكتني طرقٌ على باب الحجرة ، الخارجيّ . فما عتمَ رأسُ كبيرة الحافظات ، المُجلل بخمار قاتم ، أن أطلّ علينا . " سيّدي ، اُبلغنا قبل قليل بنبأ سيء " ، قالت الكبيرة للزعيم والقلق بَاد على سحنتها الناصعة ، المُكتنزة . تطلع إليها كلانا باهتمام ، فأضافت : " يبدو أنّ فضيلة شيخ الشام ، كما تناهى لعلمنا ، يُجري تفتيشاً في العمائر المستفيدة من الوقف " " وهل سيبعثُ أحدَهم إلى المدرسة ، أم أنه ينوي تشريفها بحضوره ؟ " ، سألها الزعيم . فرجّحتْ المرأة الاحتمال الثاني ، ثمّ دعت ضيفها إلى حجرة أعمالها ، لكي يبحثا الأمر . عندما انصرفت هذه ، التفتَ الزعيمُ نحوي وقال : " إنه مأزق ، ولا ريب " . وأعقبَ بعيد هنيهة صمت : " عليّ أن أختفي ، بأي شكل ، لدى حضور الشيخ " . أردتُ أن أقولَ شيئاً ، وإذا بصوت الآذان ينبعثُ شجياً من منارة المسجد ، المُلحق بالمدرسة . بلا نأمة ، نهضتُ معه في الطريق للمَصلى ، الصغير ، المُخصّص للرجال العاملين هنا . إنّ المسجدَ ، كما الدار برمّتها ، كان وقتئذ بخدمة النساء حسب ؛ من الدارسات والمُدرسات والحافظات .
على أثر قضائنا صلاة الظهر وخروجنا من المَصلى ، توجّه الشاملي لوحده إلى حجرة أعمال كبيرة الحافظات . " إنه سيتناولُ الغداءَ ، على الأرجح ، على مائدتها العامرة " ، قلتُ بسرّي . كانت فرصة جيدة ، بحَسَب ما قدّرتُ ، للذهاب إلى حجرة الصقليّ . فما زال ثمة مُتسَع من الوقت ، من الآن وحتى نهاية فترة القيلولة . عدتُ أمشي تحت سقف الفناء الضيّق ، المُزخرف الخشب والعقود بفنّ عصر آل أيوب ، المُزدهر . هناك ، تكمنُ في جهة الفناء ، القصيّة ، الحجرة الكبيرة ، التي يَشغلها المَملوكان السعيدان . من المهمّ الإشارة هنا ، إلى أنّ كلا من بابيْ حجرتيْ الزعيم والوصيفة ، من تفرّد بقفل ومفتاح . وبالرغم من ذلك ، قرَعتُ على الباب طرقتيْن ، هيّنتيْن ، قبلَ أن أسمَحَ لنفسي بولوج حجرة مماليك آل عثمان . وعليّ كانَ ، في اللحظة التالية ، أن أتسمّرُ على العتبَة مثل جماد حَجَر الحُجْرَة سواءً بسواء . ثمة على المصطبة المُفترشة بالبسط ، والمُعتلية أرضَ الحجرة بنحو نصف ذراع ، كانت تتمدّدُ باسترخاء حوريّة من حوريّات الجنان . " يا إلهي ، إنها نرجس " ، ندّتْ عن داخلي بعظيم الدهشة. نعم . كانت هيَ من جثمَت هناك بشعرها المَحلول ، المَشغول من عقيق ، والمُتداعي بدعَة حتى ركبتيْها ؛ بسحر قسماتها الدقيقة ، المَرسومة بريشة الحُسْن ، الربّانية ؛ بأسْر لحاظ عينيْها الواسعتيْن ، الفيروزيّتيْن . وحينما هتفَ سرّي ، متعجّباً ، باسم الإله ، فكأنني أبصرُ الوصيفة لأول مرّة . ولكن ، أيّ اتفاق قدَريّ ، سعيد ، أن ألتقي الفتاة هنا ؛ أنا من كانَ يُخطط بصبر ورويّة لهذا الأمر ؛ لخلوة معها ، ضرورية ولا شك . " تفضلوا ، يا سيّدي " ، خاطبتني الحسناءُ بلطف وكانت قد أنهتْ توّاً تسْويَة الخمار على رأسها . حركة الستر هذه ، جازَ لها أن تكونَ على غير ذي عجلة . إنها وصيفة ، ولا غرو. سألتها عن صحتها ، أولاً . فأجابتني برقة : " بفضلكم ، يا آغا ، استعدتُ عافيتي تماماً " . إنّ الفتاة تذكرُ يَدَ الحكيم ، الشافية ، فلأذكرها بدوري بحاجتي إليها . فقلتُ لها بغير مواربَة : " كنتُ أبحثُ عن وسيلة ، مناسبَة ، للاختلاء بك " . فرفعَتْ قوسَ حاجبها الأيسَر ، الرقيق ، بعلامة استفهام أكثر منها اندهاش . سكتّ هنيهة ، مُنتظراً ردّها ، إلا أنّ الصمتَ هوَ من يُجيب أحياناً . وعدتُ أقول بنبرَة اهتمام : " لقد حصلتْ أمورٌ على غايَة من الغرابَة ، قبلَ وصولنا لهذا المكان . أعتقد أنك تدركين ما أعنيه ، أليسَ كذلك ؟ " . فمُ الفتاة ، الوَرْديّ البتلتيْن ، بقيَ مُنغلقا على حاله . ولكنّ نظرة عينيْها ، الآسرَة ، كانت إذاك ما تفتأ تفتكُ بما تمسّه من كائن وموجود . " إنني أحاولُ اقتفاءَ أثر سيّدتك ، المفقود . أعتمدُ في ذلكَ على دلالات ، معيّنة ، كانَ من المُفترض بدورها أن تعينني قبلاً على رصد آثار مفقودات أخرى " ، قلتُ لها مُتعمداً التشديد على معميّات الجملة الأخيرة . عندئذ ، حرّك تمثالُ الحسن شفتيه : " ولم تعتقد أنتَ ، أنّ ياسمينة مفقودة الأثر ؟ " ، استهلت الوصيفة القولَ بمساءلة كانت بنفسها جديرة بالتساؤل .
إنها أدهشتني ، ولا ريب ، بتعمّدها أيضاً غريبَ القول ؛ حينما أجيزَ له طرحَ التكلف جانباً ؛ سواءً تعلقَ الأمرُ بمقامي أو بمقام سيّدتها . كانَ بصري مُتعلقاً بعدُ بهذه الوردة ، المُنتمي حُسنها ، كما خلقها ، لحديقة أخرى ، قصيّة ، أبعدَ منالاً على الأغلب من الحديقة الشامية . وكانت شفتاها المُضرّجتان ، الشفافتان ، قد انفرجتا ثانية عن لحن الصوت المُنتمي للسحر نفسه : " لا تعزيم بقادر ، أبداً ، على إعادة الميّت إلى الحياة " . اتسعَ مبلغُ دهشتي ، فطفقتُ أتفكرُ قلقا بحقيقة ما يدور ثمة ، في رأس الحسناء : " ما أمر هذه الوصيفة ، الخرقاء ؟ ولمَ تبغي دفنَ سيّدتها حيّة ً ؟ " ، ساءلتُ سرّي . ولكنني كنتُ أكثرَ تروّ ، لما أجبتها بدون انفعال : " حسنٌ . أنت على ذلك تعتقدينَ بأنّ ياسمينة ، ميّتة . فما قولك بعطرها المَعروف المَشام ، المصنوع من طيوب سبعة ، والذي بقيَ عالقاُ بملبسي ، كما أكدَ لي المَملوكيْن ؟ " . وقالت من فورها بنبرَة أخرى ، ساخرة : " آه ، إنه العطرُ إذاً " . ثمّ استطردَت وهيَ تهزّ رأسها ، علامة على المَعرفة بجليّة الأمر : " فاعلم إذاً ، يا آغا ، أنه سبقَ لي أن لمَستها ، حينما ناولتني ذلك الكناش . فهل عرفتَ ، والحالة تلك ، مصدرَ العطر ؟ " . نعم . إنها تذكرني بحقيقة ، كانت قد غابتْ عن ذاكرتي في خضمّ ما أعتكبَ من غبار الوقائع ، المَهولة ؛ حقيقة ، أنّ نرجس ، ملولة ومروّعة ، كان قد سبقَ لها أن ترامَتْ عليّ ثمة في القبو ، وقبيل مغادرتنا دار سيّدها . بالرغم من ذلك ، فإنني أجبتها قائلاً بتوكيد : " ولكنّ جثتيْن حسب ، من بانَ عنه هيكل الحَرَمْلك ، المُحترق ؛ إنهما جثتا مربّية ياسمينة وخادمتها " " بل إنّ الجثة الأخرى لياسمينة ، المسكينة . لأنّ الخادمة ، كانت قد هربت عندئذ . لقد سبقَ لها أن فعلت ذلك ، مع آخرين من زملائها ، حينما هاجمَ الدالاتية الدارَ " ، قالتها بثقة وأضافت : " ولا تنسَ أننا جدناكَ مَرمياً هناك ، عند باب القبو ، المؤدي للبيت الفوقاني ، وكنتَ تهذي من شدّة الحمّى " . وكنتُ على يقين ، أيضاً ، لما أجبتها : ". إنّ خاتمي ، بدوره ، قد فقدَ هناك " " كانَ الأمرُ رؤيا ، ولا غرو . وحينما تهيّأ إليكَ ، أو لوَهْمكَ بالأصح ، أنّ الخاتمَ سيُنقذ حبيبتكَ فإنكَ خلعته من أصبعكَ وقذفته نحوَ المُستحيل " . يا ربّ السموات العلى . إنها تدعو ياسمينة ، ببساطة ، بكونها " حبيبتي " . ولكن ، أيّ وصيفة هذه ، التي تملك زمامَ الجدل بكلّ لوامع الذكاء والمَعرفة والتبصّر ، تلك ؟ حلّ الصمتُ بيننا ، وعادَ كلّ من المُتجادليْن إلى ربقة أفكاره . من جهتي ، انتبهتُ على شيء من التململ إلى ضيق الوقت ، المُتبقي لخلوتنا . فليسَ ثمة ما يُجزم ، قطعاً ، بأنّ الزعيمَ سيكون على مائدة الغداء مع كبيرة الحافظات . على ذلك ، وجدتُ أنني أضيّع أجلُ هذه الساعة ، الثمينة ، بجدل لا طائل من ورائه . فبادرتُ الوصيفة بالسؤال المَطلوب ، الذي كنتُ قد نقشته في ذهني ، بصبر ، طيلة اليومين الماضيين : " وما قولك ، أيتها العزيزة ، بحقيقة فقداني الكناش ، خلال فترة البحران تلك ؟ ". لقد تعمّدتُ مخاطبة الوصيفة بلهجة صداقة ، لكي تثق فيّ . بَيْدَ أنّ علامة ما ، من تأثرَ ، لم تبن على ملامحها ، عندما أخذتْ تتأملني بهدوء . وأجابتني أخيراً بلهجة غير مُكترثة : " لا أستطيعُ مساعدتكَ بهذا الشأن . ربما أنّ الزعيمَ من هوَ قادر على ذلك ".
إنّ هذه الوصيفة ، الغريبة الأطوار ، تعرف أشياء كثيرة ؛ ولكنها على جانب من الدهاء ، أكثر مضاءً . فلا يجوز إذاً للمرء ، اللبيب ، أن يُقللَ من شأنها لكونها امرأة حسب ؛ امرأة ، ناقصة دين وعقل. على أنّ ما اعتقدتُ أنه زلة لسان من لدنها ، تذرَعتُ به للمضيّ قدُمَاً في جولة من المُجادلة ، جديدة . " قبل رؤيا ممرّ النجاة ، لم أعرف قط أنّ ياسمينة كانت تحبّني . فكيفَ جازَ لك معرفة الأمر ، ما دمت مؤمنة بأنّ لقائي معها ، في الممرّ ذاك ، كانَ أضغاثَ حلم أو بحرانَ حمّى ؟ " ، سألتُ الفتاة مُثبتاً عينيّ بعينيها . فما كانَ منها ، على دهشتي ، إلا إطلاق ضحكة قصيرة ، مُقتضبَة . ثمّ رمّشتْ أهدابَ عينيها بحركة معروفة ، عابثة ، وقالت لي : " أتمْكرُ أنتَ ، يا سيّدي ، على من كانت وصيفة ياسمينة ؟ " . ثمّ أمّحَتْ الابتسامة من شفتيّ الفتاة ، قبل أن تضيفَ بعبوس : " يكفي أنها عهدَتْ إليّ بالكناش ، حينما أحسّتْ بلحظة الخطر ، أو حتى بدنوّ الأجل ، فطلبَتْ مني إيصاله إليك . كانَ ذلك ، أثناء سقوط القنابر على الحيّ ، وقبل وقوع أحداها في نافذة حجرة ياسمينة " . " أنا أثق بك وأعتقدُ أنك تنطقين الحقّ معي . فليس ثمة داع يجعلك تخالفي ضميرك . فأصدقيني القولَ ، أيتها الفتاة العاقلة ، فيما لو كنت تعلمينَ شيئاً عن أمر ممرّ النجاة ، السرّي ، الموصول بالحرملك ؛ وما إذا كانت النسخة الأولى ، الأصل ، من مفاتيحه ، قد وصلتْ بشكل ما ، ليد سيّدتك " . إذاك ، لزمَتْ الوصيفة صمتها بدأب ولم تحر جواباً . كانت قد أخفضت قبلاً من بصرها ، فما لبثت أن رفعته ثانية نحوي . قالت أخيراً بهدوء : " أنتَ أيضاً ، يا آغا ، رجلٌ عاقل . ولقد تساءلتُ دوماً في الأيام الماضية ، وبحيرة ، عما يجعلكَ تصرّ على أسطورة " العذراء " تلك ؛ التي لن تلبث أن تشيع في رؤوس الخلق . أجل ، في رؤوس ينقصها العقلُ ولا ريب " . يا ربّي الرحيم . أتقرأ هذه البنتُ الأفكارَ ، أيضاً ؟ " لندَعَ ياسمينة بسلام ، أحيّة هيَ أم ميّتة . إنّ الوقتَ يضيق بنا ، وعلينا أن نوجز القولَ " ، قلتُ لها . رأيتُ أنها تراوغ في الكلام وتزوغ عن الجواب القاطع ، المَطلوب . فتوجّهتُ إليها ، هذه المرة ، بنبرَة رجاء وأمل : " ما يَشغلني ، وله عندي أهمية عظيمة ، أن أعرفَ مع من اختلتْ سيّدتك في ليلة الأورطات ، ومباشرة ً قبيل لقائي معها . إنّ هذا من شأنه أن يكشفَ حُجُبَ مَعميّات ، مُلغزة ، وأن يُحدّد ربما مصائر من حولك ؟ " . بدا أنّ نرجسَ لم تتوّقعَ سؤالي ، أو أنها استغربَتْ متنه . فما لبثتْ أن سألتني بدورها وبلهجة فاترة : " أأنتَ على ريبة بكون ياسمينة ، فيما مضى ، متعلقة القلب بشخص آخر ؟ " " أجل ، إنها حقيقة لا مراء فيها " ، قلتُ لها وأضفتُ بلا تروّ " وإلا فكيفَ ستكونُ ياسمينة ، حبلى ؟ أجيبيني أنت ، يا من تهزئين بأساطير الأولين ؟ " . ما ارتسَمَ على شفتيّ الوصيفة عندئذ ، كانَ يُشبه ابتسامة مُنتصرَة . فما كانَ منها ، على الأثر ، إلا أن هبّتْ مُنتصبّة على قدميْها وراحتْ تخطو جيئة وذهاباً في أرجاء الحجرة ، المستطيلة الشكل . إنها حركة ، ولا ريب ، تنتمي للرجولة . فلنرَ ، بعد كلّ شيء ، كيف تشحذ قرينُ الرجال هذه نصلَ دماغها . توقفتْ نرجس في منتصف الغرفة ، وتوجّهت إليّ بلهجة غامضة : " إنّ خبَرَ ياسمينة ، لو علمتَ ، كانَ محفوظاً في ذلك الكناش . كانَ عليكَ ، يا آغا ، ألا تفرّط فيه ، أبداً " . باغتتني كلمتها ، المَنطوقة كما لو أنها وَعيدٌ أو نذير . فسألتها من فوري بجَزع : " فأنت قرأته ، في هذه الحالة ؟ " " لا ، لم أفعل ذلك . كانَ الكناشُ بمثابَة وصيّة ، أو على الأقل ، أمانة أحملها لشخص كنتُ أعرفُ أنّ أختي ... " . قالتها الفتاة ثمّ سكتت ، فجأة ، وقد أحمرّتْ كليّة ً . آه ، إنها زلة لسان أخرى . ولكن ، ماذا كانت تريدُ نرجس أن تقولَ ، وأيّ أخت هذه في آخر المطاف ؟ عند ذلك ، رأيتُ أنّ وصيفتنا فارقتْ موقفها ، المَعلوم ، لكي تخطو من جديد نحوَ مكانها الأول ؛ نحو المصطبَة الحجرية ، المكسوّة بالبسط ، البسيطة . فما عتمَتْ أن استرختْ بجسَدها إلى جانب ، بإعياء وإرهاق . من هناك ، إذاً ، من عل ، كانت ما تفتأ ترشقني بنظراتها ـ كما لو كنتُ مُذنباً ، بشكل ما ، تجاهها . نعم . كانت نظرات صارمَة ، جَهمَة ، لا تتأتى سوى للسادة . آنئذ حسب ، نطقتْ نرجس كلماتها ببطء وتؤدة : " أنا لم أكن وصيفة ياسمينة ، سوى مَظهراً فقط . فقد كانت هيَ ، في واقع الحال ، أختي من أبي " .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
-
الرواية : مَهوى 4
-
الرواية : مَهوى 3
-
الرواية 2
-
الرواية : مَهوى
-
الأولى والآخرة : مَرقى 13
-
الأولى والآخرة : مَرقى 12
-
الأولى والآخرة : مَرقى 11
-
الأولى والآخرة : مَرقى 10
-
الأولى والآخرة : مَرقى 9
-
الأولى والآخرة : مَرقى 8
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
المزيد.....
-
الخرّوبة سيرة المكان والهويّة في ررواية رشيد النجّاب
-
-عصر الضبابية-.. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوط
-
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: -كلمات مسهمة- في الطب والشعر
...
-
بن غفير يسمح للمستوطنين بالرقص والغناء أثناء اقتحام المسجد ا
...
-
قصص ما وراء الكاميرا.. أفلام صنعتها السينما عن نفسها
-
الفنان خالد تكريتي يرسم العالم بعين طفل ساخر
-
رابط شغال ومباشر.. الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025
...
-
خبر صحفي: كريم عبدالله يقدم كتابه النقدي الجديد -أصوات القلب
...
-
موسيقى للحيوانات المرهقة.. ملاجئ الولايات المتحدة الأمريكية
...
-
-ونفس الشريف لها غايتان-… كيف تناول الشعراء مفهوم التضحية في
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|